ترددت قليلا قبل أن أكتب في موضوع البؤساء، نظرا لقتامة الوضع الاجتماعي، واختيار عنوان البؤساء يحيل إلى الرواية الشهيرة للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو "البؤساء" (Les Misérables).
وما حكاه فيكتور هوغو في روايته في القرن التاسع عشر ما زال حاضرا في عالم اليوم. فالبؤساء موجودون في كل مكان وزمان، فهناك بؤساء صنعتهم الحروب، وهناك بؤساء صنعتهم الأوبئة والمجاعات، وهناك بؤساء صنعتهم الكوارث الطبيعية، وهناك بؤساء صنعتهم الاستعمارات، وهناك بؤساء صنعتهم السياسات والحكومات الفاسدة.
وقبل التطرق للموضوع نشير إلى ما ذكره الكاتب الفرنسي/الأمريكي غي سورمان Guy Sorman في أحد دراسته بخصوص المغرب حيث قال: "إنه غداة الاستقلال في ستة 1956، كان المغاربة فقراء ولكن لم يكونوا بؤساء. كانت الفوارق الاجتماعية أقل، وكانت الآمال كبيرة". لكن هناك سياسات ما بعد الاستقلال دفعت الى هذه المواقع المتقدمة من البؤس.
وللغوص أكثر في تحليل واقع البؤس الاجتماعي الحالي في المغرب سأحاول الإجابة عن الأسئلة الحارقة التالية التي تحيرني يوما يعد يوم: فكيف ظهر البؤس في الشوارع؟ ومن المسؤول عن زراعة البؤس؟ وكيف السبيل لوقف تمدده؟
يرجع ظهور بؤس الشوارع في المدن المغربية إلى أسباب كثيرة، منها: تنامي الهجرة وتفكك الأسر وصعوبات اقتصادية وضعف تدخل الدولة.
فخلال ثمانينات القرن الماضي تسارعت وتيرة هجرة المغاربة من الريف إلى المدن بعد موجة الجفاف التي شهدتها البلاد، ونزحت أعداد كبيرة إلى المدن الكبرى، وإلى الدار البيضاء بشكل خاص بحثا عن حياة أفضل. غير أن هذه الهجرة لم يواكبها تحديث وتوسيع الخدمات الضرورية، بل تفاقمت الأزمة مع تزايد أعداد القادمين إلى المدن وعجز الخدمات الاجتماعية الأساسية عن استيعاب التدفق البشري. فانتشرت ظاهرة المتسولين والمتشردين والمجانين بشكل غير مسبوق ينامون في الشوارع يفترشون أرضها ويلتحفون سماءها. من هؤلاء المهمشين من هو عدواني ومنهم من هو مسالم.
كما أن الحكومات المتعاقبة عجزت عن إيجاد حلول لمشكلتي الهجرة والبطالة، فبقيت خطواتها ضعيفة، وعجزت عن توفير شبكة أمان اجتماعية فاعلة، فيما بقيت خدماتها الاجتماعية من صحة وتعليم وشغل وضمان محدودة. وكانت نتيجة ذلك، معدلات فقر مرتفعة، فتراكمت المشاكل وتفاقمت مع الحكومة الملتحية -(20112021).
وهكذا، عرف المغرب خلال تلك العشرية قفزة على جميع الأصعدة السياسية منها والاقتصادية وفي مجالات الصحة والتعليم والتوظيف والتقاعد ... إلخ، لكنها للأسف قفزة نحو الخلف، فلا المريض أصبح يلج المستشفيات بسهولة وبالمجان ولا الموظف تحسنت أوضاعه وخفت أعباءه، ولا الشباب وجد فرص شغل تكفل له العيش الكريم.
إضافة إلى ذلك، تفكك الأسرة المغربية وتغافل الحكومة عن دعم الفلاح الصغير وتحسين الخدمات في القرى والبوادي، مما أدى إلى ارتفاع الهجرة نحو المدن بحثا عن مستوى معيشي أفضل.
وما يزيد من القلق اليوم هو تحول الفقر إلى بؤس ينال من شرف عدد من المغاربة، ويدوس بأقدامه على سمعتهم في الشوارع، والمعنيون بالأمر من حكومة ومعارضة ونشطاء وخبراء وأحزاب ونقابات يتنازعون فيما بينهم للحصول على أكبر قطعة من كعكعة المناصب والمال والجاه. والحصيلة تراكم الثروة في جهة واحدة وتراكم البؤس في الجهة الأخرى. وهذا هو الواقع الذي يعيشه كثير من المغاربة اليوم!
للخروج من النفق، المطلوب أن تحرص الحكومة الحالية على الاستمرار في الاستثمار في الإنسان مثل سائر الدول، ورعايته والارتقاء به من خلال السياسات الاجتماعية المختلفة، والتي يجب ان تعتمد نهجا متكاملا يهدف إدماج الفئات الضعيفة وتلبية احتياجاتها، وبناء قدراتها وتنمية إمكاناتها، بما يحقق العدالة الاجتماعية والحماية الاجتماعية.
ختاما، متى ستدرك الحكومة أن الفقر هو آفة العصر وهو السبب الرئيس للبؤس والجهل وانتشار الجريمة والرذيلة في المجتمع ومتى تدرك أن مقاومة البؤس هي الأولوية والاستراتيجية، فلا أمن ولا أمان ولا نهضة ولا تطور مع استمرار مأساة بؤساء الشوارع.