يرى د.حميد لغشاوي، باحث في تحليل الخطاب أن المآسي الإنسانية تعد فرصة بالنسبة للمؤثرين في العالم الافتراضي، مادامت تشكل حالة ثقافية أوسع، للترقي في السلم الافتراضي، مشيرا بأن المعنى الوحيد للمآسي والأفراح بالنسبة للنجم في العالم الافتراضي هو مطاردة المشاعر المثيرة، وتشييد أسوار البقاء داخل المجتمع الافتراضي بتجديد الرغبات التي تخص الفئات المستهدفة من الزبائن المحتملين، مضيفا بأنه لا يمكن الحديث عن حلول في مواجهة هذا التهافت على نشر المآسي من طرف المؤثرين مادامت التقنية قد غسلت الدماغ وبنت موقعا جديدا، موضحا بأننا لم نعد نعيش واقعاً واحداً، الواقع المادي الذي يتأسس على قيم ثابتة ووليدة سيرورة تفاعل أجيال، بل نعيش أيضا واقعا آخر رقميا / افتراضيا، يفتقد إلى الزمن الاجتماعي والسياسي، ويتميز ب"اللايقين"، وهو ما يجعل القدرة على التفكير في العصر الحالي هي أصعب اختيار، وهذه الخصيصة يؤيدها الرأي العام الأبوي الذي يرى أن من أسباب مصائبنا هي شاشات " السمارتفون"، فقد جعلت الفرد مريضاً في نفسه مرضاً لا شفاء منه ولا علاج جدير بالاختبار، ما دامت مزاياها لا يمكن الاستغناء عنها، وأن النموذج المثالي للإنسان الذي تقدمه هو هذا المصاب بالهذيان والجنون الافتراضيين..
كيف تقرأ هذا التهافت من طرف بعض المؤثرين على نشر المآسي في غياب الحس الإنساني ؟
يطرح هذا الإشكال توجهين هما : المؤثرون (أو النجوم)، والمحتوى الافتراضي الذي ينتجونه. لقد بحثت في إشكالية المؤثر الافتراضي من زوايا مختلفة وخصصت لها كتابا " التمرد الافتراضي"، بحثاً في الخصوصيات الاجتماعية والدينية والسيكولوجية. والخلاصة التي انتهى إليها الكتاب هي أن المؤثر الافتراضي يظل موضع اختلاف كبير؛ لأنّنا لا نتعامل مع فرد ثابت، بل إن المجتمع الافتراضي يصنع نجوماً في كل حين، ويتخلص منها حين لا تقدر على مجاراة خوارزمياته الصارمة، ذلك أن آلهة الافتراض " لا ترحم من يولد في غير أوانه ".
لذلك، فالنجم الافتراضي في نظري هو ذلك الفرد "المنشق" عن الواقع المادي والقابل للقياس الكمي (عبر اللايكات) والتسليع في الواقع الافتراضي، مما يجعله دائم البحث عن "محتوى" يخلق الجدل لتحقيق"البوز buz" والصراع الوهمي والحقيقي، ولا يرتبط بالزمان أو المكان، يشبه إلى حد كبير بطل سردية "سرفانتيس"، "دون كيشوت" محارب طواحين الهواء، التائه المتجول الهائم على وجهه في قرى ومداشر "قشتالة" الافتراضية.
وواقع الأمر أن "الظهور" بشكل مختلف على منصات التواصل الاجتماعية، لا يمكن أن يتحقق إلا حين يكون المحتوى خارجا عن التقييم الأخلاقي، إنّها سياسة الآلة الافتراضية، يجب أن نعترف بذلك، تسلّمنا إلى اللحظة العابرة الخاطفة، والمشاعر الجياشة، والأمراض الاجتماعية السامة مثل: كشف الأسرار الخاصة (روتيني يومي)، وتحويل القصص الحميمة إلى ملكية افتراضية عامة، والسخرية من الدين، والتأمل الأفلاطوني الحزين للقدر، والبحث عن الطريق المختصر للنجاح، والتلذذ بالفريسة والضحية (ضحايا زلزال الأطلس مثلا)...إلخ. والغاية هنا لا تأخذ شكلها الواعي، مادامت محكومة بمسبق تشكل المنفعة الذاتية غايته، وهي عبودية الاعجابات (اللايكات)، بل شكلها اللاشعوري الذي يضمن للنجم البقاء على قيد الحياة الافتراضية.
