كتاب الشاعرة مالكة حبرشيد جرح الذاكرة شخصيا أصنفه ضمن أدب السيرة الذاتية أكثر منه رواية، وذلك لأنها أساسا سرد لوقائع حقيقية مرت بحياة الشاعرة. فهي إذن جزء من السيرة الذاتية التي تتضمن لحظات من السير الغيرية، وفي هذا العمل الأدبي السردي تنفلت الشاعرة من الروائية ونجدنا بين الفينة والأخرى أمام فقرات مطولة هي أقرب للشعر والسجع أكثر من العمل الروائي التقليدي وهو زمن طويل وقوي من عمر السيرة الذاتية حيث تطل عليك شاعرة من حجم مالكة في أسلوب روائي لن تجده إلا في جمال العبارة عند زميلتها أحلام مستغانمي .
الرواية/السيرة الذاتية تداخلت فيها عدة أنماط سردية، وظهر منها جليا شكل الكتابة الشذرية على شاكلة ما كتبه محمد شكري في المتأخر من كتاباته.
في السيرة الذاتية للشاعرة مالكة هناك تداخل لأزمنة الكتابة وأحيانا يحضر الفلاش باك، ولذلك فهذا المتن السردي مؤهل لأن يصبح عملا دراميا خصوصا وأنه هو أساسا صرخة إدانة لواقع اجتماعي مرير من طرف شاعرة أتهمها بالمثالية.
عاصمة الحكي في سيرة الكاتبة هي مدينتها الجميلة خنيفرة المناضلة، وهي شكواها الأولى من ظلم التاريخ والاقتصاد والاجتماع .
هذا النص الأدبي يتحرك أساسا بين زقاقين ومدينتين وزمنين هما زمن الظالم وزمن المظلوم. وبين لحظتين، لحظة الواقع المرير ولحظة المستقبل المأمول، المحمول على كتفين، كتف الوعي وكتف النضال .
هكذا رأيت النص فأثار انتباهي أنه لا يكاد يتحرك إلا داخل ثنائية ما، ولربما الإشتغال بالرقم إثنين، ومنها أن مفاتيح الأرض والسماء في خنيفرة إثنتيهما توجدان في يد إثنين هما الفقيه والولي الصالح .
الكاتبة في هذا العمل السردي لها نمطها الخاص في الكتابة وإن كان هناك بعض التناص الأسلوبي في كتابها هذا مع كتاب ٱخرين في لحظات من الإبداع إن في السجع أو في الانتقالات الشذرية .
الكاتبة مالكة، في هذا العمل يتصارع في ساحة مدادها شخصيتان، شخصية الشاعر الحالم ذي العبارة القوية والصورة الشعرية والصحافي الناقم على الوضع والراصد للواقع البئيس، وهذا الأسلوب الصحافي التقريري الذي يغطي مساحات من هذا العمل السردي ليس غريبا على الكاتبة فهي متابعة جيدة لما تمور به الساحة السياسية الوطنية والدولية، ويتضح بشكل جلي من خلال كتابها أنها مناضلة حقوقية ونسوية شرسة خطت النص معتمدة على الكثير من الكلمات المفتاح التي تخترقه طولا وعرضا وتختصر كثيرا من مسافات المعنى، وهي أكثر من عشرين لفظة مثل :
الجرح/ الجهل/ الفحولة الراسخون/ التواطؤ/ الدم/ المدى/الردح/المايات/الجمجمة.
أما كلمة نكبر فكانت افتتاحا ومفتاحا لخمس انتقالات في السرد من مرحلة إلى أخرى.
أزعم أن حب الكتابة عند الشاعرة مالكة بدأ منذ أن بدأت تنصت لأنين مدينتها خنيفرة، ولذلك فالأماكن والشخوص لهم حضور قوي في هذا العمل الذي استعملت فيه الكاتبة عدة تقنيات لتبليغ الرسالة/الصرخة، منها تمرير المعنى على لسان الغير واستعمال لفظة هنا وهناك بالأمازيغية أو الدارجة، كما أنها تشرك القارئ في عملية التأليف بالإكثار من نقط الحذف، ناهيك عن إطلالة الميلودراما واستعمال الجمل ذات المفردات المتناقضة.
كما أزعم أن أقوى لحظات الإبداع في الكتاب هي حين تنتصر الشاعرة على الروائية، وحين تنتصر المبدعة على المناضلة، وفي تلك اللحظات أتت عبارات قوية منها :
- يزهو بملابسه الرثة
- معطف صبر وحذاء انتظار
- ميبلادن تزغرد وجعا.
- ظل الحزن صعلوكا على قارعة الحياة.
- إلبسي أوجاعك.
- تخمة الجوع.
- السكوت المقصود دوي يصم الٱذان.
- بشارات الهزائم.
