الأربعاء 26 يونيو 2024
كتاب الرأي

سعيد ألعنزي تاشفين: تأملات في سوسيولوجيا العيد

سعيد ألعنزي تاشفين: تأملات في سوسيولوجيا العيد سعيد ألعنزي تاشفين
أولا : منهجيا يقتضي رصد القيم المضمرة مجتمعيا بمناسبة العيد استحضار كونه مناسبة دينية ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) ، واجتماعية مرتبطة بالعرف المعياري كما تمثله المغاربة ، وما يزالون ، أبا عن جد ، ومناسبة اقتصادية تدعمها الماكينة الرأسمالية للتحريض على النزعات الٱستهلاكية خدمة لترويج السلع وانشيط الإقتصاد وصرف المذخرات . لذلك فلا يمكن مقاربة القيم الرائجة بالعيد من دون النظرة المركبة له بمنأى عن التديين المحنط للعيد وعن النفحة الإستهلاكية الطاغية . وعليه ، بعد الملاحظة والتأمل ، أرصد ما يلي :
* المجتمع المغربي عموما مجتمع قروي ، ذلك أن مؤشر الهجرة المعكوسة من المدن نحو الأرياف يبرز ريفية المجتمع من خلال ريفية نخبه وجمهوره ضمن ما أسميه هنا ب " بدو الحواضر " . فالدار البيضاء كأكبر تجمع سكاني مغربيا تشهد تراجعا مهولا من حيث عدد البشر بمناسبة العيد ؛ ذلك أن " السواسة " المحتكرين للتجارة يقصدون أرياف سوس الأقصى ، كما أن " الجْبالة " العاملين بالسياحة ( مرشدين وبالبازارات ) يقصدون قرى الريف الأوسط ، في حين يرجع " الصحراوا " نحو قفار الجنوب الشرقي وهم إما فئة اليد العاملة الرخيصة في سوق الشغل ( البناء والتعمير وحراسة الفيلات وخادمات المنازل ) أو النخبة التقنية من مهندسين وتقنيين بشروط جد مجحة بالمقاولات العائلية " الوطنية " أو بفروع الشركات العالمية . لذا ينقلب اتجاه الهجرة بمناسبة العيد من الدار البيضاء نحو المغرب العميق كمغرب أخر يصدر البشر ضمن حيثيات الهجرة القروية المفروضة بسبب إفلاس المقاربات الرسمية لأعطاب التباينات المجالية الفجة . وما يحصل مع الدار البيضاء هو نفسه ما يحصل مع طنجة ومراكش وأكادير ( العمال والعاملات في تخصص الزراعة والتقنيون وبعض المهندسون بكثير من اللاوعي السياسي ) .

 
ثانيا : تفشي ظاهرة التسول بشكل مرعب بحيث من أجل ممارسة السنة المؤكدة في مجتمع يفترض أنه مسلم يلجأ الفقراء إلى التسول بفضل شرعية الله لتبرير الإنخراط في تحويل العبادات إلى عادات ، رغم أنه " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " . ومناط الإنحراف من العبادة إلى العادة هو غلبة المعيار الإجتماعي ( العرف ) على الوازع الديني ، ومناسبة العيد تفضح الفقر المذقع والمستشري في صفوف المجتمع الذي يتبجح بالتدين ضمن تناقض باطولوجي قوامه التطبيع مع التسول وعدم التشديد على إخراج الزكاة وقبول ممارسة الكبائر كشرب الخمر وممارسة الزنى والخيانة الزوجية .. ضمن نفس المرجعية التي ترفض عدم ممارسة شعيرة الدبح لأنها من تقوى القلوب . والإستنتاج هنا قاس ومرد قسوته هو التعامل الإنتقائي - ( المرضي ) مع الدين الذي ليس ألا مبررا لشرعنة التناقضات الكبرى الملاءمة لمجتمع متوافق بنسبة كبيرة جدا على أنه مجتمع مسلم . فعل يستشري الفقر في المجتمع المسلم ؟ هل يقبل هذا المجتمع التسول ؟ هل يقبل هدر الكرامة؟ 
 
ثالثا : مع التوجه الرسمي نحو مأسسة التسول عبر مؤسسات الإحسان العمومي لم يعد تسول الرجل وهو بكامل قواه العقلية والجسدية عارا ، ذلك أن شرعنة الدولة للإحسان خلق " وعيا " مزيفا لدى الجماهير يسمح بهدر الكرامة من خلال التسول الذي لم يعد حبيس فئات محددة بل أصبح مهنة الشباب . ولذلك تجد رجلا بلا شغل وأب لستة أطفال يتسول من موظف أعزب لا زوجة ولا أولاد له لدواعي اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية ، في حين يؤسس المعطل المتسول أسرة من خمسة أو ستة أفراد باسم الإحسان والتسول أو تحت مبرر " رزاق الله " على أن يتحمل المجتمع مع هذا النوع مسؤولية تربية أبنائه ضمن عبثية الفهم والتأويل في بناء المجتمع .
 
