السبت 23 نوفمبر 2024
فن وثقافة

حين يساهم فن صناعة المجسمات في توثيق وتحصين حضارة وتاريخ وتراث التبوريدة المغربية

حين يساهم فن صناعة المجسمات في توثيق وتحصين حضارة وتاريخ وتراث التبوريدة المغربية الفنان التشكيلي العربي القشيري مع مجسمات مختلفة من ابداعاته

استضافت جريدة "أنفاس بريس" الفنان التشكيلي الأستاذ العربي القشيري ليحدثنا عن بداية ولعه وتعلقه بفن صناعة المجسمات المصغرة في مرحلة الطفولة، بعد أن قضى نحو 34 سنة ممارسة فعلية للفن التشكيلي بجميع شعبه ومواده، وخبر الميدان مدة خمس سنوات في التكوين في مجال الفنون التشكيلية، حيث يعد اليوم الأستاذ العربي القشيري من أبرع مصممي إكسسوارات مختلف الكرنفالات والملابس، دون أن يغفل جانبا مهما من ولعه بصناعة فن المجسمات المصغرة والكبيرة التي ابتلي بها منذ نعومة أظافره، فضلا عن إتقانه صناعة الدمى العملاقة.

 

ومن المعلوم أن الفنان العربي قد تخصص أيضا في انجاز ديكورات الخشبات المسرحية، وخشبات العرض. وفي هذا السياق نقدم للقراء والمهتمين بهذا المجال عصارة لقاء الجريدة مع الفنان العربي القشيري من أجل تعميم الفائدة.

 

بدايات الولع بفن صناعة المجسمات المصغرة والكبيرة

أوضح أستاذ الفنون التشكيلية المبدع العربي القشيري، وهو بالمناسبة مصمم إكسسوارات الكرنفالات، ومهووس بصناعة المجسمات الكبيرة والمصغرة، بأنه منذ طفولته كان ميالا جدا أثناء فترات اللعب مع أقرانه في الحي الشعبي إلى المحاولات الأولى في صناعة بعض المجسمات المصغرة، التي تحاكي مجموعة من الألعاب الطفولية التي كان يفضل اللعب بها في الصغر مع الأطفال، حيث كان شائعا حينئذ اقتناء مجسمات بلاستيكية بثمن بسيط من دكان الحي، والتي كانت عبارة عن أجسام حيوانية أو بشرية مصنوعة بقوالب تشبه الجنود والعساكر من مادة البلاستيك، وكان كل واحد من الأطفال يضع جنديه البلاستيكي كهدف يرميه الأطفال المتنافسون بالحصى الصغيرة، وحين يتم الانتصار على جنود الغير عند الإصابة والسقوط ميدانيا يتم إعادة العملية مرة أخرى.

 

مجسم ميدان الحرب يلهم خيال الطفل العربي

هكذا استهوت اللعبة الجميلة الطفل العربي القشيري رفقة أصدقائه في الحي، وتملكته عوالمها الخيالية، فعشق لعبة مجسم ميدان عمليات الجنود والعساكر التي تتم وفق تعليماته الفنية المتحكمة في تفاصيل اللعبة، فقرر أن يصنع مجسما مصغرا من الكرتون، يشبه أرضية ميدان الحرب، وأثثه بقليل من مادة الرمال والحصى الصغير، وأنشئ مجاري الوديان والأنهار التي تحيط بجنابتها الأشجار والنباتات بمختلف أشكالها الطبيعية، ولم يفته أن يهندس في ميدان المجسم مشاهد الهضاب ومرتفعات من قمم الجبال، بعد أن اختار مواقع الجنود الذين يحرسون أماكنهم بتهيب ويقظة.

 

مجسمات تحاكي الثقافة الشعبية للمجتمع المغربي

هكذا انطلقت تجربته الفنية وولعه بصناعة المجسمات المصغرة، حيث تعددت مواهبه وتفجرت طاقته وملكاته في اختيار صناعة مجسمات واقعية أخرى تحاكي حركة المجتمع المغربي في بعدها الوطني إلى جانب تفتق عبقريته الفنية لإنتاج مجسمات تحاكي الطبيعة وملاحم بطولية مغربية خالدة وغيرها من المجسمات التربوية والاجتماعية والبيئية.