فيما قبل كان فن الظهور سمة خاصة بالمشاهير في السياسة والفن والرياضة..إلخ، اليوم أصبحوا المشاهير أنفسهم ضحية له، لأن مساحته توسعت وفرص تحقيق ذلك صارت سهلة وممكنة، ولذلك نجد بعض الأخبار تحظى بمتابعة كبيرة؛ كتلك التي توصف بأنها "عاجلة" مثل: الطلاق، الزواج، الحب المبالغ فيه، العلاقات الملغومة...إلخ. تحضرني مقولة "مارك توين" عندما قال مازحا: "إن الأنباء التي تتحدث عن وفاتي هي مبالغ فيها إلى حد ما". الموت موت فكيف نبالغ فيه إذن؟
بالعودة إلى سؤالكم، يمكن القول إن المأساة / الملهاة فرصةٌ للمؤثر الافتراضي، مادامت تشكل حالة ثقافية أوسع، وربما عالمية، فهي فرصة للترقي في السلم الافتراضي، أي بناء هوية افتراضية متقدمة. فالمعنى الوحيد للمآسي والأفراح بالنسبة للنجم هو مطاردة المشاعر المثيرة، وتشييد أسوار البقاء داخل المجتمع الافتراضي بتجديد الرغبات التي تخص الفئات المستهدفة من الزبائن المحتملين. فلكل نجم زبائنه. يقال في العرف الاقتصادي أن "التسويق الفعال يحتاج إلى ملهى الإغواء والمكان المحظور على السواء".
لذلك تعتبر المشاعر السلبية ثروة فعّالة في تحريك الجماهير الافتراضية؛ فقيمتها النفعية هي حركيتها وفاعليتها في التهييج، وهو ما يثبت "صورة النشاط التطهيري الذي يمارس في العلاجات الشعورية، عندما يسمح للمشاعر بالظهور"، كما يقول "ميشال لاكروا" و لايهدف من وراء ذلك التخلص منها، "وإنّما الاستمتاع بها إلى أقصى حد. بالنسبة للإنسان المعاصر، الحاجة إلى الإحساس بهذه المشاعر تفوق الحاجة إلى كبحها". نحن ننتقل من العمى العقلي إلى التخوم اللاشعورية، وعواقب هذا الانتقال سيئة على الفرد والمجتمع ولا علاج لها في كثير من الأحيان مادامت أنّها مقبولة ومستهلكة افتراضيا.
ما هي أسباب هذا التهافت في نظرك ؟
العصر الجديد يتعرض إلى طوفان من الاحتمالات ولا أحد يتنبأ بنتائجها، والسخيف هو الذي يعتقد أننا في مأمن وأن الشر الافتراضي عابرٌ ولا يمكن أن يؤثر على الإنسانية، والأخطر من ذلك أن المنطق السياسي في الأغلب يجهل هذه التحولات، فلا غرابة أن نجد سياسيا (مغربيا مثلا) يجهل أبجديات الحوار الافتراضي ومفاهيمه. وهذه نقطة أولى جديرة بالتنويه.
