الأحد 24 نوفمبر 2024
خارج الحدود

مثقفون سوريون يجيبون عن سؤال: ما هي "داعش"؟

مثقفون سوريون يجيبون عن سؤال: ما هي "داعش"؟

حتى يومنا هذا، لاتزال "داعش" فكرة مجرّدة على رغم ممارساتها الإجرامية. لاتزال كحفنة غبار يقال إنها تتسع وتتمدّد. البعض يصفها بـ"دولة الرعب" والبعض يقول إنها "تنظيم إرهابي". محاربتها سياسياً وميدانياً وعسكرياً، خلطت الأوراق بعضها ببعض. حتى ليخيّل للمراقب أن مصالح النظام السوري وحليفته إيران باتت تتلاقى مع مصالح أعدائهما. وكثيرون يتجاهلون أن محاربتها عسكرياً في سورية ليست كافية في ظلّ قبول لافت في بعض أوساط "السنّة" وفي ظلّ الفراغ السياسي المدوي الذي تعيشه المنطقة بأكملها.

عن "داعش" سألت "المدن" مجموعة من المثقفين السوريين، هل هي انهيار دولة أم مجتمع أم عقيدة؟
 

ياسين الحاج صالح

"داعش" غول، كائن مجنون، ولد من زواج ظاهرة تغول السلطة التي نعرفها من عقد الثمانينات، مع مرض الإسلام المتفاقم الناجم عن عسر تكيفه مع الحداثة. كان لدينا غول هو النظام، ولأننا لم ننجح في ترويضه وأنسنته تولدت غيلان أخرى من التقاء نزع إنسانية المحكومين مع الدين المريض، وصارت المهمة أصعب. لكن لا مناص. وأتصور الأنسنة فعل ثقافي تأسيسي وكبير، وفعل تحرر سياسي واحتماعي. نحتاج برأيي لثورة كبيرة على مستوى الثقافة، وإلى دخول قطب جديد في حياتنا العامة ينازع الدولة الغول والدين الغول، ومؤهل للفوز بهذا الصراع. قطب الكرامة الإنسانية المتفوق أخلاقيا وسياسيا وثقافيا طبعا على الغيلان، والقادر على ترويضهم. وعلى خلفية سحب الثقة من العالم وعدالته بفعل الانحياز الغربي المديد والفاضح لإسرائيل.


سلام الكواكبي

أشعر بمزيج من الغضب والحزن وأتذكر أصدقاء رحلوا كما نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون حاولوا، وقبلهم عديدون، أن ينبّهوا إلى ضرورة أنسنة الممارسات الدينية وتمّ تكفيرهم ومحاربتهم. بالطبع، ساهمت الأنظمة الاستبدادية بكافة أشكالها العلمانية والدينية في المساعدة وتدعيم ظهور التطرّف من خلال تصحير المشهد الفكري ومحاربة التنوير وكل ما يمت بصلة إلى المحاكمة العقلية لأمور الدين والدنيا. أرى أيضاً في توسع ظاهرة "داعش" انحطاطاً ثقافياً يسأل عنه كثير من النخب العربية التي عاشت في أبراج عاجية فكرياً ورفضت أن تعترف أو تتعرّف على طبيعة مجتمعاتها ولم تتفاعل معها، بل أرادت أن تأتي إليها صاغرة. و"داعش" بالنسبة لي هي مجموعة هجينة من مدمني المخدرات والقتلة والظلاميين والمتخلفين عقلياً، يستعملهم أناس أكثر معرفة منهم بما هم فاعلون، وتتعامل معهم، بشكل مباشر أو غير مباشر مؤسسات أمنية حكومية أو شبه حكومية في الكثير من دول المنطقة، إما لتتقي شرّهم أو لتستخدمهم في أجندات قصيرة الأجل وغبية الرؤيا. وأنا لست من محبذي نظرية المؤامرة ولا أعتبرهم صنيعة أجهزة أو على علاقة مباشرة مع سلطات ولكنني أعتقد بالتقاء المصالح وبالتبادل في المنافع ووجود هذه العصابة أدى إلى انتشار الخوف والرهبة وسادت أخبارهم على إعلام الدنيا وابتعد الاهتمام عن المشاكل الإنسانية وأوضحت السلطات بأن حديثها عن الإرهاب مسنود وليس فقط ضرباً من الخيال الممزوج بالكذب كما بدأ. هنا تتم الاستفادة، ويستفيد أيضاً معارضو الديمقراطية من الدول التي تدّعي دعم ثورة الشعب السوري فهي تخلق لهم عدوّاً يدفع للرهاب من كلمة الحرية ويحاسب عليها بقطع الرؤوس. هم متطرفون وهم إرهابيون ولكنهم يستندون إلى مرجعيات دينية لم تسمح السلطات المستبدّة التي ادّعت العلمانية للفكر المستنير بأن يواجهها طوال عقود مما أدى إلى نموها في بيئة عفنة. وكل من حاول الالتفاف عن إدانتها منذ البدء مدعياً بأن المعركة ليست مع المتطرفين، مسؤول بصورة أو بأخرى عما آلت إليه.