 

مساهمة مجسمات الفنان العربي في صناعة فرحة أخواته

في المرحلة التعليمية الثانوية اختار الفنان العربي القشيري بقناعة أن يتوجه نحو تخصص شعبة الفنون التشكيلية، لكنه ظل متمسكا بصناعته الفنية لمجسماته المصغرة السهلة والممتنعة، تلك المجسمات المعبرة عن الحياة الجميلة والبسيطة المتدفقة من الوسط الاجتماعي والأسري، خصوصا أن أخواته الصغيرات كن في حاجة ماسة إلى اكتساب مجسمات للعب على سطح البيت خلال عيد عاشوراء، من قبيل مجسمات البيت الصغير بكل تفاصيله، والمبطخ وأوانيه، والحديقة ونباتاتها وأغراسها، وأشياء أخرى مثل الدمى والعرائس، كل هذه المنتوجات كان يصنعها بأنامله اعتمادا على مواد بسيطة يقوم بتدويرها، مثل أوراق الكارتون والثوب والقصب والأغصان...إلخ، كل هذه الأعمال في مرحلة التعليم الثانوي وما تلاه من مراحل تعليمية، اعتبرها ضيف جريدة "أنفاس بريس" تحولت إلى أفكار وقناعات فنية ترجمها وطورها إلى أعمال فنية راقية بكيفية من الكيفيات.

 

أول مجسم يوثق لملحمة المسيرة الخضراء

عن أول عمل فني اشتغل عليه الفنان العربي القشيري كان مجسما مصغرا للمسيرة الخضراء، حيث تفنن في رسم خريطة المغرب وضع فوقها أشخاص حاملين صورة الراحل الملك الحسن الثاني يعتمر الطربوش الوطني والجلابة المغربية الأصيلة باللون الأبيض، وأثث المجسم برايات الوطن، ومصحف القرآن الكريم، وكان عملا فنيا توثيقيا يؤرخ لملحمة بطولية قام بها الملك والشعب.

 

مجسمات توثق لتفاصيل مواسم التبوريدة بكل تفاصيلها الدقيقة

عن سؤال إبداع المجسمات المرتبطة بالتراث اللامادي والمادي، أكد الفنان العربي أنه قرر أن يشتغل على موروث الثقافة الشعبية واختار في البداية العمل على مجسمات خاصة بتراث وفن التبوريدة المغربية، خصوصا أنه كان مرافقا لوالده بشكل منتظم أثناء تنظيم أعراس الدوار والقبيلة، وأيضا إلى مواسم التبوريدة ليستمتع بتقاليدها وعاداتها وطقوسها الجميلة، مما رسخ في ذاكرته وذهنه كل تفاصيل تلك المشاهد التراثية المبهرة.

 

فكان القرار اجتماعيا وثقافيا وفنيا على مستوى تجسيد مجسم مصغر لتراث التبوريدة الذي أصبح اليوم تراثا غير ماديا معترفا به من طرف منظمة اليونسكو، كعلامة تراثية وعنوانا من عناوين تثمين التراث اللامادي المغربي، حيث ابتكر مجسما غاية في الدقة والإتقان وهو يستحضر في الأجزاء البسيطة من تفاصيل مشاهد الشجعان الفرسان بزيهم التقليدي، والخيل والبارود ومعمار وهندسة الزاوية والضريح والولي الصالح ثم خيم "لوثاق" التي تؤثث جنبات محارك التبوريدة.

 

مجسم التبوريدة يثمن ويحصن الصناعة التقليدية ذات الصلة بالتبوريدة

واعتبر الفنان العربي القشيري أن الترافع عن تثمين وتحصين التراث المغربي وخصوصا على مستوى "التبوريدة" هو واجب وطني لكل مثقف مغربي اختار جنسه الأدبي والفني سواء بالريشة أو الرواية أو القصة أو الموسيقى والسينما والمسرح إلى جانب الفنون الجميلة طبعا، حيث يؤكد على أنه اختار في صناعة مسجم التبوريدة التركيز على تفاصيل اللباس التقليدي الأصيل، ثم اشتغل على أهمية السّرج المغربي الأصيل حتى لا يمسه التشويه كمرجعية في الصناعة التقليدية الأصيلة، في علاقة مع كل مستلزمات الفروسية التقليدية.

