السبت 23 نوفمبر 2024
فن وثقافة

فؤاد زويريق: صورة المرأة الأفغانية في فيلم"قندهار" للمخرج الإيراني محسن مخملباف

فؤاد زويريق: صورة المرأة الأفغانية في فيلم"قندهار" للمخرج الإيراني محسن مخملباف فؤاد زويريق
لا بد أن البساطة التي تتميز بها السينما الإيرانية ساعدتها على التألق في المحافل الدولية، وأكسبتها جمهورا عريضا بالعالم كله، السينما الإيرانية أنموذج ايجابي للخطاب الفني الشاعري، وللفعل الدرامي الواعي، القائم على دبلجة الواقع وممارسته فنيا، خطاب استحق التتويج لما يحمله من حمولة ثقافية وإبداعية تتجاوز العبث واللامبالاة، وتحتفي بالإنسانية الثائرة والمتمردة على العوامل اللامنطقية التي يحتويها الواقع . الأسلوب السينمائي الإيراني يتكون من أدوات وعناصر تدفع إلى التحريض الفكري وتعطي الحياة قيمتها بلغة تختلف تماما عن اللغة السائدة في الصالات السينمائية الأخرى.

عرفت إيران السينما منذ أكثر من قرن، اكتسبت خلاله فرصة للبحث عن الذات، ومساحة واسعة لحياكة ثوب يناسب شكلها وقامتها، فأسست لنفسها سمات خاصة تميزها عن الباقي، رغم تأثرها في مرحلة سابقة ببعض التيارات الغربية كالتيار الايطالي مثلا، الذي كان ينادي بالمنهج الواقعي المتناول للهوامش الاجتماعية.

عرفت السينما الإيرانية اهتزازات خطيرة في مسيرتها، وتجزأ تأريخها إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل الثورة، ومرحلة ما بعدها، هذه الأخيرة التي عرفت معها السينما الإيرانية صعوبات وعراقيل معقدة، ليس أقلها فرض قيود متشابكة بين ما هو ديني وسياسي وجنسي، ولعل هذه القيود كما جاء على لسان العديد من المهتمين هي التي ألهمتها هذه اللغة الرائعة التي تتميز بها، وحاولت تحت سيطرتها ابتكار أدوات بسيطة تخرجها من عزلتها.

للسينما الإيرانية مبدعوها الذين أخذوا على عاتقهم تفعيل النظريات إلى ممارسات فعلية، كاشفين عن جديتهم وحبهم للعمل الذي يقومون به، مخرجون عدة تتلمذوا على يد الظروف الصارمة والقاسية التي تحكم الفن في إيران، فتخرجوا بمهارات أكثر إبداعا وفنية، نذكر منهم محسن مخملباف، بهمان غبادي، مجيد المجيدي، عباس كياروستامي، أصغر فرهادي‏...كما أن ظهور العنصر النسوي في السينما الإيرانية وخصوصا في مجال الإخراج، أغنى السينما الإيرانية وزاد من قيمتها الفنية ومنهن رخشان بني، سميرا مخملباف، تامينيه ميلاني...
مخملباف من المخرجين الإيرانيين الذين بصموا أسلوبهم في السينما الإيرانية، وجسد بالصورة الأبعاد الرمزية للمعاناة الإنسانية، من خلال خطاب نقدي، فني، جمالي، يؤطرها داخل نطاق العلاقة التواصلية التي تحكم الواقع وعدسة الكاميرا بصفتها شاهد عيان، ارتبط أسلوب مخملباف بمستويات نقدية تصاعدية تقوم في الغالب على ابتكار مناهج إبداعية ذات قيم خاصة تنضاف إلى رصيد السينما الإيرانية، تلك التي تغازل جمهورها من خلال أسلوبها المحافظ، ووظائفها اللغوية المتشعبة والمتعددة بتعدد مبدعيها.

فيلم "قندهار" 2001 من الأفلام التي أغنت رصيد مخملباف الفيلموغرافي، وزادت من انتشار أعماله خارج الحدود الإيرانية، وكشفت عن طاقاته الإبداعية المناضلة في سبيل تحقيق ذاتها من جهة، وتثبيت رؤيتها الإنسانية من جهة ثانية من خلال نقل المحتوى كما هو، والخضوع لتركيبات الواقع الدرامية وعدم الانزلاق خارجها.