حسان عباس

جاءت "داعش" باعتقادي من تضافر عدد من المعطيات:

1- الجانب العنفي في الثقافة الإسلامية، حيث تتجاور الدعوات إلى العنف والقتل مع دعوات التسامح والرحمة في النصوص المؤسسة للعقيدة. وكذلك تتداخل قصص العنف مع قصص الرحمة في التاريخ الإسلامي منذ السيرة النبوية حتى اليوم. يكفي أن نستمع إلى خطب بعض الدعاة من شيوخ التطرّف من أمثال "محمد العريفي" و"نبيل العوضي" و"صالح اللحيدان"، على سبيل المثال لا الحصر، لنلمس العلاقة المتينة بين الخطاب الديني والتشدّد الذي تمثل "داعش" إحدى تجلياته.

2- عنف النظام: فقد تصاعدت الوحشية التي مارستها أجهزة القمع الرسمية المختلفة منذ اندلاع انتفاضة الكرامة لتبلغ درجة لا يمكن معها الاستغراب من ظهور ردود أفعال توازي في عنفها عنف النظام. إن قطع الرؤوس والصلب والإعدامات الجماعية عمليات وحشية بامتياز لكن ما الذي يفرّقها عن أشكال التعذيب والقتل والإعدامات الجماعية التي قامت بها أجهزة النظام في الميدان أو في السجون؟

3- الأوضاع التعبوية والمادية التي وجد فيها الجيش الحرّ: جاء تشكل الجيش الحر ردّاً طبيعياً على الحل العسكري الذي اختاره النظام منذ اليوم الأول للمظاهرات. هذه النتيجة لم تردها ولم تتمناها غالبية القوى المشاركة في الانتفاضة السلمية لكنها جُرّت إلى أرض مواجهة ليست لها فيها أي خبرة، ولا تمتلك فيها ما يكفي من العتاد لمواجهة الترسانة الهائلة للخصم، وتفتقد للموارد المالية الكافية القادرة على تعويض نضوب الموارد المالية للمقاتلين وعائلاتهم. فما كان من الكثير منهم إلا أن ذهبوا إلى من لديه الموارد الكافية لتغطية النقص في المال والعتاد وخاصة بعد تعزز الصفة الدينية، والطائفية، لغالبية الكتائب المقاتلة في الجيش الحرّ.    

4- الوضع الحقوقي الدولي إذ ثمّة تراخٍ دولي محبِط في تقدير كرامة البشر واحترام حقوق الإنسان. كل القيم أصبحت مهانة، وكل الحقوق مستباحة، ويجب علينا أخذ ذلك بعين الاعتبار عند التساؤل عن العنف الناهض المؤسس للحركات الجهادية. كيف يمكننا ألا نتفهم ثورة المسلمين في أي مكان في العالم لرؤية إسرائيل مثلا تنتهك الأعراف والمواثيق في فلسطين؟ أو كيف يمكننا ألا نستوعب ثورتهم أمام سكوت العالم أمام جريمة بحجم جريمة قصف الغوطة بالسلاح الكيماوي؟

5- الجاذب المالي: إذ أن الكثير من الملتحقين بقوى الجهاد الإسلامي، مثل "داعش" وأخواتها، هم من الشباب المحرومين والعاطلين عن العمل في بلدانهم والذين يجدون لدى "داعش" "عملاً" مجزياً يضيف على متعة الالتزام الديني متعة الاكتفاء المادي الدنيوي. ولم يعد خافياً على أحد أن هجرة المقاتلين من ألوية الجيش الحرّ إلى "داعش" و"النصرة" تلقى في التباين بين المكافآت المدفوعة من هؤلاء وأولئك تبريراتها المباشرة.