 

معرض محلي في انتظار إدراج المجسمات في هذه الأروقة والمعارض الفنية

ومن المعلوم أن ضيف الجريدة كان قد نظم معرضا محليا في محج الرياض، بتنسيق مع الجماعة المحلية الرياض أكدال، لكن للأسف لم يسبق للأستاذ الفنان التشكيلي العربي القشيري أن شارك في معارض وطنية تعنى بتراث التبوريدة المغربية، من قبيل منافسات جائزة الحسن الثاني بدار السلام بالرباط أو بمعرض الفرس بالجديدة، من أجل تقديم وعرض منتوجه الفني الرائع للزوار والضيوف والشباب، على اعتبار أن المجسمات المصغرة لتراث وفن التبوريدة قادرة على تمرير رسائلها الفنية والجمالية، وأن تساهم بشكل أو آخر في ترسيخ عادات وتقاليد وطقوس التبوريدة لدى الجيل الحالي والشباب بصفة عامة.

 

ويتطلع الفنان العربي القشيري إلى أن يشتغل بجانب الجهات الوصية على تراث التبوريدة، من أجل الاشتغال على مجسمات تؤرخ للفروسية التقليدية، خصوصا وأن "رؤية 2030 لتراث التبوريدة" التي تم توقيعها بين عدة شركاء تتضمن إنشاء متحف وطني يضم كل ما يرمز لقيمة تراث التبوريدة سواء كان مكتوبا أو مجسما أو منحوتا ومرسوما، على اعتبار أن الإقبال على المتاحف ومشاهدة المجسمات والحديث عنها وتفسير مضامينها تسهل التلقي لدى التلاميذ والشباب والزوار لاستيعاب مكانة التراث اللامادي بجميع روافده التاريخية.

 

مجسمات تساهم في تدوين فترة المقاومة الوطنية ضد المستعمر

من جهة أخرى فقد اشتغل الفنان العربي على مجسمات مصغرة وكبيرة، بأفكار جديدة تروم السفر عبر الزمن، لتقريب مجموعة من المفاهيم التاريخية والعلمية والطبيعية التي تساهم في الدفع ببرامج التعليم ومقرراته العلمية، من قبيل الحروب التاريخية دفاعا عن القلعة من القراصنة، وحماية الثغور المغربية، حيث ينطلق من عملية وضع التصور العملي لتشخيص واقعة معينة أو حدث وطني. وفي هذا السياق يشتغل الفنان العربي على مسجم للمقاوم علال بن عبد الله ليوثق عملية محاولة اغتيال دمية الاستعمار الفرنسي بن عرفة، طبعا بعد دراسة الحدث بشكل جيد في سياقه التاريخي.

 

المجسمات وسيلة بيداغوجية تعليمية لفهم علوم الحياة والأرض

وعن سؤال بخصوص استعمال المجسمات في التدريس وإدراجه ضمن المقررات التعليمية كوسيلة مهمة لتلقي المعلومة بسلاسة، أوضح بأنه اشتغل مؤخرا بجانب أحد رجال التعليم المتخصص في شعبة علوم الحياة والأرض، بمؤسسة تعليمية من أجل صناعة مجسمات علمية وطبيعية ترتبط بحقبة الديناصورات من خلال سفر عبر الزمن، من أجل توضيح بيئتها وطريقة عيشها وكيف كانت حياة الديناصور البرية في تلك الحقبة، ثم الوقوف على أسباب الإنقراض ـ سقوط حجر النيزك، الفيضانات، والطوفان والبراكين ـ وقد خضعت تجربة صناعة المجسم لأبحاث علمية أنتجت ثلاث مجسمات بقياس متر على متر ونصف، كانت حقيقة ناجحة بامتياز على مستوى العملية التعليمية.