هو درس واحد، لكنه درس رئيسي، تقدمه دولة الرأس الأخضر Cap-Vert لكافة دول العالم الثالث. وهو درس ينسف ما تروجه حكومات العالم المتخلف سياسيا، من كون ضعف نسبة النمو وانكماش الاقتصاد والفقر والبؤس والهشاشة والفوارق المجالية هي "قدر مكتوب في لوح محفوظ"، وما على شعوب العالم الثالث إلا أن تستسلم لسياسة حكوماتها في تبذير ونهب ثروات الشعوب وتسمين نخبها الماسكة بالقرار السياسي والاقتصادي.
جزر «الرأس الأخضر»، الموجودة في عمق المحيط الأطلسي غرب إفريقيا (تبعد عن ساحل السينغال بحوالي 600 كيلومتر)، رغم أنها ثاني دولة إفريقية من حيث قلة عدد سكانها (500.000 نسمة)، ورغم صغر مساحتها وتشتت جزرها العشر، وافتقارها للثرواث الطبيعية، ومعاناتها مع الجفاف الدائم وندرة الماء، ووعورة تضاريسها الجبلية، وفورة براكينها التي تقذف الحمم في كل حين (آخر انفجار بركاني حدث عام 2014)، مما يرفع من كلفة إنجاز وصيانة البنى التحتية، فإن دولة «الرأس الأخضر» تعد الأقل فقرا في محيطها الإفريقي، وتعتبر من بين الدول القلائل التي لا توجد فيها الفوارق الاجتماعية الصارخة، وتعد قاطرة الدول الأقل فسادا، وتعطى كمثال في الدول الأكثر شفافية، فضلا عن كون Cap-vert تبقى من الدول التي توزع فيها ثروة البلد بشكل منصف بين الفئات المجتمعية وبين المجالات الترابية.
كل هذا تحقق في «الرأس الأخضر» بفضل مفتاح الديمقراطية. هذه الأخيرة لم تعوض الطبيعة عن الثرواث المفقودة، ولكنها كانت الوصفة لحماية البلد من سرقة المال العام، وكانت الضامن لإعادة توزيع المال العام (على ضعفه وقلته) على شعب "الكاب فير"، بشكل جعل جزر «الرأس الأخضر» تعد اليوم من بين الدول الأوائل المستقرة سياسيا في إفريقيا، وتصنف كأول ديمقراطية ناشئة، ليس بإفريقيا فحسب، بل في مجموع الأمم المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة. لدرجة أنه ينسب للوزير الأول Ulisses Correira، قوله: "إن ديمقراطيتنا هي بيترول الرأس الأخضر".
الدليل أن الرأس الأخضر، الناطقة بالبرتغالية، لأنها كانت مستعمرة برتغالية طيلة 5 قرون، شأنها شأن دولة "غينيا بيساو"، حلقت في سماء النماء والديمقراطية والاستقرار السياسي، (رغم تواضع اقتصادها) بينما ظلت "غينيا بيساو"، التي تتقاسم معها اللغة والماضي الاستعماري البرتغال، غارقة إلى اليوم في الفقر والتخلف والحرمان والبؤس، لدرجة أنها تصنف ثاني أكبر بلد من حيث الفقر بإفريقيا، علما أن كلا البلدين حازا الاستقلال عن الاحتلال البرتغالي في نفس الفترة: غينيا بيساو استقلت عام 1974، والرأس الأخضر استقلت في 1975.
والسبب؟
أن "غينيا بيساو" غاصت منذ 1974 في مستنقع الانقلابات العسكرية (عرفت 10 انقلابات منذ الاستقلال)، وعانت من التناحرات الإثنية، رغم كونها بلدا أكبر مساحة وسكانا من الرأس الأخضر . ورغم أن "غينيا بيساو" تتوفر على مختلف الثروات الطبيعية (ماء، أكاجو، خشب، نفط، معادن، ساحل غني بالثروة السمكية...)، إلا أن معدل الحرمان والهشاشة فيها جد فظيع مقارنة مع الرأس الأخضر.
بل المثير أن "غينيا بيساو" و"الرأس الأخضر" لما حازا الاستقلال معا، شكلا وحدة سياسية بعلم واحد وبدستور واحد. إلا أن تباين المواقف والرؤى في التشبع بالمساواة وتوزيع الثروة جعل الرأس الأخضر تنفصل عن اندماجها مع "غينيا بيساو"، وتشق طريقها لوحدها في عهد الحزب الوحيد الشيوعي السابق PAIGC، وهو الطريق الذي تم رسمه بأفق مستقبلي ومنفتح سياسيا ومسنود بنفس ديمقراطي يوم 13 يناير 1991 (انهيار جدار برلين تم عام 1989)، وانتقال سلس للحكم من الشيوعيين إلى الليبراليين MPD عبر انتخابات شفافة ونزيهة، ونجاح الشيوعيين في "الرأس الأخضر" في التكيف مع المتغيرات السياسية، وتحيين مرجعياتهم نحو الجناح الاشتراكي الديمقراطي. وهذا ما جعل "الرأس الأخضر" تعيش، على رأس كل 10 سنوات، على إيقاع تناوب سياسي بين الحزبين الكبيرين: MPD و PAIGC، اللذين خلقا عرفا بجزر "الرأس الأخضر"، ألا وهو: الولاء للدولة وتحدي أطماع القوى الكبرى والجهوية لابتلاع البلد ذي الموقع الاستراتيجي في خطوط الملاحة البحرية بين ثلاث قارات، والحيلولة دون بروز فوارق اجتماعية صارخة، والحرص على اقتسام ما يرد على البلد من مساعدات خارجية ومن تحويلات المهاجرين (هناك 700 ألف من سكان الرأس الأخضر بالخارج، هاجروا منذ عهد الاستعمار)، واقتسام ما ينتجه الشعب من ثروة (على قلته) بالعدل والإنصاف على كافة الطبقات والمناطق، لدرجة أن صندوق النقد الدولي سجل تطورا للناتج الداخلي الخام بالرأس الأخضر بنسبة 6% خلال عشرية واحدة قبل الكوفيد.
ولهذا، لم يكن من العبث أن يكون يوم 13 يناير من كل عام (تاريخ أول انتخابات ديمقراطية عام 1991) عيدا تحتفل به جزر "الرأس الأخضر" لتنتشي بمسارها وتميزها.