في عز الصيف ورغم العطلة السنوية للسياسيين والدبلوماسيين، فقد حرصت أكثر من أربعين دولة أن تحضر وتتمثل على مستوى عال في حفل تنصيب الرئيس الموريتاني لولاية ثانية والتي جرت يوم الخميس فاتح غشت 2024 .حتى وإن كانت العادة في العالم أن يكون التنصيب الثاني عاديا إن لم يكن داخليا فحسب، لكونه تحصيل حاصل .ولم يفسد مذاق "اتاي" الشنقيطي الجميل في ذلك اليوم المعتدل طقسا إلا وجود "ضيف" ثقيل، ورثه الرئيس ولد الغزواني ضمن خردة زمن الانقلابات التي انطلق سنة 1978 عندما أطيح بأول رئيس سياسي، المختار ولد دادة المحامي ليغلق سنة 2019 بمغادرة محمد ولد عبد العزيز قصر الرئاسة. وما بينهما نقطة ضوء باهتة لم تكتمل .
لكن رزانة وتبصر الرجل جعله يعبر بهدوئه الذي أبلغ رسالته إلى العالم، عن تقززه من هذا الحضور غير المرغوب فيه لشخص قبل على نفسه أن يكون كركوزا في يد الآخرين. وهذا ليس من طبع أهل الصحراء.
ولعل الاهتمام الدولي ببلاد شنقيط من خلال الحضور الوازن للضيوف الكبار يتجاوز البعد البروتوكولي في تقدير المحللين .
فموريتانيا اليوم بعدما عبرت رمال الانقلابات هاهي تدخل ربيع الممارسة الديمقراطية ليس فقط بنتائج التنافس الانتخابي ولكن بأجواء الحملة الانتخابية وكيف ساهم فيها الفاعلون السياسيون وكيف تفاعل معها المواطن الموريتاني في مجتمع لازالت قوته في قبائله.
عندما كان الرئيس المنتخب يلقي كلمته في الحضور بالقصر الجميل جدا "المرابطون " الكائن على الطريق مابين مطار أم التونسي الدولي ومدخل العاصمة. كانت كلماته تنفذ وتلخص رؤية مستقبلية تأخد بعين الاعتبار وضعية موريتانيا المستقرة والآمنة كمنجز للولاية الأولى، مع التأكيد انه إذا كان الاستقرار شرط محوري لكل تنمية مأمولة فإن تجويد الحكامة ومحاربة الفساد هي القلب النابض للتنمية، وهذا جزء من برنامج الولاية الحالية .
أما الشروع في استغلال الغاز أو البترول أو المعادن الأخرى النفيسة وغيرها فأثرها التنموي مرهون بالاستقرار الأمني والسياسي وكذلك الحكامة الجيدة وللشعب الموريتاني تجربة سيئة مع معدن الحديد والثروة السمكية مع أن الساكنة محدودة .
ومما لا شك فيه أن هذا الوضع سيكون حافزا ومشجعا للرأسمال الأجنبي للاستثمار والاستقرار بالمنطقة بما يحمله معه من خبرة تقنية من شأنها أحداث تحول نوعي في كفاءات الموارد البشرية بالبلد وطرق اشتغالها ،وهذا يبقى رهين بتأمين المنطقة كلها خاصة ان جبهة البوليساريو هي عنصر توتر وقنبلة موقوتة وراعية لعدد من المجموعات المسلحة بالمنطقة، ولعل إخواننا في موريتانيا يتذكرون فيما يتذكرون هجوم البوليساريو على نواكشوط في معركة قضى فيها زعيمهم مصطفى الوالي يوم 8 يونيه 1976.
واذا كان موقف نواكشوط من النزاع في الصحراء المغربية، عندما اختارت ما أطلق عليه "الحياد الاجابي "يمكن تفهمه في سياقه على اعتبار أن موريتانيا في السبعينات كان هاجسها الرئيسي هو ان تحافظ على وجودها في منطقة محور الحرب الباردة ونظامين عسكريين بكل من ليبيا والجزائر لم يهدأ لهما البال حتى أطاحا بالتجربة الديمقراطية في موريتانيا بقيادة المختار ولد دادة، وادخلوا نواكشوط في دوامة الانقلابات والفساد ولم يعد لها من خيار أنذاك أمام مخلوق مشوه طبخه بومدين والقذافي وأطلقا عليه ما يسمى بالجمهورية الصحراوية . رغم أنها نواكشوط هي الوحيدة التي تعلم التاريخ والجغرافية والتركيبة السكانية والقبائلية وتعلم رابطة البيعة مماهو ثقافي وديني الذي يتجاوز بكثير ماهو سياسي قانوني وسيادي . ولم يكن يوازيها في هذه المعرفة بالمنطقة إلا القوتين الاستعماريتين اسبانيا وفرنسا .
وبالتالي كان حينها موقف "الحياد الإيجابي" الذي اتخذته موريتانيا موقفا متقدما . أما الان ونواكشوط أصبحت لها كلمتها ونفوذها في المنطقة وفي القارة .والحرب الباردة هي خلفنا والصراع في العالم الآن مصلحي لا ايديولوجي، وإسبانيا المالكة للوثائق التاريخية نفضت يدها من حكاية البوليساريو، وفرنسا العارفة بالوقائع والرجال والكواليس والعضو الدائم بمجلس الأمن هاهي تطوي الصفحة وتعتبر أن الحكم الذاتي في ظل السيادة المغربية هو الحل الوحيد ممكن.
مع الاشارة أن طبيعة النزاع في الصحراء المغربية يختلف مطلقا عن النزاع مع جبهة مورو في جنوب الفلبين أو نزاع جنوب تايلاند او انفصال جنوب السودان وكلها أساسها ديني صرف.
اما في المغرب فإن التعدد التقافي هو جزء من هوية المغرب يعيشه المغاربة في معاشهم اليومي ويضمنه الدستور وتستوعبه مبادرة 2007 .
كل المؤشرات تؤكد أن الرئيس المُنَصَب محمد ولد الغزواني يوم الخميس لولاية ثانية،ومن باب مصلحة مورتانيا أولا وأخيرا سيغلق قوس زمن الانقلابات ليتمم طريق حكمة المؤسس المختار ولد دادة .فزمن القدافي انتهى ولحظة أيتام بومدين لن تطول .
ودرس كل من مدريد وباريس في "عين الخيل" وهي بالمناسبة التعبير العربي لكلمة شنقيط البربرية.