عندما أعلن الديوان الملكي عن فحوى رسالة الرئيس الفرنسي، عمانويل ماكرون، التي تخطت مطلب الدعم التام للمقترح المغربي للحكم الذاتي بأقاليمنا الصحراوية، إلى "الالتزام الفرنسي الصريح والرسمي بالسير قدماً باتجاه تكريس ذلك الدعم محليا وجهويا ودوليا، ولدى المؤسسات الأممية والقارية"... عندما تم الإعلان عن هذا القرار الفرنسي الجِرّيء، اتجه الفكر يمينا ويسارا صوب نفس المنحى، والمتمثل في إجراء مقارنات بين الموقفين الفرنسيين السابق والراهن من جهة، وبينه ومواقف الدول الصديقة الأخرى من جهة ثانية، فيما يمكن اعتباره بحثاً تلقائيا، وليس مبيَّتاً، عن سبل إضفاء نوع من الأفضلية على موقف الجمهورية الفرنسية في شخص رئيسها، ومِن ورائه مكوّنات الدولة الفرنسية العميقة، وذلك، ربما، من أجل القول في نهاية تلك المقارنة إن فرنسا تبدي الآن موقفاً يتفوّق على مواقف كل الدول الأجنبية والغربية الداعمة، بما فيها الموقف الأمريكي، الذي عبر عنه الرئيس السابق دونالد ترامب وهو يتهيّأ لمغادرة البيت الأبيض، برَجعةٍ محتملة أو بلا رَجعة، فلا أحد آنئذ كان يتوقع ما ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي تقف الآن على الأبواب!!
حسنا... فما هو الجانب الذي أخطأه المتتبعون والمحللون والمعلقون إلاّ القلة القليلة، او لا أحد منهم طالَها بالواضح والصريح؟
بعودة يسيرة إلى تاريخ الاستعمارين الفرنسي والإسباني، لشمال المغرب وجنوبه، بغض النظر عن مسمّى "الحماية" المخالف شكلا ومضمونا للظاهرة الاستعمارية، وإن كان يُماثِلُها من حيث السلوكُ، ومن حيث مكامنُ ومظاهرُ السرقة والنهب والسلب واستغلال الخيرات والمقدَّرات... أقول، بعودة يسيرة إلى ذلك التاريخ، سنجد ان فرنسا كانت السباقة إلى الاعتداء على حرمة الأمبراطورية المغربية، وأنها استنجدت في مرحلة من المراحل بالقوات الإسبانية لمساعدتها على تحييد الجهاد الذي أبدته قبائل المغرب بكل مكوناتها الجغرافية والإثنية، أمازيغاً وعرباً وأندلسيين وزنوجاً، مسلمين ويهوداً، الأمر الذي جعل من إسبانيا شريكا يُعتد به فيما أبدته من العون والسند لقوات جنرالات فرنسا، الذين كان أغلبهم مغلوبا على أمره، في معارك كانت تبدو بلا نهاية... وهذا بالذات، هو الذي جعل فرنسا المنتصرة في معارك الدفاع المغربية الأهلية عن النفس، ترضى صاغرةً بتقاسم "كعكة الانتصار" مع وصيفتها الإسبانية، بعد عمليات حسابية معقدة أعطت لإسبانيا حق تدبير المنطقتين الشمالية الساحلية، والجنوبية الصحراوية، والبقية يعلمها الجميع!!
المهم في هذا التذكير ببدايات الاحتلالين الفرنسي والإسباني لشمال المغرب ووسطه وجنوبه، أن فرنسا كانت في حاجة لشريك يتقاسم معها مسؤولية وتكاليف المستقبل الاستعماري الذي كانت نتائجه شبه معلومة وأكيدة، في زمن كان العالم كله على أعتاب إقرار نظام عالمي لا مكان فيه للظاهرة الاستعمارية، وخاصة في صيغتها التقليدية المرفوضة والمدانة بالإجماع، ولكنه إجماع ماكر وخبيث ترك فجوات فسيحة يمكن للاستعمار أن يستمر أو يعود من خلالها تحت أغطية جديدة اقتصادية ومالية وثقافية... كالتي استمرت فرنسا في استغلالها في بعض بلدان إفريقيا الفرنكفونية إلى غاية يومه، مما مكنها من الاستمرار في النهب تحت غطاء "الفرنك سيفا" لِما لا يقل عن خمسمائة مليار دولار سنويا، ولم تتنصل من البلدان الإفريقية ضحية هذا الشيطان الاستعماري المتلوّن والحربائي سوى ثلاث أو أربع أنظمة ثورية جديدة، وخاصة في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو... وربما انضافت إليها أخرى في طور التّشكّل... ولا أحد بالمناسبة يسعه أن يُنكر الدور المغربي الريادي في تحقيق هذه القفزات الثورية النوعية ضد الاستعمار في نمطه الجديد والمتعصرن!!
