نعتبر هذه الورقة مساهمة في تحريك النقاش العمومي حول سبل تحقيق العدالة المجالية التي شرعت الحكومة في مقاربتها منهجيا على الأقل، من خلال ما سمته بمشاريع التنمية الترابية المندمجة. وقد تم تقديمها في لقاء علمي تفاعلي نظمه الائتلاف المدني من أجل الجبل بفاس تخليدا لليوم الدولي للجبال 2025 تحت شعار له دلالة ترافعية قوية: "قانون مالية 2026: اختبار لشعار العدالة المجالية والتنمية المندمجة للجبل المغربي". هدفت هذه الفعالية بشكل رئيسي إلى تحويل مسألة العجز التنموي إلى إجراءات ترافعية ملموسة. وتركزت النقاشات على إبراز الأهمية الحيوية للجبال، وتشخيص حالة اللاعدالة المجالية السائدة فيها، وصياغة آليات عملية (تشريعية ومشاريع مندمجة) لتعزيز التنمية المستدامة والمكيفة مع خصوصيات هذه المناطق.
تمهيد: ما بين التنمية الكلاسيكية والتخطيط الاستراتيجي للتنمية المندمجة
يمثل الانتقال من الأطر الكلاسيكية للتنمية الاجتماعية إلى مفهوم التنمية الترابية المندمجة (DTI)، بموجب التوجيهات الملكية السامية، قفزة نوعية وحاسمة نحو تحقيق العدالة المجالية في المغرب. إذ تفرض هذه الرؤية الجديدة تخطيطاً استراتيجياً يحترم الخصائص الفريدة والتحديات الهيكلية لكل مجال ترابي، ولا سيما المناطق الجبلية. فالهدف الأساسي يتجاوز مدلول التنمية في الوضعيات العادية؛ إنه يتعلق بـ "جبر العجز التاريخي" وضمان أن تصبح الجبال قاطرة للتنمية الوطنية الشاملة.
إن ضرورة تبني مقاربة التنمية الترابية المندمجة تنبع مباشرة من الفشل المؤكد للمقاربات الكلاسيكية السابقة، والتي أدت إلى تعميق الفوارق الإقليمية (مغرب بسرعتين او أكثر)، بسبب افتقارها للالتقائية وتشتت الموارد العمومية. يمكن للمشاريع التنموية الترابية المندمجة PDTI أن تقدم منهجية استراتيجية قائمة على التخطيط الشامل والموجه بالنتائج، ويتركز حول مبادئ الالتقائية والتكامل والإشراك الحقيقي للفاعلين.
أولاً: الركائز المنهجية لبرنامج PDTI ومتطلبات المجال الجبلي
يرتكز التنزيل الذي اعتمدته وزارة الداخلية للمشاريع الترابية المندمجة PDTI على أربعة محاور استراتيجية كلاسيكية تغطي الأبعاد الأساسية للتنمية:
المحور 1: إنعاش التشغيل وتثمين المؤهلات الاقتصادية.
المحور 2: تعزيز الخدمات الاجتماعية الأساسية (الصحة والتعليم).
المحور 3: التدبير الاستباقي والمستدام للموارد المائية.
المحور 4: التأهيل الترابي المندمج (البنية التحتية الأساسية).
غير أن السياق الجبلي بالخصوص يتطلب إدماج بعدين إضافيين أساسيين لضمان النجاح:
التمكين الفردي والإدماج الاجتماعية (Inclusion et Autonomisation): يجب أن تتجاوز المقاربة الجديدة الخدمات الأساسية لتشمل معالجة ضعف آليات الإدماج الاقتصادي والاجتماعي. وهذا يتطلب تنفيذ برامج الحماية الاجتماعية، وتيسير الولوج إلى التمويل الصغير، وتحقيق فك العزلة الرقمية كأولوية مساوية لفك العزلة الطرقية، لتمكين التعليم والتطبيب عن بعد (Télémédecine) والتجارة الإلكترونية.