نقطة أخرى ترتبط بالنعمة التي تقدمها وسائط التواصل الاجتماعية، الأمر يصنف ضمن "النزعة الاستهلاكية" والإغراء الممتع للمستهلك، وهما سمتا العصر ، ذلك أن المجتمع الافتراضي يعد المؤثرين الديناميين بمكافآت معنوية ومادية، والدينامية الافتراضية لايمكن أن تتحقق ب"التميّز العقلاني" والتحليلات المعقدة، كلاهما يتطلبان الزمن، والزمن هو عدو الأول للافتراض الذي يتأسس على اللحظة. ولذلك تبقى المشاعر موجّهة ومميّزة، لأنها "سهلة المدغ" وتخلق الإثارة الفورية، مما يوسع "قاعدة البيانات". وهذا ما تريده الشركات التكنولوجية الكبرى. المهم هو أن يحظى الفرد بالمتابعة والمشاهدة، بغض الطرف عن المحتوى الذي ينشره.
فيما قبل كان "فن الظهور" يرتبط بفئة محدودة وهي فئة المشاهير، اليوم أخرج المجتمع الافتراضي البشرية من ظلمات نسيان الواقع المادي إلى نور الواقع الافتراضي الذي لا يحتاج إلى اكتساب مهارات صعبة، يكفي أصبع صغيرة وبضع ثوان لتحرك بالعالم. وتلك ـ حسب المتعقلين والمتعلمين مثل أمبيرتو إيكو ـ أعراض الضعف النابعة من الضعفاء والمنحطين والرّعاع، وجدوا في الافتراض حياة نسجت على مقاس الوهم والعبث.
والأمر المهم بالنسبة لسؤالكم يرتبط بالروح الإنسانية فحين تنفصل عن الواقع المادي تكون المخرجات الخطيرة. إن الآلة الافتراضية قد فصلت الفرد عن الأخلاق والرعاية الأبوية وخلّصته من الرقابة السياسية وسلطة " الأنا الأعلى" وفككت "الكليات " التي تتأسس على الإكراه، في المقابل مجّدت الرغبات التي تتأسس على الإغراء، ولذلك فكل ما هو مغري يجري استعماله على نحو استهلاكي سريع. ربما هذه الصورة تبرر لنا الحرب الأخلاقية التي تدور رحاها بين بعض النجوم الافتراضية ذات التوجه الأحادي، ورواد الطواحين الشعبوية والسياسية.
ما هي سبل الحد من خطورته في نظرك؟
هناك نقطة علينا أن نوافق "الآن دونو" عليها وهي أن التافهين قد "حسموا المعركة لصالحهم وباتوا يمسكون الآن بمواقع مهمة في العالم". والنجوم الافتراضية هي سليلة لهؤلاء التافهين، صنعتهم الآلة الافتراضية، ولا يمكننا أن ندّعي أنّهم أقلية ضئيلة، إنّنا نميل إلى اعتبارهم ظاهرة ومشكلة لا تخص المغرب وحده بل العالم. وإذا دقّقنا النظر من حولنا في المجتمع الواقعي، سنرى تأثيرهم على الأجيال الصاعدة التي صارت تقلد سكناتهم وحركاتهم ، إنّهم قادمون بقوة. وأننا واقعون بإحكام في الشبكة العنكبوتية، كما يقول المفكر البولندي " زيغمونت باومان" "ويجري إغواؤنا بأن نلعب دور العناكب التي تنسج خيوط تلك الشبكة أو خدمها الطيعين المتحمسين في الغالب الأعم، بعلم منا أو بدون علم، شيئنا أم أبينا، وفي كل الحالات، من دون استئذاننا"
ولذلك لا يمكن الحديث عن حلول مادامت التقنية قد غسلت الدماغ وبنت موقعا جديدا، وموضوع البناء في هذه الحال هو العقل البشري. إننا لم نعد نعيش واقعاً واحداً، الواقع المادي الذي يتأسس على قيم ثابتة ووليدة سيرورة تفاعل أجيال، بل نعيش أيضا واقعا آخر رقميا/افتراضيا، يفتقد إلى الزمن الاجتماعي والسياسي، ويتميز ب"اللايقين". ولا يمكن أن نتق في القوى الخفية التي تؤثثه.