رابعا : غلبة الجوع ( لاز أو بوهيوف أو الهِمري " لدى الأغلبية الساحقة ( عينات متكررة في المجتمع ) ، بحيث لا يخفى ، مع ثخمة في الإيحاءات ، الفرح الفردي والجماعي بوفرة اللحم ، ذلك أن رصد الصورة المنتشرة في وسائل التواصل الإجتماعي يفيد هيمنة صور " بولفاف " أو " الضوارة " أو تطهير الأمعاء ؛ وكلها تعبيرات عن الفرح بتملك اللحم استثناء بما يفضح الإنتقام البسيكولوجي من الجوع / لاز ؛ حتى أن استهلاك  " الحولي " يكاد لا يترك أي قطعة منه خارج دائرة الإلتهام . ويكفي كذلك ملاحظة استهلاك المشروبات الغازية بالمقاهي تعبيرا عن مشروبات تناسب التناول المفرط للحم على نقيض " قهوة كحلة " على طول العام انسجاما مع الجوع أو لاز ؛ إذ يكفي التأكد من الإرتفاع الكبير في استهلاك " الكوكا " و " الشويبس " من لدن الأمعاء الجائعة بمناسبة العيد عكس باقي أيام السنة ، لكن هذه المناسبة بكثير من النهم الذي ينكشف بكثير من المظاهر والتجليات .
 
خامسا : ازدواجية المعايير لدى الأغلبية الساحقة ، فالعلماني الذي يرفض الدين بدوره لا يمكن إلا أن يحضر العيد محتفلا ومبتهجا ضمن شروط المعيار الديني العام ، بل قد تجد ملحدا أو لا دينيا بدوره يحتفل بالعيد بدل أن يكون هو نفسه أول من يقاطع من أجل فرملة البهرجة المجتمعية باسم المقدس الديني . لذلك تجد الماركسي الراديكالي والأمازيغي العلماني والعلماني الليبرالوي واللاديني الملحد .. يحضر إلى مسقط رأسه منسجما مع المعايير الإجتماعية التي تمتح من الديني فينشر بدوره عبارات " مبروك لعيد " ويزور الأهل والعائلة وقد يحضر مراسيم الدبح ويلتهم اللحم بضعة أيام خاصة أن اللحم مفيد جدا إذا تناغم مع المشروبات الحمراء في واضحة الزوال ثم مع المشروبات الصفراء بالمساء وفق انسجام كبير مع المعايير الإجتماعية ، ثم بعد أسبوع أو أقل أو أكثر بقليل يغادر نحو مدن بدو الحواضر في انتظار العيد المقبل دون أدنى تمكن من اقناع نفسه بضرورة الإنسلاخ من طبائع المعيار الإجتماعي ، ودون أدنى قدرة على تربية أبنائه وفق ما يؤمن به رغم ضجيج الحداثة والتحررية والأدلجة . وعليه فالجميع بهذا الشكل متدين وفق طقوس محددة رغم بريق الأيديولوجيا وصخب الوعي الشكلي بعمق نكوصي - ارتكاسي مفضوح . وعلى نقيض هذه النمادج يحضر السلفي - الإسلامي العيد بسيارة فارهة وبجيبه أجمل " سمارث فون " ، ويتواصل بالفايس بوك والإنستغرام والتيك توك والوتساب ، ويضع أجمل العطور ويستهلك بنهم ويقتني لأودلاده أجمل الألبسة الأجنبية ، ثم يتحدث هو نفسه إيديولوجيا عن الزهد والقناعة بالقليل مذكرا العباد بورع أبي ذر الغقاري وبزهد النبي ، وهو السلفي - الإسلامي عينه الذي يؤثث منزله يالفسيفساء والرخام وبأجمل الأثات من ايطاليا ربما أو من بلاد الأتراك وهو ينخرط في لعبة الرأسمالية وفق تناقضات أيضا باطولوجية مكشوفة .
 
سادسا : الرابحين الكبار من العيد هم الأبناك ، محتكري وسائل النقل ، تجار المواد التجهيزية مثل التجهيز المنزلي الذي يستقيد من سلوكات التباهي الإجتماعي ، لوبيات استيراد الأغنام ، شركات القروض الصغرى ، تجار قطع غيار السيارات ، سماسرة السيارات ، المقاولات الصغرى والمتوسطة مثل المقاهي والمحلبات والحمامات والصيدليات وسيارات الأجرة الصغيرة ، أصحاب محلات الأثاث المنزلي . 
 
سابعا : أكبر خسارة هي عجز النخب الماركسية والأمازيغية والليبرالية واللادينية عن فرض إرادتها ثقافيا من أجل نوع من " البلوكاج " حيال الرأسمالية الطاردة لقيم الأرض التي تُخضع كل التفاصيل لتحقيق الربح بما في ذلك استثمار المقدس الديني لصالح الشركات والمقاولات . فعدم تماهي نخب الحداثة الشكلية مع المعايير الإجتماعية يفيد في فرز فكري سليم لصالح الممانعة التي تهدر من لدن اليسار واليمين والوسط والسلفي والعلماني ضمن عبثية الفوضى المؤسَّسة في الأعماق بما يفضح زيف الإدعاءات الشفهية التي ليست إلا أصولا تجارية تضمن للنخب نصيبها من ريع الفوضى الممنهجة كما تفضح ذلك سوسيولوجيا العيد .
 
وحتى لا أطيل ، لأن الأمثلة قاسية جدا ، أكتفي بهذا القدر من الرصد تفاديا لخدش فرح الغير ، ذلك أن الأمثلة قاسية فعلا ومربكة ضمن ما أسميه ب " سوسيولوجيا العيد " وطبعا مع موفور الإحترام لكل شخص ذاتي لأن القصد المنهجي هو رصد الظواهر وتحليل السلوكات ، لا محاكمة الأشخاص وتنقيط درجات الإنسجام .