الحكامة البيئية وإدارة المخاطر: يجب أن تتسع الاستراتيجية لتشمل برامج إلزامية لإدارة المخاطر الطبيعية والمناخية (الفيضانات، الانهيارات الأرضية، الجفاف، الحرائق، انخفاض قياسي لدرجات الحرارة، ...) وتحصين البنيات التحتية. علاوة على ذلك، يجب أن تكون الأنشطة الاقتصادية في المناطق الجبلية مشروطة بالاستدامة البيئية، للحفاظ على التنوع البيولوجي والموارد الطبيعية.
ثانياً: الترجيح الترابي.. حجر الزاوية في الإنصاف المجالي للجبل
لتحقيق العدالة المجالية فعلياً، يجب أن يتطور المفهوم من شعار إلى آلية تخطيط وتقييم صارمة، يتمثل في آلية الترجيح الترابي (Pondération Territoriale):
المفهوم: هو نظام لتصنيف المشاريع يمنح الأولوية بناءً على مستوى الحرمان المتراكم، وليس فقط على الكثافة السكانية أو المساهمة الجبائية.
التطبيق: يمنح هذا النظام وزناً تفضيلياً حاسماً للمشاريع في المناطق الأكثر هشاشة وعزلة (مجالات جبلية، قروية، واحية، حدودية)، حتى عندما تكون كلفة المشروع لكل مستفيد مباشرة مرتفعة.
الغاية: هذا الإجراء هو بمثابة "التمييز الإيجابي المجالي" الضروري لتصحيح عقود من الإقصاء (Discrimination Positive Spatiale).
ثالثاً: التفويض الترافعي: مطلب التنمية العادلة والمنصفة
تطالب جهود المرافعة، التي تقودها هيئات مثل الائتلاف المدني من أجل الجبل، بنقلة في الفلسفة الاقتصادية: فالمناطق الجبلية ليست مجرد متلقية للمساعدات، بل هي مساهم استراتيجي في الاقتصاد الوطني (المياه، الطاقة، المناجم، التنوع البيولوجي، القيم الثقافية والإرث الحضاري، الخدمات الإيكولوجية).
لذا، يجب على المحور الاقتصادي (المحور 1) أن يركز على تثمين القطاعات النوعية (السياحة الإيكولوجية-الثقافية، المنتجات المجالية المعتمدة، الزراعة المقاومة للمناخ)، واعتماد البرامج المراعية لاقتصاد الندرة (محدودية مساحة الأراضي، تدهور التربة، صعوبة تجميع المياه، ...) مع توفير المقومات الأساسية للنمو الاقتصادي المنصف ومن بينها:
آليات تقاسم العائدات: المطالبة بإقرار أليات وقنوات رسمية تضمن حصول المجتمعات الجبلية على حصة عادلة من الإيرادات المالية الناتجة عن الموارد التي تستضيفها (رسوم استخدام المياه، عائدات استغلال الغابات، أرباح السياحة البيئية، ...)، لتمويل مبادراتها التنموية المحلية.
حماية التراث: يجب أن ترتكز المشاريع الاقتصادية على التثمين المستدام للتراث الثقافي والطبيعي، لضمان استفادة السكان المحليين من الأغلبية في التملك وسلسلة القيمة.
رابعاً: شروط نجاح الرؤية المندمجة
إن المقاربة المستجدة للتنمية الترابية المندمجة (PDTI) جاءت كاستخلاص لدروس الماضي، خاصة بعد الأثر المحدود للبرامج التنموية السابقة التي اتسمت بالتشتت والقطاعية، وفشلت في تحقيق التنمية المتوازنة والعدالة المجالية. بناءً على هذا التقييم، يمكن تحديد شروط نجاح المقاربة الجديدة (PDTI) في المغرب، وهي تتطلب الالتزام بتغييرات جذرية في المنهجية والحكامة والتمويل.
