عن منشورات "أنفاس بريس" صدرت المجموعة القصصية الأولى "حليب هيفاء الطبيعي" للإعلامي والسيناريست والناقد الفني والقاص الراحل توفيق مصباح، الذي كان يشغل مهمة سكرتير التحرير بأسبوعية "الوطن الآن" و"أنفاس بريس".
وقال عبد الرحيم أريري، مدير جريدة "أنفاس بريس"، في تصدير المجموعة: "قضى زميلنا توفيق مصباح عشرين سنة بين ظهرانينا ملتزما بإنجاح تجربة أسبوعية "البيضاوي" فأسبوعية "الوطن الآن"، ثم لاحقا موقع "أنفاس بريس". وظل هو الشخص نفسه في الدأب على تكريس كل مهارته اللغوية، وكل عدته المعرفية، وذخيرته الأدبية والفنية من أجل منح المؤسسة، التي اشتغل فيها بولاء ووفاء، علامة فارقة في المشهد الإعلامي الوطني. بيد أن توفيق، كما نعرفه، لم يكن فقط صحافيا يحرر المقالات، ويصحح أخطاءها، ويقترح مواضيعها، بل كان في المقام الأول كاتبا متعدد الاهتمامات، ويعرف أصدقاؤه وزملاؤه أنه متورط حد الوله بالسينما، إذ كان "سينيفيليا" حقيقيا، ومهتما على نحو مثير للدهشة بالقوالب والأشكال الجديدة للفن السابع. كما كان منخرطا عن جدارة في كتابة السيناريوهات للسينما والتلفزيون، وله صداقات كبيرة مع الوسط الفني، فضلا عن صداقاته مع الكتاب والمثقفين والجمعويين، والناس البسطاء.
وأضاف أريري: "مع كثرة الاهتمامات واتساع المسؤوليات وثقلها، لم يُطِح توفيق بمعشوقته الأولى (القصة القصيرة)، بل حوّلها إلى نقطة ارتكاز في تعامله مع العالم. يكتبها كاقتراح جمالي متعدد النماذج، دون أن يقع في الاقتفاء أو "الرسكلة". لم يحاول إلا التماس مع تراكيبه اللغوية الخاصة، في نوع من الأسلبة الأكروباتية التي لا يمكن التغاضي عنها أو إخفاؤها".
وقال الناشر: "إذا كانت قصص توفيق مصباح تنتمي إلى مدونة لغوية متقاطعة تكسر الحواجز بينها وبين أشكال التعبير الأخرى، فبوسعنا القول إن هذا الإنجاز لا يشبه إلا توفيق نفسه، بل حَقَّ عليه قولُ الشاعر عروة بن الورد: "أقسم جسمي في جسوم كثيرة/ وأحسو قراح الماء والماء بارد".
إن قصص توفيق طفلة، كما يقول أريري، تلعب غير آبهة بتيار السرد التجريبي الجارف. ذلك أنها تدرك أن نضجها في سخائها المفتوح على كل الاحتمالات، وتميزها في النظر إلى المرآة، سواء أكانت مستوية أم محدبة أم مقعرة. إنها قصص ذات طبيعة "فرانكشتاينية عاقلة"، ترتاح إلى غرابتها، بل تلاحقها بالاعتماد على "الأفلمة"، وعلى بناء الصور الكارتونية، وعلى الحكي المتدفق في الاعتيادي الساحر. وهذا ما نلاحظه في مجموعته القصصية "حليب هيفاء الطبيعي"، التي تسعد "أنفاس بريس" بنشرها، وإخراجها إلى العلن.
وأكد مدير "أنفاس بريس" أن الراحل توفيق مصباح لا يتعامل مع القصة كشكل نهائي، بل يمنحها تلك "الصبغة الأوتوبيوغرافية الملفقة" التي تتحيز للتخييل الذاتي، وينسج خيوطها عبر خطاطة عالية الحبكة تعمل على الإيهام بواقعية مسارها المضلل. إنها، في العمق، تستلهم حدثا معينا (أو شخصية ما) دون أن تكرره أو تستنسخه، بل تستدرجنا إلى نموذجها الخاص القائم على اللعب والإيروتيكا والغرابة وإخلاف التوقع، وهو ما يسمح بتكسير "المتوقع" لصالح الشكل المتنوع للقصة الواحدة. ومن ثم، فإن "تقليدانية" نصوص المجموعة، في نظرنا، خادعة، ما دام "التقليد" ليس مجرد حبكة أو بناء، وما دامت النصوص التي بين أيدينا غير منصاعة لسطوة الشكل، وتخترقها درجة لا يُستهان بها من الدعابة الغريبة والسخرية السوداء، وأيضا ذلك التسكع الهائل بين البشري والحشري والإنساني".
