الجمعة 28 يونيو 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: الإبداع السياسي يطوِّر أسلوبَ التَّراشق عوض أن يطوِّرَ نفسَه!

أحمد الحطاب: الإبداع السياسي يطوِّر أسلوبَ التَّراشق عوض أن يطوِّرَ نفسَه! أحمد الحطاب
مصطلح التَّراشُق يُستعمل عادةً عندما يتعلَّق الأمر بالتَّرامي المتبادل بالحِجارة بين فريقين أو جماعتين. ليس هذا هو المعنى الذي أقصده. وحمدا لله أن أحزابنا السياسية لم تصل بعد إلى درجة التَّراشق بالحجارة. 
 
ما أقصده هو التراشقُ السياسي الذي تلجأ له الأحزاب السياسية أثناء الحملات الانتخابية وفي الجلسات البرلمانية المخصَّصة لمراقبة عمل الحكومة. وهذا التَّراشق، عوض أن تُستعملَ فيه الحجارة، تلجأ فيه الأحزاب السياسية إلى تبادل الشتائم والكلام الجارح، وأحيانا، الخارج عن نطاق الآداب والاحترام المتبادل. 
 
لكن، ما لم يخطر على بال، هو أن أيَّ مُ اقبٍ للشأن السياسي في البلاد، سيُلاحظ أن الإبداع السياسي، عوض أن يبرعَ في إيجاد الحلول لمشاكل المواطنين، فإنه سيخترع نوعا جديدا من التَّراشق. فعوض أن يتمَّ التَّراشُق بالحجارة، فإن حزبا سياسيا مرموقا، سبق له أن تراشق أعضاءُه بالصحون.
 
وبالفعل، إنه ليس أي حزبٍ سياسي. إنه حزب يجرُّ وراءه تاريخا حافلا بالنضال ومكافحة الاستعمار. حزبٌ سياسي معروفون أعضاءُه بمواطنتهم وحبِّهم للوطن. حزبٌ كان سبََّاقاً في تفجير الثورة ضد الاستعمار داخل المدن. 
 
سبحان مُبدِّل الأحوال! "لْفْقِيهْ للي نْتْسْنَّاوْ شْفَاعتو، دْخَلْ لْجَامْعْ بِبََلْغْتو"، أي، عوض أن يُنجِبَ الإبداع السياسي أنماطا جديدةً من ترسيخ الديمقراطية في البلاد، فإنه، فقط، طوَّرَ التراشقََ. إنه، فعلاً، تجديد راقي ومُتحضِّر حيث الصحون عوَّضَت الحجارة. ومتى حدث هذا التَّراشق بالصحون؟ حدث أثناء انعقاد أحد مؤتمرات الحزب الدورية، أي أثناء أهم محطَّة تُناقش فيها قضايا البلاد، وعلى رأسها، مدى التَّقدُّم الحاصل في تطبيق الديمقراطية على أرض الواقع.
 
وللحديث، بمزيدٍ من الاهتمام، عن الأشواط التي قطعها تطبيق الديمقراطية في البلاد، فيما يلي هذا سؤال يكاد يفرض نفسَه علينا : "هل لدينا أحزاب ديمقراطية؟" (ليس بالمعنى الأمريكي ولكن بالمعنى العام).
 
ما هو متعارف عليه هو أننا، عندما نقول إن هذا أو ذاك الحزب ديمقراطي، فالمقصود هو أنه يؤمن بالديمقراطية وبمبادئها ومؤسساتها. والإيمان بمباديء الديمقراطية ومؤسساتها هو، في نفس الوقت، إيمان بدولة الحق والقانون وبالمساواة بين المواطنين وبممارسة الحريات العامة والفردية... وكونُ هذا أو ذاك الحزب ديمقراطيا، فهذا معناه أنه بجانب الشعب و منبثق منه.
 
غير أن هذا التَّوضيحَ يقودنا إلى طرح سؤال آخر لا يقلُّ أهمِّيةً عن السؤال الأول: "هل هذه المواصفات السابقة الذكر تنطبق على أحزابنا السياسية؟" حتى ننعتها بالأحزاب الديمقراطية.
 
ما بيّنته و تبيِّنه التجربة، و على امتداد على الأقل خمسة عقود، هو أن الديمقراطية بريئة من أحزابنا السياسية. فكيف لأحزابنا السياسية أن تكونَ ديمقراطيةً وهي لا تحترم الديمقراطية بعُقر ديارها؟ فكيف لأحزابنا السياسية أن تكونَ ديمقراطيةً وبعض قياداتها، من بينهم وزراء، لا يحترمون لا الدستور ولا دولة الحق والقانون ولا القانون نفسه؟ فكيف لأحزابنا السياسية أن تكون ديمقراطيةً وهي تدخل مباشرةً بعد الانتخابات في سُبات عميق ولا تستيقظ منه إلا بحلول الاستحقاقات الانتخابية الموالية؟ فكيف لأحزابنا السياسية أن تكون ديمقراطية وهي السبب الرئيسي في عزوف المواطنات والمواطنين عن السياسة وعن الانتخابات؟ فكيف لأحزابنا السياسية أن تكون ديمقراطية وهمُّها الوحيد هو رِبحُ أكبر عدد من كراسي السلطة؟ فكيف لأحزابنا السياسية أن تكون ديمقراطية وهي تتلاعب بالقاسم الانتخابي ليكونَ حظُّها أوفر في الحصول على كراسي السلطة؟ فكيف لأحزابنا السياسية أن تكون ديمقراطية وتمثيلها للشعب لا يخدم إلا مصالحَها الضيقة؟ فكيف…
 
كما سبق الذكر، الديمقراطية بريئة من أحزابنا السياسية وإن تشدَّقت بها، فتشدُّقُها ليس إلا ذرا للرماد على العيون. وإن تشدَّقت بها، فلحاجة في نفس يعقوب وسرعان ما ينكشف أمرُها.
 
فلا غرابة إذن أن تلجأ أحزابنا السياسية إلى التَّراشق اللفظي البعيد كل البُعد عن اللِّياقة واللباقة والاحترام المتبادل. لأنه، كما يُقال، فاقد الشيء لا يعطيه. فعوض أن تتراشق الأحزاب السياسية باللغط والشتائم والكلام المُنحط، فعليها أن تتراشق بالأفكار البناءة والبرامج الواعدة والحجج والأرقام الدامغة والدراسات الاستشرافية والحلول الإبداعية لقضايا الشعب وهمومه…. 
 
بل لا غرابة أن تتراشقَ أحزابُنا السياسية بالصحون. ولا غرابةَ إذا سمعنا في يوم من الأيام أن أحزابنا السياسية طوَّرت التَّراشُق، وعوض أن تتراشقَ باللغط والشتائم والصحون، أصبحت تتراشق بالحجارة. كل شيءٍ ممكنٍ في مشهد سياسي فاسد!
 
الحزب السياسي، كمفهوم متداول في أيامنا هذه، هو الحزب الذي يجتهد ليُطوٍِرَ أنواع الفساد! والفساد السياسي هو السائد اليوم، في مشهدنا السياسي!
 
في أمصار أخرى الأحزاب السياسية المواطنة، المنبثقة من الشعب، المنصهرة في قضاياه الأساسية، لا تتخلى عن الديمقراطية وعن مبادئها وعن مؤسساتها، مهما بلغ بها الفساد!