الكاتبة مالكة حبرشيد أجد فيها المرأة المغربية الأصيلة، فهي عربية العرق، أمازيغية الهوى، مغربية الهوية، وقدرها أن تكون كذلك فوالدتها الأمازيغية لما تزوجت بوالدها العربي كانت هي الأمازيغية الوحيدة في قبيلة زوجها، وبسبب أخلاقها وصبرها اتجه جل شباب القبيلة يختارون الزواج من فتيات القبيلة الأمازيغية المجاورة مما وحد القبيلتين في بوثقة واحدة موحدة، وذاك مثال للتلاقح العربي الأمازيغي ببلادنا العزيزة.
هذه الكاتبة الأمازيغية/العربية هي مسلمة العقيدة اشتراكية المذهب السياسي، نبوية الدفاع عن حقوق المرأة، تقصف ولا تبالي، تقول كلمتها الحرة ولا تهتم بالنتائج، تقول للجلاد أنت جلاد، وتدين السلطة، وتفضح أشباه المثقفين مزدوجي الوجه والمبادئ، وتمقت سوق النخاسة الانتخابي.
وأنا السائح بين هذه السطور أحدث نفسي وأقول، ما هذا التشاؤم ؟ لكن صاحبة الصحيفة لا تتنازل، فهي تعلن نفسها كاتبة لالتقاط السواد ( على الرغم أنه لا يليق بها ) وذلك رفضا منها للدخول في الجوقة. لكن سوداوية و تشاؤم الكاتبة لا ينم في العمق عن هزيمة بقدر ما ينم عن حرقة وأمل في الانتصار والتجاوز.
الطفلة مالكة كانت بعشق متعدد وتعطي لحياتها معنى داخل غرفة بيتها متحركة بين الأدب والرقص والغناء، وعلى الرغم كل الحظر الممارس من أهلها فهي أحيانا وبتٱمر مع والدتها تنسل من البيت لتمارس نجوميتها فتكون أحيانا ماجدة وهي تركب الطائرة مع حبيبها، وأحيانا سعاد حسني النشالة، وكثيرا ما رأت نفسها جميلة بوحيرد وهي تمد الثوار بالسلاح والطعام، ولما تخرج من سينما الأطلس تختلس الخطوات من الجنبات خوفا من أن تلتقطها عينا أخيها فيضيع منها ما حملت من زاد وذخيرة.
تعود البطلة للبيت وقد انشطرت الى نصفين. نصف مستسلم للخوف، وٱخر متمرد على تقاليد الاجترار القاتل.
الطفلة مالكة التي كانت بطلة أفلام والتي حاورت المتنبي مرارا والتي حلمت أن تكون شاعرة أو قائدة ثورية منقذة أو أميرة شارل. كبرت على وسادة الأرق واكتشفت أن الوطن ليس خنيفرة، وأنه أكبر من ذلك. لكن للأسف مع كبر الوطن كبرت الهموم. وعلى الرغم من ذلك أقول شخصيا أن جزءا من حلمها تحقق، لقد أصبحت شاعرة مبدعة بحجم مطبات الوطن، وأصبحت ناشطة حقوقية أدانت الظلم والقهر والجهل وأدانت حتى الذكورة، وأتساءل كم كانت تحتاج من ديوان لتهجو الذكورة لولا بصمة والد حنون يحب والدة صبورة.
أصبحت شاعرة لأنها حاورت المتنبي، ولأنها أنصتت لأدب الشارع السبعيني ( الحلقة ) ولأنها تابعت حكي عمي موحى الذي تحدثت بلسانه، ولربما في لحظات ما تحدثت الكاتبة على لسانه، هذه الأخيرة التي برعت في وصف جسده الذي أنهكته الحرب العالمية الثانية، وزاده المخزن إنهاكا لالشيئ سوى لأنه ينتمي للقبيلة نفسها التي ينتمي إليها الثائر أومدة .
كبرت الطفلة وأدانت إدريس البصري الذي حلق شعر الشيختين فاطمة قسو وتاولعيبات لأنهما رفضتا الرقص أمامه هو وضيوفه في 3 مارس ولسان حالها يقول إن للحق دمعا وللباطل أنيابا.
كبرت الطفلة وأدانت مديرة الثانوية مارگيريت تاتشر.
كبرت وأدانت الرقية الشرعية.
كبرت الطفلة وأعلت من شأن كوثر حفيظي، وثريا الشاوي، وسعيدة لمنبهي، ولم تنس أعلام خنيفرة موحى اوحمو الزياني، وموحى أوسعيد وعلي امهاوش.
ختمت الكاتبة كتابها بقصيدة شعرية تعتذر للشعر وتتهمه بمخاتلة المعنى، وهي بذلك تدافع عن عملها الذي اعتنى بكشف الحقيقة وتعرية المستور على حساب صنعة الكتابة بالرمز والمرموز، وفي السياق نفسه، وقبل القصيدة/الختم نجد في السطر ما قبل الأخير عبارة تقول ( بقدر ما يتحقق من تطور تكنولوجي يتوحش الإنسان ).