مضمون عمله هذا يتوخى النبش داخل كتلة من نار خلفتها الحرب الطاحنة، التي جمعت الفصائل المتقاتلة في أفغانستان، بعد انسحاب الروس منها وقبل الغزو الأمريكي لها. فترة عرفت بتقلبات عدة وصراعات داخلية انتهت باستيلاء حركة الطالبان على الحكم، وإحكام سيطرتها على جل الأراضي الأفغانية تقريبا، الفيلم لم يؤشر ولم يغص داخل هذه الأحداث بل تركها جانبا ليتناول مفردات المآسي الإنسانية التي خلفتها، من خلال قصة صحفية كندية ذات أصل أفغاني دخلت أفغانستان في محاولة منها لإنقاذ أختها الكسيحة من الكآبة التي ألمت بها، ودفعتها إلى التفكير في الانتحار ، للصحفية حيز زمني محدد تتحرك داخله بصعوبة، علها تنجح في إنقاذ أختها، وفي المقابل لها حيز مكاني شاسع يجعل المهمة أكثر صعوبة وتعقيدا، العنصران معا أسسا داخل الفيلم عقدة مستعصية بمثابة فخ يضيق كلما توغلت الأحداث داخل الزمن، لم يستطع المخرج تدجين القصة لكونها حقيقية، ومتشبعة بالحبائل الدرامية المتقاطعة والمبعثرة في آن.

الشخصيات في فيلم قندهار شخصيات بسيطة جدا تحيا يومها فقط لا تفكر في غدها أبدا، شخصيات تتحدى الخراب الذي يطوقها، تعيش بين فر وكر، الصحفية الكندية نافاس(نيلوفار بازيرا) نقلت إلينا ظروف هذه الشخصيات باختلاطها المباشر معهم، شخصيات مختلفة من مشهد إلى آخر، وكل مشهد له حكاية تنتهي بانتهاء المشهد لتستمر حكاية نافاس داخل المشهد الموالي، انتقلت بنا نافاس داخل عوالم بدائية لا وجود للحياة فيها أبدا، فقط أشباح يتحركون يحاولون تحقيق توازنهم الإنساني... فترة حداد يدخل فيها المشاهد أمام هذه الموجات المتتالية من اللقطات المأساوية التي ترافق الفيلم من بدايته إلى نهايته.

تصل عقدة الدراما في قندهار قمتها عندما تنقل لنا كاميرا الفيلم الأرجل الاصطناعية تتساقط من هيلكوبتر الصليب الأحمر، ويتدافع الرجال "المعوقون" خلفها علهم يحظون بواحدة، في منظر مثير للشفقة، حملته إلينا عدسة الكاميرا بصدق حقيقي، يوثق لتلك الفترة من الزمن، لم تكتف عدسة الكاميرا بهذه المناظر فقط، بل انطلقت داخل مجتمع مريض يروي بالمعاناة ظمأه، ويتوغل داخل خصائص سريالية منحطة تقوم على الإجرام، والنصب، وعدم الثقة، والتطرف، واضطهاد الضعيف، واستعباد المرأة، وغيرها من الخصائص التي تتميز بها مثل هذه الظروف، أفلام عديدة نقلت إلينا مأساوية الحرب بخصائص أكثر بشاعة وقتامة، بل جسدتها لنا عبر أحدث التقنيات السينمائية من تفجيرات، وديكورات، وغيرها لكننا كمشاهدين لا نشعر بصدقها كونها تبالغ في تصويرها بهذا الشكل من أجل الترفيه والربح فقط، الجميل في فيلم قندهار أنه نقل المأساة كما هي، بدون إطلاق رصاصة واحدة، وبدون بطل أسطوري، وبدون دماء، وبدون تفجيرات، وبدون خير وشر إذ لم يظهر الأطراف المتحاربة قط، ولم نعرف من خلاله من منهم على حق أو باطل، فالاتهام في الفيلم موجه للحرب كمصيبة تلم بالجميع بدون استثناء.

من جهة أخرى يمكن للمشاهد أن يلاحظ أن فيلم قندهار مجزأ إلى أربعة أجزاء متداخلة، وكل جزء له خصوصياته المتفردة وشخصياته المختلفة، والجامع بينهم شخصية واحدة هي الشخصية الرئيسية/الصحفية، التي من خلالها نتعرف على هذه الخصوصيات ونرافق هذه الشخصيات، إلا أن الملاحظ في كل الأجزاء الحضور القوي للمرأة الأفغانية أو (الرأس الأسود) كما يسمونها في أفغانستان، كعنصر مضطهد وكضحية لهذا المجتمع، ولهذه الحرب، ولهذا النظام المتطرف، وربما هنا تكمن الرؤية الأساسية للمخرج، رؤية مرتبطة أولا وأخيرا بظروف المرأة الأفغانية في ظل حرب غير متكافئة.