جاءت المعطيات المذكورة أعلاه، في غالبيتها، نتيجة لظروف تفاعلت لتخلق المناخ الملائم لإنتاج بذور العنف على الشكل الداعشي أو النصروي. هذا ما يسمح لنا بالاعتقاد أن زوال هذه الظروف سيعيد عفاريت العنف الكامنة في الثقافة الإسلامية إلى قماقمها. إن اختيار "داعش"، من بين كل شعاراتها البسيطة، لشعار "الدولة الإسلامية باقية" لتلزم الجنود المساقين إلى ساحة الإعدام على ترديده أمام مصوري العملية لهو برأينا دليل على القناعة الدفينة لدى القادة الداعشيين أنفسهم بأن بقاء الدولة أمر صعب بل مستحيل، وأنهم كانوا يصعدّون الخوف الدفين من الزوال بإجبار الضحايا على ترديد البقاء كحقيقة مشتهاة.

هذه القناعة لا تدفعنا إلى الدعوة إلى الاستكانة لتقلبات التاريخ بل هي دعوة للعمل على قلب التاريخ وحشد الجهود من أجل القضاء على هذا الوحش الملثم الذي لا علاقة له بأي دين أو حضارة أو ثقافة عرفها الإنسان.


محمد العطار

في بداية العام 2014 شنت فصائل الجيش الحر بالتعاون مع بعض فصائل إسلامية حملة لطرد "داعش" من معاقلها في شمال وشمال شرق البلاد. بعد نجاح الحملة في حلب وجزء واسع من ريفها، وكامل الريف الإدلبي، عادت "داعش" لتسيطر على مدينة الرقة بالكامل. لكن نقطة التحول أتت بعد انتصارات التنظيم الخاطفة في العراق. تلى سقوط الموصل، مشهد سريالي لعبور عربات "الهامفي" الأميركية مزينة بأعلام الخلافة السوداء للحدود السورية! أولى النتائج كانت سيطرة التنظيم على عموم دير الزور، وتوسعه مجدداً باتجاه حلب. من المهم هنا أن نتذكر أنه حتى الأمس القريب، لم تسجل معارك عسكرية كبيرة بين "داعش" والنظام. حدث هذا أخيراً فقط، بعد أن أصبح التجاور بينهما حتمياً بعد دحر الفصائل الأخرى (الفرقة 17 ومطار الطبقة في الرقة). الاصطدام جاء أيضاً نتيجة لاستراتيجية "داعش" في توسيع سيطرتها على مصادر الطاقة الخام (حقل الشاعر في ريف حمص الشرقي). كما أن النظام، وبعد أحداث العراق الأخيرة، بات يستجدي إثبات أهليته في الشراكة بالحرب على التنظيم، كمدخل لإعادة تأهيله دولياً. حاول البرهنة على ذلك بتكثيف غاراته التي توقفت على الرقة بعد استيلاء التنظيم عليها. كان هذا موضوع تندر عام للرقاويين بالمناسبة. عدا ذلك يبدو أن أولوية الطرفين تبقى قتال كتائب الحرّ وفصائل إسلامية أخرى لكسب مزيد من الأرض.

من المدهش أن تغول "داعش" اليوم في سوريا، يقوم على تطبيق سياسات شديدة الشبه بسياسات النظام السوري، من استخدام العنف المفرط وتوثيقه لأسطرة الرعب وترهيب الخصوم ودفعهم للانسحاب مع قدوم طلائع مقاتلي "داعش". إلى السيطرة على الموارد العامة لاحتكار تقديم الخدمات الأساسية. وصولاً إلى تقديم الامتيازات أحياناً، كما يحدث في علاقة "داعش" ببعض العشائر في الرقة وريف دير الزور، وهو أمر يترافق مع ربط التنظيم بالعصبية القبلية، عبر المصاهرات أو عبر انخراط عوائل كبيرة بالكامل في التنظيم. الأمر المعقد فعلاً أن موقع "داعش" في أقصى يمين الفصائل الجهادية، تجعل جماعات من الثائرين تؤجل مواجهات ضرورية مع فصائل أخرى متشددة، وإن كانت تقاتل "داعش"، لكنها تحمل أيضاً عداءً صريحاً لأهداف الثورة الأولى. الإنهاك جراء القتال على جبهات متعددة، وقلة الدعم تؤدي إلى مثل هذا التردد.