فنجاح مشاريع التنمية الترابية المندمجة يتوقف على ترجمة الإرادة السياسية إلى قرارات ميزانياتية قابلة للقياس (كما هو متطلب في قانون مالية 2026)، ويعتمد على ثلاث تغييرات مؤسسية رئيسية: (الحكامة والالتقائية الإلزامية، التخطيط والتصميم، الاستدامة والتملك).
الحكامة والالتقائية الإلزامية: يجب أن تصبح الالتقائية مفروضة، ويجب تفويض صلاحيات حقيقية لهيئات الحكامة الترابية لفرض التنسيق ومنع التشتت في برامج القطاعات المختلفة. كان الفشل الأكبر للمقاربات السابقة يكمن في غياب التنسيق بين مختلف الفاعلين (وزارات، مؤسسات عمومية، جماعات ترابية)، مما أدى إلى تكرار المشاريع وتبديد الموارد. وهكذا يلزم الحرص على توفر الشروط التالية:
- الالتقائية الإلزامية (Convergence Obligatoire) : الإلزام بتوحيد الرؤى والبرامج؛ إذ يجب أن تصبح وثيقة PDTI بمثابة "عقد ترابي" ملزم لجميع الإدارات العمومية. لا يجب أن يتم تمويل أي مشروع عمومي بالإقليم لا يتوافق مع الأهداف الاستراتيجية الأربعة المحددة في PDTI.
- تفعيل الحكامة متعددة المستويات : يجب أولا تخفيف المساطر الإدارية في اعتماد المشاريع والمصادقة عليها حتى لا تضيع سنة أو أكثر في البلورة والتراسل الإداري يهدر فيها زمن تنموي كبير، إضافة إلى ضمان دور فعال وحقيقي للجان القيادة والتتبع على المستوى المركزي والمستويات الترابية. مع تمتيع هذه اللجان بسلطة توجيه وقرار تمكنها من فرض التنسيق على جميع المتدخلين.
- تحديد "الوكيل الرئيس" للتنسيق: تعيين جهة إدارية محددة وواضحة (غالباً السلطة الترابية المعينة) تكون مسؤولة بشكل مباشر عن تتبع تنفيذ الالتقائية وتحمل مسؤولية أي تشتت أو تضارب في البرامج.
التخطيط والتصميم: التطبيق الصارم للترجيح الترابي، والتركيز على خلق قيمة مضافة اقتصادية محلية عالية. فالبرامج السابقة كانت غالباً "نمطية" ولا تلامس الخصوصيات المحلية، مما أهدر الاستثمارات في مناطق ذات تحديات فريدة (كالمناطق الجبلية) وذلك من خلال تفعيل الموجهات التالية:
التطبيق الصارم للترجيح الترابي: يجب أن تتحول العدالة المجالية من شعار إلى آلية تخطيط وتقييم صارمة. وهذا يتطلب تطبيق نظام "Pondération Territoriale" الذي يمنح أولوية مطلقة للمشاريع في المناطق الأكثر هشاشة (الجبلية، القروية المعزولة)، حتى لو ارتفعت تكلفتها بالنسبة لعدد المستفيدين المباشر.
التركيز على القيمة المضافة الاقتصادية المحلية: يجب أن ينطلق التخطيط من "جرد وتثمين" المؤهلات المحلية (السياحة الجبلية، المنتجات المجالية، الزراعة المقاومة للمناخ)، وتصميم مشاريع (المحور 1) تخلق سلاسل قيمة متكاملة وتوفر فرص عمل مستدامة وملاءمة لخصوصية الإقليم.