المرأة في الجزء الأول، امرأة صامتة، شخصية مدجنة تحت جناح زوج واحد متعدد الزوجات، ذلك الزوج الذي لا يتوانى في المحافظة على شرفه، وشرفه يكمن في برقع نسائه لا غير، الزوج يصبح فجأة ضعيفا وسلبيا إلى أقصى حد، أمام قطاع الطرق الذين سلبوه كل ما يملك بدون مقاومة تذكر، الجزء الثاني يحملنا معه للتعرف على المرأة الأفغانية الأرملة التي تتوق إلى تربية ابنها وتعليمه حتى يتمكن من رعايتها، لكن الظروف سارت عكس متمنياتها، ليطرد الابن من المدرسة التي كانت تتكفل على الأقل بإطعامه، وإلباسه، ليجد نفسه في الشارع بدون عمل ولا كفيل، فالعمل والتعليم في أفغانستان يقتصران على الرجل دون المرأة، ينتقل الطفل من عمل إلى آخر حتى ترميه الصدف بين يدي الصحفية التي تستعين به كدليل مأجور، لنتعمق معهما أكثر داخل هذه التراجيدية المأساوية، يخرج الطفل بهدوء من الجزء الثاني، لندخل إلى الجزء الثالث، حيث الطبيب والمرأة المريضة يقبعان داخل عيادة طبية، المرأة لا تتكلم مع الطبيب لكونها أمام رجل غريب، فيكون الاتصال بينهما بواسطة طفلتها، التي تنقل كلام الطبيب إلى أمها القابعة وراء حجاب بثقب صغير، يكفي لفحصها دون انكشافها أمام الطبيب، هذا الأخير الذي يصبح فيما بعد دليلا مساعدا للصحفية والذي ينقلها معه إلى مخيم الصليب الأحمر الدولي طلبا للمساعدة، لنكتشف هناك، نوعا آخر من النساء، نساء بشخصيات قوية، طبيبات أجنبيات يقمن بتوفير الأرجل الاصطناعية مكان الأرجل المبتورة بسبب الألغام، هنا نلمس تعاملا آخر للرجل الأفغاني أمام هؤلاء النسوة، تعامل بعيد كل البعد عن تعاملهم مع نسائهم، تعامل يقوم على الاحترام والانصياع لأوامرهن أو نصائحهن، واعتقد أن استحضار المرأة الغربية هنا مقصود حتى يتمكن المتلقي بطريقة تلقائية من إجراء مقارنة بين المرأة في الغرب والمرأة في أفغانستان.

الجزء الرابع والأخير كشف لنا عن المرأة المحتفلة في أفغانستان، احتفال بدون رجال، نسوة فقط يرافقن العروس إلى دار عريسها، اختفت الصحفية ودليلها الرابع داخل هذا الجمع، ليجدا أنفسهما أمام حاجز لحركة الطالبان، الذين يلقون القبض عليهما بمعية رجال آخرين متخفين وراء البرقع كنساء، خلال تفتيشهم من طرف نسوة آخرين نقف على نساء أخريات قاسيات وربما مقاتلات، إذ نشعر من نبرة صوتهن بقسوتهن في التعامل مع الآخر، نشعر بطبيعة وسلوك الرجال المحاربين الذين يتقمصونهن رغم ارتدائهن البرقع، من هذه الأجزاء الأربعة نستشف اندثار المرأة المؤنثة داخل هذا المجتمع، إذ لا توجد امرأة واحدة داخل هذه البلاد، كلهن أشباح بدون ملامح، و بدون أصوات، وبدون هوية حتى.

فيلم قندهار انطلق من الألم،لاكتشاف مخلفاته ومآسيه ونقلها إلى الخارج، الفيلم تجربة حية لإعادة النظر في مثل هذه الحروب، وإعادة النظر في بعض العادات والتقاليد المتخلفة التي تحكم بعض الشعوب ويذهب ضحيتها العنصر الضعيف في المجتمع، الجميل في هذا الفيلم أنه التزم الحياد المطلق، إذ لم يتطرق إلى الحرب كحرب بل ذهب ينقب داخل مخلفاتها المأساوية دون أن يحاكم أي طرف من أطرافها.