ونعود إلى فرنسا وإسبانيا والإطلالة التاريخية اليسيرة، لنلاحظ أن المملكة الإسبانية أثبتت بالملموس أنها كانت شبه ضحية للتدبير الفرنسي بحيث ورّطتها فرنسا في الملف الاستعماري المتعلق بالمغرب خصوصاً، كردٍّ سخيٍّ للجميل، على دعمها العسكري والإداري والإعلامي للاستعمار الفرنسي في بداياته بهذه الربوع، ولذلك وجدناها تتقبل بطيب خاطر توقيع معاهدة إنهاء استعمارها لمناطقنا الجنوبية بالساقية الحمراء ووادي الذهب سنة 1975، وبدون أدنى إراقة لقطرة دم، وتزيد على ذلك بالانسحاب كليةً من حيادها السلبي ومن خندق أعداء وحدتنا الترابية، وأسمّي الجزائر بكل الوضوح اللازم، والمرور إلى الخندق المقابل، عن طريق الدعم المباشر للمقترح المغربي للحكم الذاتي، والإقرار بتحصيل الحاصل بمغربية الصحراء، الجنوبية الغربية من وطننا، الذي مازال أمامه الكثير من الجهد والعمل الدؤوب حتى يستكمل استرجاع باقي مدنه وثغوره، بمافيها الصحراء الشرقية ومدينتا سبتة ومليلية والجزر...
ها قد انتبهنا الآن إلى أن الفاعل والمهندس الرئيسي في الملف الاستعماري الفرنسي الإسباني كان ولا يزال فرنسياً قلباً وجوهراً، وإن كان مزدوج المظهر في قالبه الفرنسي/الإسباني.
من هذا المنطلق التاريخي، الذي لن يتجادل حوله اثنان إلاّ أن يكون أحدهما جاحداً أو جاهلاً، يبدو لنا الموقف الفرنسي المنقلبُ على عقِبَيْه إعادةً قويةً لتشكيل موقف فرنسي ظل متسماً طوال خمسين سنةً بالحربائية، وليس فقط بالضبابية والالتباس كما صوّرته أدبياتنا السياسية المهذَّبة!!
مِن هنا، يستمد هذا الموقف الفرنسي قوّته ووزنه السياسي والدبلوماسي، الذي يدركه جميع حكّام الدول العُظمى، الذين يعلمون تمام العلم إلى أي مدى تعاني وستظل تعاني الجمهورية الفرنسية، خامسةً كانت أو سادسةُ، من جرّائه داخليا بالدرجة الأولى، على أيدي قوى حزبية تتصيّد الفرص لضرب السلطة الحاكمة لمجرد الضرب وليس أكثر، ثم أوروبياً، على صعيد قوى أخرى أوروبية لن تقبل بسهولة ان تنقلب فرنسا بقدها وقديدها لصالح مغرب كانت إلى غاية الأمس القريب تعمل ضده وضد مصالحه الوطنية من وراء الستار، تارةً بالبرلمان الأوروبي، وتارة أخرى بأيدي هيئات مدنية وشبه مدنية أوروبية وعالمية كانت فرنسا العميقة تُوجهها للقيام بكل من يحد من فورة الصعود المغربي والنجاحات المغربية إفريقياً وجهوياً وعالمياً على السواء!!
نهايته، إن هذا القرار الفرنسي الموضوعي والمنطقي، الذي طال كثيراً انتظارُه، لا ينبع فقط من كونه عودة منطقية لفرنسا عن غيّها السياسي والدبلوماسي فحسب، بل هو في حقيقته إعادة مبدئية وواقعية لتشكيل موقف فرنسي كان سيّئاً وخبيثاً منذ معركة ملوية، سنة 1845، بل منذ ما سبق تلك المعركة ومهّد لها من بهلوانيات وتحرشات الاستعمار القديم في أبشع صوره وتمظهراته... والعبرة بما سيأتي في مستقبل الأيام... وللحديث حتما صلة!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.