تكامل الأبعاد (الإدماج): ضمان أن كل مشروع يخدم عدة محاور استراتيجية في آن واحد. مثال: مشروع بناء مسلك طرقي في منطقة جبلية (المحور 4) يجب أن يكون مرتبطاً بمشروع لتسويق المنتجات المجالية (المحور 1) وبمشروع لمرور الوحدة الطبية المتنقلة (المحور 2) وبمحور إضافي يضمن الصمود في وجه التغير المناخي، إلخ....
الاستدامة والتملك: تجاوز مشاريع "الإحسان والإغاثة الموسمية" بضمان الاستدامة المالية والمؤسسية للمشاريع، وتفعيل التملك المحلي الحقيقي من خلال المشاركة المواطنة في التصميم والتنفيذ، وتفعيل المساءلة بناءً على مؤشرات الأثر وليس مؤشرات الإنجاز او فواتير الإنفاق. فقد كانت المشاريع في الماضي تُنفذ وتُسلم، ولكنها لا تستمر غالباً بسبب غياب تملكها من طرف المجتمعات المحلية وغياب الموارد المالية للتشغيل والصيانة ونقص مواكبتها بالتدريب والتمكين. ومن الشروط العملية المطلوبة:
التشاركية الفعالة والتملك المحلي: يجب أن تكون التشاركية أداة لنقل "ملكية" المشروع للساكنة (Appropriation). وهذا يتطلب إشراكا حقيقيا للساكنة المحلية وهيئات المجتمع المدني والمنتخبين في تصميم المشروع ومسؤوليتهم الجماعية عن صيانته وتدبيره لاحقاً.
الاستدامة المالية والمؤسساتية: يجب أن يتضمن التخطيط ليس فقط كلفة الإنجاز، بل أيضاً التكلفة السنوية للتشغيل والصيانة (Exploitation et Maintenance). يجب ضمان التمويل المستدام لهذه الكلفة، سواء عبر تحويل الموارد المالية للجماعات أو عبر الشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.
التركيز على مؤشرات الأثر والمساءلة: يجب أن يتم تقييم البرامج الجديدة بناءً على مؤشرات الأثر (Indicateurs d'impact) على حياة السكان (كم نسبة تراجع الهدر المدرسي؟ كم وظيفة جديدة تم خلقها؟) وليس فقط على مؤشرات الإنجاز أو الإنفاق (كم درهما تم إنفاقه؟). وهذا يفرض مساءلة الجهات المنفذة عن النتائج المحققة.
العدالة في العائدات: إقرار آليات تضمن حقوق السكان في عائدات الموارد الجبلية لكونهم مصدرها الأول. بحيث يستفيد السكان المحليون في المناطق التي تنتج الثروات الطبيعية مباشرة من جزء من عائدات هذه الموارد (الماء، الغابات، التراث المادي واللامادي، السياحة، التنوع البيولوجي، المناجم، ...) لتمويل التنمية المحلية، وهو المطلب الذي يرفعه الائتلاف المدني من أجل الجبل.
اعتماد القطاعات النوعية: تثمين المنتجات المجالية ذات القيمة المضافة (معالجة، تسويق رقمي)، السياحة الإيكولوجية والثقافية، الزراعة المقاومة للمناخ.
خاتمة ونداء للعمل
يشكل قانون المالية لعام 2026 الاختبار الأولي الحاسم الذي سيحدد ما إذا كانت مقاربة ومشاريع التنمية الترابية المندمجة ستتحول من خطاب سياسي إلى التزام مالي ملموس وإلى تدبير رشيد وناجع. فبغض النظر على التركيبة التقليدية التي جاء بها والمخصصات المالية التي لم ترق إلى المجهود المطلوب يجب أن يثبت تنزيل هذا القانون حدا أدنى من الإرادة السياسية المعلنة، ومحاولة التطبيق الفعال للترجيح الترابي، بشكل يؤسس لخطوات مقبلة حقيقية نحو العدالة في توزيع الثروة وعائدات التنمية.
محمد الديش ، المنسق الوطني للائتلاف المدني من أجل الجبل
