السبت 23 نوفمبر 2024
فن وثقافة

أنس الملحوني: الفنان أحمد الباهري فارس الأغنية الغيوانية

أنس الملحوني: الفنان أحمد الباهري فارس الأغنية الغيوانية الإعلامي أنس الملحوني بجانب غلاف كتاب "أحميدة الباهري...رحلة نغم"
تعرفت على أحمد الباهري في عشرينيات القرن الحالي، خلال مشاركته في إحياء أمسيات المهرجان الغيواني الذي أقيم في مراكش، بمشاركة فرقة "ابنات الغيوان". وجدته يفيض حيوية، وقد أثارني عزفه الأنيق على آلة البانجو، وتقاسمه للكثير من الأدوار الفنية مع مجموعة من الفتيات على خشبة مسرح دار الثقافة بحي الداوديات.

استمتع الجمهور بأدائه المتميز، خاصة أن البرنامج الغنائي كان يشمل العديد من أغاني مجموعة ناس الغيوان، وأعمال أخرى كنت أتابعها لأول مرة. بدا لي أن الرجل كتوم وخجول، قليل الكلام مع المتحلقين حوله بعد انتهاء الحفل، لا يناقش موضوعا فنيا ذا ارتباط بمجالات اهتماماته فقط عندما يطلب تدخله.

ثم تعمّقت علاقتي الناشئة به حينما كنت أستضيفه على أثير إذاعة مراكش للحديث عن رواد الظاهرة الغيوانية؛ كان ذلك خلال برنامج "نَادِي الفُنُون" في الفترة الممتدة بين عامي 2016 و2017، ثم استمرت هذه اللقاءات الإذاعية في برنامج "لَمَّةْ لَحْبَابْ" بين عامي 2018 و2019. وقد كنت أُذهل بتمكنه الكبير من التفاصيل الدقيقة للموضوع، مما جعله يصبح مرجعاً أساسياً أعتمد عليه في إعداد بعض الحلقات المتعلقة بهذا المجال، خاصة في ظل ندرة التوثيق والمصادر الموثوقة التي يمكن الاعتماد عليها بلا شك.

جمعتنا لقاءات متعددة خارج أثير الإذاعة، كشفت لي عن العديد من المهارات الفذة التي يمتلكها أحمد الباهري. إنه عازف بارع يتقن العديد من الآلات الوترية بمهارة فائقة، مثل البانجو، والقيثارة، والمندولين، والعود، والبزق. في جعبته الفنية أكثر من أربعين شريطاً غنائياً، وألحان جينيريك ثلاثة سيتكومات، ومشاركات متميزة في عزف أو تأليف موسيقى ستة أشرطة سينمائية، بالإضافة إلى حوالي أربعين وصلة إشهارية للتلفزة الوطنية. هذا التميز والإبداع جعله بحق رمزاً فنياً لا يُضاهى في عالم المجموعات الغنائية الغيوانية.

إضافة إلى هذا الرصيد الفني الثري، أبدع أحمد الباهري في قيادة العديد من المشاريع الغنائية بتميز، حيث كان بحق القلب النابض لمجموعة من الفرق الغيوانية. بداية من "طيُورْ الغُربَة"، و"لَجْوَادْ"، و"أهلْ الحَالْ"، و"ابّْنَاتْ الغِيوانْ"، وصولاً إلى "جِيلْ جَانَا" و"أورْكسْترَا احّْميدَة". في هذا السياق، نجده مساهماً فعلياً في تأسيس مجموعة "لَمْشَاهَبْ" في تشكيلتها الأولى، كما قضى فترة زمنية قيمة مع مجموعة "جِيلْ جِيلالَة".

إلى جانب ذلك، أبدع في كتابة نصوص شعرية وتلحينها للفنانات: لبنى عفيف، عائشة تاشينويت، حفيظة الحسناوية، وأولاد بن عگيدة، بالإضافة إلى مجموعة شيخات واد زم. كل هذه الإسهامات جعلت من أحمد الباهري رمزاً فنياً متألقاً، يترك بصمته في كل فكرة موسيقية يشارك فيها .

على الرغم من قوة إبداعه وإنتاجيته الوفيرة، إلا أن كل إصدارات الرجل لم تُوثَّق، ولم يعمل - حاليا - على مشاركتها على نطاق واسع مع جمهور المولعين والشباب الذي لا زال يعض بالنواجذ على فلسفة المجموعات الغنائية الغيوانية، رغم ما عرفته البنية الاجتماعية المغربية من تحولات جذرية. كما استغربت لكون هاته الذخيرة في شموليتها لم تُنشر بعد، علما أن الفنان أحمد الباهري هو أحد أعلام الظاهرة الغيوانية، لا يقل منجزه الإبداعي أهمية عما سطرته الفرق المُؤسِّسة؛ الشيء الذي شجعني على إدراج اسمه ضمن لائحة ثلة من الأعلام الذين وثَّق البرنامج الإذاعي اليومي الرمضاني "نَبْشٌ فِي الذَّاكِرَة" لجوانب مشرقة من مسارهم الإبداعي.

ومن الجدير بالتنويه أنني سعيت من خلال هذا البرنامج الذي أعددته وقدمته على أثير إذاعة مراكش خلال الفترة الممتدة من عام 2007 إلى عام 2023 ، إلى توثيق سير بعض أعلام الفكر، والثقافة، والإبداع. كانت الغاية أن نتقاسم مع الباحث والمهتم والجمهور العادي وثائق نفيسة جاءت على لسان أصحابها، وذلك سعياً لتحري الدقة في المعلومة ومصدرها وسياقاتها. فالمجال لا يزال حبيس الذاكرة، ومعتمداً على العديد من الروايات الشفوية التي تحمل الكثير من الانزياحات والمغالطات. بهذا الجهد، كنا نسعى إلى إضاءة جوانب خفية من تاريخنا الثقافي، وتقديم روايات موثوقة تسهم في حفظ تراثنا الفكري والفني.

بالمناسبة، كتاب "احميدة الباهري ... رحلة نغم" فارس من ذاكرة الأغنية الغيوانية - سيرة فنية 1972 - 2016 هو من القطع المتوسط، جاء في 288 صفحة، وقد عملت المطبعة الوطنية بمراكش على إخراجه، وتفضل الدكتور محمد الكنيديري، رئيس جمعية الأطلس الكبير بطبعه، مساهمة منه في تثمين فكرة التوثيق لأعلام مدينة مراكش.