أما الناقد والباحث الجامعي، عثماني الميلود، فأكد في تقديمه للمجموعة القصصية (حليب هيفاء الطبيعي) أنه "من الاستراتيجيات التي طورها توفيق مصباح منذ عشرات السنين، قدرته الفائقة على مراقبة الواقع المغربي والعربي مراقبة حثيثة ومستديمة، جامعا بين حنكة المؤرخ وذكاء السينمائي وحساسية صانع التخييل".
وأضاف عثماني الميلود أن توفيق تميز بـ" إحداث تركيبة عجيبة بين الواقعي والتخييلي، بطريقة، تحيل على شخصيات وأحداث واقعية، لكنه يشحنها بطاقة تخييلية، لدرجة يصعب فيها تمييز الواقعي من التخييلي. ولقد ذكرتني هذه الاستراتيجية الخطابية بالسؤال الأزليّ الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، عام 1964: ما الأدب؟ لن نكلف أنفسنا عناء الجواب مجددا عن هذا السؤال الكبير والواسع، غير أننا نقول: إن اقتراح رؤيا للعالم من خلال هذه "الخلطة" العجيبة هو تفصيل من تفصيلات حركة ما بعد الحداثة، ممثلة في التشظي والشك في الحقائق والسعي إلى تفكيكها، وتسليط الضوء على المحلّي والشّعبي. وإنّ حركة ما بعد الحداثة سعتْ، بكل ما أوتيت من قوة، إلى الانقلاب على كل قيم الحداثة، فقد كان من الضروري البحث عن صنافات أجناسية تحقق ذلك. من الثورات الأولى على حركة الحداثة، ظهور التخييل الذاتي، مع سيرج دوبروفسكي من (1977)، وهو شكل تخييلي واقعي يتم فيه المزج بين الرواية والأوطوبيوغرافيا. غير أن الثورة الأولى ستتحول إلى انقلاب هائل على القيم الجمالية الكلاسيكية والحداثية دفعة واحدة. فمع الأعمال التخييلية الأولى لفيليب فاسي (2003، 2007، 2013) سيظهر نوع جديد من التخييل يقوم أساسا على عملية بناء الواقع بدل الانغماس الدائم في الكتابة عن الذات. وهذا الاختيار يوافق مزاج توفيق مصباح من حيث هو حائز على ذوق مضاعف. صحافي وصانع تخييل، قرر، بوعي تام، أن يجمع بين صبر السوسيولوجي وتركيز السيكولوجي وتفاني الدارس الثقافي ومتأمل الصور والشخوص والقيم. كانت "الحقائق" ديدنه، لكنه لا يبالي بها إلا بالقدر الذي تسعفه على فهم الأشياء والأعماق والشخصيات الأشد عمومية ورواجا في الميلتميديا الحديثة. وفي هذه الحالة قد تبدو كتابة توفيق مصباح أشد تطرفا وثورة على الاقتصاد التخييلي المألوف، من حيث خلق تيمات هامشية جديدة تنبثق من أمزجة الشخصيات الأشد ابتذالا في العالم العربي، ومن الوثائق والوثائقيات والإشهار، كل ذلك من أجل تشييد عوالم (تخييلية) مهمشة، لهذا سيكون من الصعب على الذوق الكلاسيكي والحداثي أن يَعُدّا سرد توفيق مصباح تخييلا أو أدبا، ولا شك أن دعاته سيوجهون له اللوم، لأنه آثر أن يصطاد الحقيقة بدل أن يلونها، وقرر أن يخفي الحدود بدل إظهارها، وأن يستلهم السرديات التاريخية بدل أن يصدقها".
وتابع الباحث الجامعي عثماني الميلود: "مجموعة توفيق مصباح "حليب هيفاء الطبيعي"، هي مدونة شديدة التعقيد من حيث الجسور التي تقيمها بين الواقعي والتخييلي، والإشكالات التي لا تفتأ ترسمها لعالم متشابك، هش، غامض ومفلس. القراءات المتعددة هي السبيل الوحيد لإعادة حل ضفائرها والانغماس في متاهاتها وتذوق حلوها ومرها".
للإشارة، تقع المجموعة القصصية في 130 صفحة من القطع المتوسط، صممها الشاعر والباحث الجمالي بوجمعة أشفري، أما صورة الغلاف فتعود للفنان التشكيلي حسن الشاعر.