في الوقت الذي تُجمع فيه خطابات الدولة على أهمية الشباب باعتباره رافعة للتنمية ومحورًا لبناء المغرب الجديد، تتوالى المؤشرات التي تؤكد أن هذه الفئة ما تزال تُدار بمنطق التجزيء والتأجيل. من غياب إطار تشريعي يُعطي للسياسة الوطنية للشباب مضمونًا حقيقيًا، إلى تجميد تقرير لجنة المهمة الاستطلاعية البرلمانية حول المخيمات الصيفية منذ أكثر من سنة دون تبرير رسمي أو تداول علني لتتضح المفارقة بين الأقوال والأفعال.
منذ 2008، أطلقت وزارة الشباب حوارات ومشاورات طموحة لإرساء سياسة وطنية مندمجة للشباب، لكن هذه المبادرات ظلت حبيسة الوثائق واللقاءات، دون أن تترجم إلى قوانين ملزمة أو مؤسسات فاعلة. ورغم التنصيص الدستوري (الفصل 33) على إحداث مجلس وطني للشباب والعمل الجمعوي، لا يزال هذا المجلس معلقًا، كأنه مشروع مع وقف التنفيذ. أما المرسوم المنظم لاختصاصات وزارة الشباب (2.13.254) فلا يُخول لها صلاحية قيادة سياسة وطنية، بل يحصرها في تدبير قطاعي محدود.
هذا الارتباك في التخطيط والتأطير يجد صدى مباشرًا في الميدان، حيث تُسجل اختلالات صارخة في البرامج الموجهة للشباب وعلى رأسها المخيمات الصيفية هذه الفضاءات التي من المفترض أن تُشكل متنفسًا تربويًا وحقوقيًا للأطفال واليافعين أصبحت في العديد من الحالات مرادفًا للاختلال التنظيمي وضعف التأطير وتدني البنية التحتية وهو ما دفع البرلمان، بضغط من المجتمع المدني والإعلام، إلى تشكيل لجنة المهمة الإستطلاعية حول واقع هذه المخيمات، غير أن المفارقة الصادمة، هي أن تقرير هذه اللجنة أُنجز قبل أكثر من عام ودق ناقوس الخطر حول حجب التقرير في الجلسة البرلمانية التي عقدت يوم الاثنين 21 يوليوز 2025، ولم يُعرض على الجلسة العامة للبرلمان. وهو تأخير يطرح أكثر من سؤال. هل نحن أمام تقصير بيروقراطي مؤسف؟ أم أن هناك نية مبيتة لحجب التقرير لأنه قد يُحرج جهات معينة أو يكشف عن اختلالات جسيمة في تدبير المال العام أو تقاطع المصالح السياسية والجمعوية؟
إن عدم نشر التقرير أو مناقشته علنًا يُفرغ آلية " المهمة الاستطلاعية " من مضمونها الرقابي، ويُفقد البرلمان أحد أهم أدواته الدستورية في مساءلة الحكومة وحماية المواطنين. كما أنه يُرسل رسالة سلبية للشباب مفادها أن قضاياهم تُستهلك في الخطاب ولا تُعالج في العمق، وفي كلتا الحالتين سواء تعلق الأمر بغياب سياسة وطنية حقيقية للشباب أو بتجميد تقرير برلماني حول أحد أبرز البرامج الموجهة إليهم فإن الرسالة واضحة ومقلقة: الشباب لا يزال خارج أولويات الفعل العمومي الجاد، رغم كل الشعارات والوعود. إن تجاوز هذا الوضع لا يقتضي فقط إعادة ترتيب الأولويات، بل إعادة بناء الثقة بين الدولة والشباب على قاعدة الشفافية والمحاسبة والمشاركة. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تسريع إصدار التشريعات المؤطرة للسياسة الوطنية للشباب .
1/ يُعد غياب الإطار القانوني المحدد للسياسة الوطنية للشباب أحد أبرز العوائق أمام بلورة رؤية إستراتيجية مندمجة وفعالة. فعلى الرغم من تعدد المبادرات الحكومية واللقاأت التشاورية منذ سنة 2008، و إطلاق الإستراتيجية الوطنية المندمجة للشباب 2015 /2030 ؛ إلا أن هذه السياسة لم تتخذ طابعًا قانونيًا مُلزمًا، وظلت حبيسة الخطابات والتوجيهات العامة، دون سند تشريعي واضح يُحدد المسؤوليات، ويوفر أدوات التنفيذ والتقييم ويسمح لولوج الشباب إلى مواطنة كاملة ونشطة.