يبدو، إذن، أن القدرة على التفكير في العصر الحالي هي أصعب اختيار، وهذه الخصيصة يؤيدها الرأي العام الأبوي الذي يرى أن من أسباب مصائبنا هي شاشات " السمارتفون"؛ فقد جعلت الفرد مريضاً في نفسه مرضاً لا شفاء منه ولا علاج جدير بالاختبار، ما دامت مزاياها لا يمكن الاستغناء عنها، وأن النموذج المثالي للإنسان الذي تقدمه هو هذا المصاب بالهذيان والجنون الافتراضيين.
يمكن إثبات أن معركتنا الهوياتية اليوم مع المجتمع الافتراضي صارت ضرورة محتدمة من أجل تحقيق التفاؤل الموضوعي الصحي، والنضج المعرفي في مختلف الجبهات : الدينية والسياسية والاجتماعية والفكرية، والفنية، المحلية والكونية. العدو داخلي وافتراضي وليس خارجيا فقط ، وعلينا أن نوجّه سهام نقدنا نحوه.
كيف تقرأ هذا التهافت من طرف بعض المؤثرين على نشر المآسي في غياب الحس الإنساني ؟
يطرح هذا الإشكال توجهين هما : المؤثرون (أو النجوم)، والمحتوى الافتراضي الذي ينتجونه. لقد بحثت في إشكالية المؤثر الافتراضي من زوايا مختلفة وخصصت لها كتابا " التمرد الافتراضي"، بحثاً في الخصوصيات الاجتماعية والدينية والسيكولوجية. والخلاصة التي انتهى إليها الكتاب هي أن المؤثر الافتراضي يظل موضع اختلاف كبير؛ لأنّنا لا نتعامل مع فرد ثابت، بل إن المجتمع الافتراضي يصنع نجوماً في كل حين، ويتخلص منها حين لا تقدر على مجاراة خوارزمياته الصارمة، ذلك أن آلهة الافتراض " لا ترحم من يولد في غير أوانه ".
لذلك، فالنجم الافتراضي في نظري هو ذلك الفرد "المنشق" عن الواقع المادي والقابل للقياس الكمي (عبر اللايكات) والتسليع في الواقع الافتراضي، مما يجعله دائم البحث عن "محتوى" يخلق الجدل لتحقيق"البوز buz" والصراع الوهمي والحقيقي، ولا يرتبط بالزمان أو المكان، يشبه إلى حد كبير بطل سردية "سرفانتيس"، "دون كيشوت" محارب طواحين الهواء، التائه المتجول الهائم على وجهه في قرى ومداشر "قشتالة" الافتراضية.
وواقع الأمر أن "الظهور" بشكل مختلف على منصات التواصل الاجتماعية، لا يمكن أن يتحقق إلا حين يكون المحتوى خارجا عن التقييم الأخلاقي، إنّها سياسة الآلة الافتراضية، يجب أن نعترف بذلك، تسلّمنا إلى اللحظة العابرة الخاطفة، والمشاعر الجياشة، والأمراض الاجتماعية السامة مثل: كشف الأسرار الخاصة (روتيني يومي)، وتحويل القصص الحميمة إلى ملكية افتراضية عامة، والسخرية من الدين، والتأمل الأفلاطوني الحزين للقدر، والبحث عن الطريق المختصر للنجاح، والتلذذ بالفريسة والضحية (ضحايا زلزال الأطلس مثلا)...إلخ. والغاية هنا لا تأخذ شكلها الواعي، مادامت محكومة بمسبق تشكل المنفعة الذاتية غايته، وهي عبودية الاعجابات (اللايكات)، بل شكلها اللاشعوري الذي يضمن للنجم البقاء على قيد الحياة الافتراضية.
