عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، صدرت مؤخرا الترجمة العربية لنصوص الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر تحت عنوان: "التقنية، الديمقراطية، حوار الثقافات. محاضرات". تمت الترجمة من الألمانية للعربية من طرف د. حميد لشهب، الباحث المغربي المقيم في النمسا، الذي يقول في تصديره لهذه الترجمة: "ما حفزني على الإهتمام المكثف بفكر هانس كوكلر ومواكبة إنتاجاته الفكرية والفلسفية منذ أكثر من ربع قرن، هو أولا وقبل كل شيء طريقته الفينومينولوجية في معالجة مواضيع الفلسفة السياسية والقانونية، أي تطبيقه لمنهج هذا الإتجاه الفلسفي على السياسية العالمية، وخروجه باستنتاجات نقدية، تضع مبدأ الهيمنة والمركزية الغربية موضع تساؤل، بل تعريها من كل الأقنعة التي ترتديها، باسم "التقدم" و"العدالة" و"حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" إلخ في تعاملها مع ثقافات وحضارات شعوب غير غربية. وقد أدى هذا إلى دفعه لاتخاذ مواقف واضحة اتجاه قضايا الشعوب "المغلوب على أمرها"، ومنها بالخصوص الشعوب العربية، بمنطق الفيلسوف الملتزم، على خلفية فلسفة إنسانية واضحة في كتاباته، لا تعتبر التنوير الغربي وحده مصدرها، بل كل تراث الإنسانية". ويقول هانس كوكلر في مقدمته: "بعد بضع سنوات فقط - مع إطلاق باراديغم "صراع الحضارات" - أثبتت المواضيع التي ركزت عليها (الحوار أو التأويل الثقافي والديمقراطية) وجودها كمجالات الإشكالية الحاسمة في العلاقات بين العالم الغربي والإسلام. فقد تم تصوير "النظام العالمي الجديد" كنتيجة للصراع بين تصورات متنافسة للعالم، مع اعتبار "الديمقراطية الليبرالية"، التي عرَّفها الغرب هكذا، المنتصر المفترض. بغطرسة ووحشية لا مثيل لهما، حاول المرء تشكيل العالم على "الصورة" الغربية. وقد واجهت الشعوب العربية والإسلامية على وجه الخصوص العواقب الكارثية لهذه الإمبريالية الجديدة باسم "الديمقراطية". إن الرضا عن النفس الدوغمائي الذي يبديه الغرب، والذي انتقدته في ذلك الوقت، أصبح الآن محط تساؤل بطريقة متزايدة في مختلف أنحاء العالم، بعد عقود من الشلل في مواجهة القوة المتفوقة لِمُعْلِن هذا النظام الجديد".
إذا كان نقد التجربة الديمقراطية الغربية من طرف كوكلر، بسبب الإنزلاقات التي عرفتها منذ ظهورها، واستغلالها من طرق القوى "العظمى" لتحقيق وتعزيز مصالحها، فإنها أيضا الأداة التي تعتبر عائقا في حوار الثقافات والتقريب بين الشعوب والحضارات، لأن طريقة فرضها من طرف هذه الدول على باقي دول المعمور، تحمل في ثناياها مبدأ الكيل بمكيالين، طبقا للمصالح التي تتوخاها الهيمنة الغربية من هذا الفرض. نفس الشيء يمكن أن يُقال عن التكنولوجيا، على اعتبار أن تطويرها حدث في الغرب، نطرا لإمكانياته المادية والبشرية، بل في كثير من الأحيان باستغلال عقول علماء العالم الفقير، فيما يسمى هجرة الأدمغة، لتطوير جوانب معينة من هذه التكنولوجيا. ما يشغل السلطات الغربية الحاكمة ومؤسساتها البحثية هو حرمان الدول الثالثية من الوصول إلى تطوير التكنولوجيا، لكي تبقى تابعة لها من جهة، ولكي لا تشكل أي خطر عليها. ويؤثر هذا من طبيعة الحال في الحوار بين الثقافات بشكل مباشر. ويؤكد المؤلف هذا عندما يقول: "من وجهة نظر فلسفية، فإن "إرادة القوة"، التي تتجلى في الحضارة التقنية، هي التي تشكل أساس إعلان نظام عالمي جديد واستحضار صراع الحضارات من قبل الأنصار والأيديولوجيين في العالم الغربي. وبهذا الصدد هناك استمرارية - أي علاقة سببية غير منقطعة - منذ عهد الاستعمار. وتكمن إحدى المهام الفلسفية المركزية في عصرنا في تبيان المدى، الذي يمكن فيه كسر هذه العلاقة السببية، من خلال التفكير العقلاني في المتطلبات الأساسية للسلام العالمي. ونظراً للقدرة التدميرية التي راكمتها الدول، فإن الاستعداد لموازنة المصالح بين الدول والانخراط في حوار عقلاني بين تمثلات العالم هو البديل الوحيد ضد التدمير المتبادل".
الكتاب موجه لأهميته لجمهور عريض من الباحثين العرب، سواء أكانوا طلبة يشتغلون على رسائل جامعية، أو باحثين في مؤسسات جامعية وبحثية، لتعميق معرفتنا بالآخر من جهة، واكتساب طريقة مغايرة لطرح إشكاليات فكرية وفلسفية، همها الأساس الإنسان، حيثما كان. وعلى الرغم من اللوحة الدامسة التي نراها اليوم أمامنا "للتنمر" الغربي على المنطقة العربية، وعلى الرغم من التاريخ الطويل لهيمنته على العالم العربي الإسلامي بالخصوص، وحتى وإن كانت بوابات الحوار تظهر وكأنها مغلوقة، فالواقع أن الحوار هو السبيل الوحيد لتعيش البشرية جنبا إلى جنب في العالم؛ لأنه مهما طال أمد الإستحواذ، فإنه ينتهي كما علَّمَنا التاريخ ذلك. إضافة إلى هذا فإن الحوار هو مطلب أخلاقي في السياسة العالمية، وبدونه يُنتج "المغلوب على أمره" أدوات خاصة للمقاومة وإطالة عمر التناحرات بين الدول.