ومن هذا المنطلق، فإن تسريع إصدار قانون إطار للسياسة الوطنية للشباب يشكل أولوية ملحة، بما يضمن تحديد الجهة الحكومية المخولة بقيادة وتنسيق السياسة على المستوى الوطني والجهوي وتعريف مهام ومجالات تدخل مختلف القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية ذات الصلة وإرساء آليات التنسيق والتقاطع القطاعي؛ لتفادي التشتت والتكرار وإدماج آليات التتبع والتقييم والمساءلة لضمان الفعالية والشفافية ثم تأمين مشاركة فعلية ومنتظمة للشباب في إعداد وتنفيذ وتتبع السياسات العمومية.
إصدار هذا القانون من شأنه أن يرفع السياسة الوطنية للشباب من مرتبة التوجيهات المتغيرة بتغير الحكومات إلى سياسة عمومية ملزمة ومستقرة، تُراكم التجارب وتُحصّن المكتسبات، وتُخرج قضايا الشباب من دائرة الهامش إلى قلب القرار العمومي.
2/ تفعيل المجلس الوطني للشباب والعمل الجمعوي
نص الدستور المغربي في الفصل 33 بوضوح على إحداث مجلس وطني للشباب والعمل الجمعوي، باعتباره آلية مؤسساتية لتعزيز مشاركة الشباب في إعداد وتتبع وتقييم السياسات العمومية، ودعم المبادرات الجمعوية والتطوعية. غير أن هذا المجلس، ورغم أهميته الدستورية، لا يزال معطّلاً ولم يتم تفعيله منذ أكثر من عقد من الزمن، وهو ما يُعد إخلالًا بالتزام دستوري صريح، ويطرح تساؤلات حول الإرادة السياسية في إشراك الشباب بشكل فعلي، إن تفعيل هذا المجلس لا يجب أن يكون إجراءً شكليًا أو التفافًا رمزيًا، بل خطوة عملية تستجيب لعدة ضرورات منها خلق فضاء مستقل وتعددي للشباب للتعبير عن تطلعاتهم والمساهمة في رسم السياسات العمومية وإضفاء الطابع المؤسسي على مشاركة المجتمع المدني الشبابي، وتمكينه من آلية استشارية دائمة ثم تجميع المعطيات والتوصيات الناتجة عن مختلف المنتديات والاستشارات الشبابية في بنية رسمية موحدة وضمان تتبع السياسات العمومية وتقديم آراء وتوصيات بشأن القوانين والبرامج ذات الصلة بالشباب والعمل الجمعوي.
ولأجل ذلك، ينبغي الإسراع بـإصدار القانون المنظم للمجلس، وتحديد تشكيلته وصلاحياته ونمط اشتغاله؛ ضمان تمثيلية حقيقية للشباب من مختلف الجهات، ومن مختلف الحساسيات والتجارب وتوفير الموارد البشرية والمادية الكفيلة بضمان استقلالية المجلس وفعاليته. إن تفعيل المجلس الوطني للشباب والعمل الجمعوي ليس ترفًا مؤسساتيًا، بل هو ضرورة ديمقراطية وركيزة لإعادة الثقة بين الدولة والشباب، وردّ الاعتبار للمشاركة المواطِنة باعتبارها مدخلًا حيويًا للاستقرار والتنمية المستدامة.
3/ نشر ومناقشة تقرير المهمة الاستطلاعية البرلمانية حول المخيمات الصيفية
يُعد إحداث لجان تقصي الحقائق والمهام ألاستطلاعية من أهم آليات الرقابة البرلمانية التي يمنحها الدستور المغربي (الفصل 67) للبرلمان، من أجل التحقيق في قضايا تهم الرأي العام، وكشف اختلالات محتملة في تدبير القطاعات العمومية. وفي هذا الإطار، شكلت لجنة المهمة الاستطلاعية حول واقع المخيمات الصيفية خطوة مهمة على مستوى الاعتراف بوجود إشكالات حقيقية تمس هذا البرنامج التربوي الحيوي الموجه للأطفال واليافعين، غير أن عدم نشر التقرير النهائي وعدم عرضه على الجلسة العامة للبرلمان لأكثر من سنة يُثير قلقًا مشروعًا حول مصداقية العملية برمتها، ويطرح تساؤلات جوهرية بشأن مدى احترام مبدأ الشفافية وإطلاع الرأي العام على نتائج التحقيق البرلماني مع احتمال وجود ضغوط أو تحفظات سياسية تعيق تداوله العلني، خاصة إذا تضمن التقرير معطيات محرجة أو تورط مسؤولين، وتحد من فعالية المؤسسة التشريعية في القيام بدورها الرقابي الكامل، وفي مساءلة الحكومة عن تقصيرها في حماية حقوق الأطفال في فضاءات التخييم.