فيما قبل كان فن الظهور سمة خاصة بالمشاهير في السياسة والفن والرياضة..إلخ، اليوم أصبحوا المشاهير أنفسهم ضحية له، لأن مساحته توسعت وفرص تحقيق ذلك صارت سهلة وممكنة، ولذلك نجد بعض الأخبار تحظى بمتابعة كبيرة؛ كتلك التي توصف بأنها "عاجلة" مثل: الطلاق، الزواج، الحب المبالغ فيه، العلاقات الملغومة...إلخ. تحضرني مقولة "مارك توين" عندما قال مازحا: "إن الأنباء التي تتحدث عن وفاتي هي مبالغ فيها إلى حد ما". الموت موت فكيف نبالغ فيه إذن؟
بالعودة إلى سؤالكم، يمكن القول إن المأساة / الملهاة فرصةٌ للمؤثر الافتراضي، مادامت تشكل حالة ثقافية أوسع، وربما عالمية، فهي فرصة للترقي في السلم الافتراضي، أي بناء هوية افتراضية متقدمة. فالمعنى الوحيد للمآسي والأفراح بالنسبة للنجم هو مطاردة المشاعر المثيرة، وتشييد أسوار البقاء داخل المجتمع الافتراضي بتجديد الرغبات التي تخص الفئات المستهدفة من الزبائن المحتملين. فلكل نجم زبائنه. يقال في العرف الاقتصادي أن "التسويق الفعال يحتاج إلى ملهى الإغواء والمكان المحظور على السواء".
لذلك تعتبر المشاعر السلبية ثروة فعّالة في تحريك الجماهير الافتراضية؛ فقيمتها النفعية هي حركيتها وفاعليتها في التهييج، وهو ما يثبت "صورة النشاط التطهيري الذي يمارس في العلاجات الشعورية، عندما يسمح للمشاعر بالظهور"، كما يقول "ميشال لاكروا" و لايهدف من وراء ذلك التخلص منها، "وإنّما الاستمتاع بها إلى أقصى حد. بالنسبة للإنسان المعاصر، الحاجة إلى الإحساس بهذه المشاعر تفوق الحاجة إلى كبحها". نحن ننتقل من العمى العقلي إلى التخوم اللاشعورية، وعواقب هذا الانتقال سيئة على الفرد والمجتمع ولا علاج لها في كثير من الأحيان مادامت أنّها مقبولة ومستهلكة افتراضيا.
ما هي أسباب هذا التهافت في نظرك ؟
العصر الجديد يتعرض إلى طوفان من الاحتمالات ولا أحد يتنبأ بنتائجها، والسخيف هو الذي يعتقد أننا في مأمن وأن الشر الافتراضي عابرٌ ولا يمكن أن يؤثر على الإنسانية، والأخطر من ذلك أن المنطق السياسي في الأغلب يجهل هذه التحولات، فلا غرابة أن نجد سياسيا (مغربيا مثلا) يجهل أبجديات الحوار الافتراضي ومفاهيمه. وهذه نقطة أولى جديرة بالتنويه.
نقطة أخرى ترتبط بالنعمة التي تقدمها وسائط التواصل الاجتماعية، الأمر يصنف ضمن "النزعة الاستهلاكية" والإغراء الممتع للمستهلك، وهما سمتا العصر ، ذلك أن المجتمع الافتراضي يعد المؤثرين الديناميين بمكافآت معنوية ومادية، والدينامية الافتراضية لايمكن أن تتحقق ب"التميّز العقلاني" والتحليلات المعقدة، كلاهما يتطلبان الزمن، والزمن هو عدو الأول للافتراض الذي يتأسس على اللحظة. ولذلك تبقى المشاعر موجّهة ومميّزة، لأنها "سهلة المدغ" وتخلق الإثارة الفورية، مما يوسع "قاعدة البيانات". وهذا ما تريده الشركات التكنولوجية الكبرى. المهم هو أن يحظى الفرد بالمتابعة والمشاهدة، بغض الطرف عن المحتوى الذي ينشره.
فيما قبل كان "فن الظهور" يرتبط بفئة محدودة وهي فئة المشاهير، اليوم أخرج المجتمع الافتراضي البشرية من ظلمات نسيان الواقع المادي إلى نور الواقع الافتراضي الذي لا يحتاج إلى اكتساب مهارات صعبة، يكفي أصبع صغيرة وبضع ثوان لتحرك بالعالم. وتلك ـ حسب المتعقلين والمتعلمين مثل أمبيرتو إيكو ـ أعراض الضعف النابعة من الضعفاء والمنحطين والرّعاع، وجدوا في الافتراض حياة نسجت على مقاس الوهم والعبث.