والحال على ما هي عليه اليوم، يصعب التصديق أن "داعش" تحتمل مزيداً من الشيطنة! الحق أن أياَ من هذا لا ينقصها. لكن البعبع الذي أصبحته فجأة وكأنها خُلقت من عدم، كأن لا سياق يؤرخ للمقتلة السورية، مُقلق. وجود هذا البعبع لمقارعته يناسب الكثيرين اليوم، قوى دولية وإقليمية متناحرة، عملت كلها على منع انتصار الثورة السورية كما أرادها السوريون. الإيرانيون ووكلاؤهم في العراق ولبنان، السعوديون، أميركا والغرب والروس طبعاً. كل هؤلاء يريدون سحق "داعش"، فهي ورقة مفيدة للتفاوض على شراكات جديدة، أو لتجهيل المسؤوليات الأساسية، أو لتعويض التأخر في المبادرة، أو لتدارك أخطاء سياسات الاحتواء والمراقبة البليدة! لكن هذه الأجندات إن لم تكن معنية بإنهاء أصل العنف في سوريا وبالانتقال إلى نظام سياسي تعددي يطوي صفحة الأسد. قد تمنح "داعش" قدرة على استقطاب شبان يعتبرون أن العالم لم يتدخل لمساعدتهم عبر سنوات من المعاناة، حتى حين قصفوا بالكيماوي، فيما تدخل بسرعة للاقتصاص من "داعش"! هنا يجب ألا نغفل أن خط المواجهة الأول ضد التنظيم هي بيئات سنية بالذات. عشائر في دير الزور وأهالي حلب وريف إدلب والغوطة وغيرها هم من يواجهون "داعش" عسكرياً ويخوضون ضدها حرب استقطاب الحواضن الاجتماعية أيضاً. قتلت "داعش" من هؤلاء أكثر مما قتلت من أي أقلية عرقية أو دينية أخرى في سوريا، هذا أمر يغفله الإعلام الغربي بالمناسبة. سيبقى هؤلاء خط المواجهة الأول مع "داعش" ومنهجها، إلا أن الخشية أن تحالفات تسعى لكسر "داعش" فقط دون وضع نهاية شاملة للمآساة السورية، سيؤدي إلى تنامي الشعور بالمظلومية السنية وبالتالي قدرة الأصوليين على جذب مزيد من الأفراد المدفوعين بالرغبة بالانتقام وبالحاجة للالتفاف حول هوية صلبة وجامعة.

أعرفُ شخصياً، وهذا غيضٌ من فيض معرفة السوريين وتجاربهم، أفراداً متنورين ومناضلين في سبيل الخلاص من الاستبداد، يقبعون اليوم بين سجون النظام وسجون "داعش". عملتُ مع بعضهم في الرقة قبل أن تعتقلهم "داعش"، كان هؤلاء قد سجنوا وعذبوا من قبل في أقبية مخابرات النظام. في حلب قتلت "داعش" أنبل الشباب الذين صادفتهم في إقامتي العام الماضي هناك، كانوا يقدمون للمدنيين خدمات جليلة عبر نهوضهم بالنقطة الطبية في حي بستان القصر. اعتقلتهم "داعش" وأعدمتهم، جميعهم كانوا مسلمين متدينين بالمناسبة، أحدهم كان قد فقد أخاه الأصغر في قصفٍ عشوائي لطائرات النظام على الحي قبل أسابيع فقط. أذكر هذه الأمثلة فقط لتقريب صورة الكماشة التي تخنق السوريين الثائرين اليوم.

مجابهة "داعش"، مهمة عسيرة، تتداخل فيها العوامل العسكرية مع السياسية والاقتصادية، مع ضرورة تقديم قراءات نقدية ومعمقة للنص الديني، تقطع مع عقود من جمود وتخلف المؤسسات الدينية في بلادنا. لكن الأمر يتطلب أولاً وأخيراً طي صفحة الأنظمة القائمة على تحالفات مافيوية وطائفية أيضاً. قد تضعف "داعش" في سوريا إثر ضربات مركزة، لكن تجفيف منابعها الفكرية والدعوية لا يستوي مع بقاء نظام الأسد وهو يستخدم القوة العارية في سحق محكوميه وسط تواطؤ دولي رهيب، سيبقى هذا أبداً مسوغاً قوياً لوجود "داعش" وأمثالها، ولشرعنة الفكر الأصولي. القضاء على "داعش" في سوريا على الأقل، يعني أولاً وأخيراً القضاء على أصل العنف في سوريا، على دولة الاستبداد. 

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)