إن نشر هذا التقرير ومناقشته بشكل علني داخل قبة البرلمان لا يمثل فقط التزامًا دستوريًا، بل هو أيضًا حق للرأي العام ولفاعلي المجتمع المدني، خصوصًا أن المخيمات الصيفية تهم فئات واسعة من الأطفال من مختلف الطبقات الاجتماعية، وترتبط ارتباطًا مباشرًا بحقهم في الترفيه والتنشئة السليمة، وعليه فإن التوصية الملحة تتمثل في إخراج التقرير من طيّ السرية والمماطلة إلى فضاء النقاش العمومي وبرمجة جلسة عامة مخصصة لمناقشة خلاصاته وتوصياته داخل البرلمان وتحميل المسؤوليات بناءً على ما جاء في التقرير، وربط المحاسبة بالوقائع المثبتة واعتماد مضامين التقرير كمدخل لإصلاح شامل لمنظومة التخييم والبنيات التحتية والتأطير التربوي.
إن التستر على تقارير التقصي أو تجميدها يُفرغ أداة الرقابة البرلمانية من مضمونها، ويفتح الباب أمام الإفلات من المسؤولية، ويقوض ثقة المواطن في المؤسسات. أما نشر التقرير ومناقشته، فهو تعبير عن التزام الدولة بمبادئ الشفافية والحكامة، ويُمثل لحظة حقيقية لمصالحة السياسات العمومية مع قضايا الطفولة والعدالة المجالية.
4/ إرساء آليات لتقييم السياسات العمومية باستمرار، بمشاركة الشباب أنفسهم
إن فعالية أي سياسة عمومية لا تُقاس فقط بجودة النصوص أو البرامج، بل تتوقف أساسًا على قدرتها على تحقيق الأثر الملموس والمستدام في الفئات المستهدفة. وفي سياق السياسة الوطنية للشباب، يظل غياب آليات منتظمة لتقييم النتائج والأثر إحدى الثغرات الكبرى التي تُفرغ الجهود من مضمونها وتُصعّب عملية التقويم والتصحيح ولذلك، فإن إرساء منظومة وطنية لتقييم السياسات العمومية الخاصة بالشباب يُعد ضرورة استراتيجية، ويجب أن يُبنى على الأسس التالية :
إحداث هيئة أو مرصد وطني لتتبع وتقييم السياسات العمومية المتعلقة بالشباب، بتنسيق مع المؤسسات الوطنية كالمندوبية السامية للتخطيط، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
تحديد مؤشرات كمية ونوعية دقيقة لقياس الأثر الاجتماعي، الاقتصادي، التربوي والسياسي للبرامج الموجهة للشباب، مع تتبع مدى تلاؤمها مع التحولات المجتمعية واحتياجات الفئات المختلفة الوسط القروي، النساء، الشباب غير المتمدرس.
إشراك الشباب أنفسهم في مسارات التقييم، من خلال منصات رقمية، مجالس محلية، لقاءات تقييم تشاركية، واستطلاعات رأي دورية، تُمكنهم من التعبير عن آرائهم حول جدوى السياسات والخدمات المقدمة.
إصدار تقارير تقييم دورية تنشر للعموم، وتُعتمد كوثيقة مرجعية في بلورة الإصلاحات والسياسات المستقبلية، بما يرسخ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
إن إدماج الشباب في عملية التقييم ليس مجاملة رمزية، بل هو مدخل أساسي لتقوية الحس النقدي والمواطنة الفاعلة، وتثمين التجربة الميدانية للشباب المستفيد من البرامج العمومية. كما أنه يمثل فرصة حقيقية لصنّاع القرار من أجل استباق الفشل، وتصحيح المسارات، وتوجيه الموارد بفعالية أكبر، فالشباب ليسوا عبئًا ينبغي التحايل عليه، بل هم طاقة يجب احترامها، والاستثمار فيها، وإشراكها في قرارات تهم حاضرهم ومستقبلهم. أما غير ذلك، فسيظل المغرب يدور في حلقة مفرغة من المبادرات المتعثرة والفرص الضائعة.