والأمر المهم بالنسبة لسؤالكم يرتبط بالروح الإنسانية فحين تنفصل عن الواقع المادي تكون المخرجات الخطيرة. إن الآلة الافتراضية قد فصلت الفرد عن الأخلاق والرعاية الأبوية وخلّصته من الرقابة السياسية وسلطة " الأنا الأعلى" وفككت "الكليات " التي تتأسس على الإكراه، في المقابل مجّدت الرغبات التي تتأسس على الإغراء، ولذلك فكل ما هو مغري يجري استعماله على نحو استهلاكي سريع. ربما هذه الصورة تبرر لنا الحرب الأخلاقية التي تدور رحاها بين بعض النجوم الافتراضية ذات التوجه الأحادي، ورواد الطواحين الشعبوية والسياسية.
ما هي سبل الحد من خطورته في نظرك؟
هناك نقطة علينا أن نوافق "الآن دونو" عليها وهي أن التافهين قد "حسموا المعركة لصالحهم وباتوا يمسكون الآن بمواقع مهمة في العالم". والنجوم الافتراضية هي سليلة لهؤلاء التافهين، صنعتهم الآلة الافتراضية، ولا يمكننا أن ندّعي أنّهم أقلية ضئيلة، إنّنا نميل إلى اعتبارهم ظاهرة ومشكلة لا تخص المغرب وحده بل العالم. وإذا دقّقنا النظر من حولنا في المجتمع الواقعي، سنرى تأثيرهم على الأجيال الصاعدة التي صارت تقلد سكناتهم وحركاتهم ، إنّهم قادمون بقوة. وأننا واقعون بإحكام في الشبكة العنكبوتية، كما يقول المفكر البولندي " زيغمونت باومان" "ويجري إغواؤنا بأن نلعب دور العناكب التي تنسج خيوط تلك الشبكة أو خدمها الطيعين المتحمسين في الغالب الأعم، بعلم منا أو بدون علم، شيئنا أم أبينا، وفي كل الحالات، من دون استئذاننا"
ولذلك لا يمكن الحديث عن حلول مادامت التقنية قد غسلت الدماغ وبنت موقعا جديدا، وموضوع البناء في هذه الحال هو العقل البشري. إننا لم نعد نعيش واقعاً واحداً، الواقع المادي الذي يتأسس على قيم ثابتة ووليدة سيرورة تفاعل أجيال، بل نعيش أيضا واقعا آخر رقميا/افتراضيا، يفتقد إلى الزمن الاجتماعي والسياسي، ويتميز ب"اللايقين". ولا يمكن أن نتق في القوى الخفية التي تؤثثه.
يبدو، إذن، أن القدرة على التفكير في العصر الحالي هي أصعب اختيار، وهذه الخصيصة يؤيدها الرأي العام الأبوي الذي يرى أن من أسباب مصائبنا هي شاشات " السمارتفون"؛ فقد جعلت الفرد مريضاً في نفسه مرضاً لا شفاء منه ولا علاج جدير بالاختبار، ما دامت مزاياها لا يمكن الاستغناء عنها، وأن النموذج المثالي للإنسان الذي تقدمه هو هذا المصاب بالهذيان والجنون الافتراضيين.
يمكن إثبات أن معركتنا الهوياتية اليوم مع المجتمع الافتراضي صارت ضرورة محتدمة من أجل تحقيق التفاؤل الموضوعي الصحي، والنضج المعرفي في مختلف الجبهات : الدينية والسياسية والاجتماعية والفكرية، والفنية، المحلية والكونية. العدو داخلي وافتراضي وليس خارجيا فقط ، وعلينا أن نوجّه سهام نقدنا نحوه.