الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: يا فقهائنا.. كفى استغلالا لسذاجة المواطنين

أحمد الحطاب: يا فقهائنا..  كفى استغلالا لسذاجة المواطنين أحمد الحطاب
تفسير الأشياء مصدرُه العقل. غير أن التًَّفسيرَ لا ينطلق من فراغ بمعنى أن مَن يفسِّر لا ينزل عليه الوجيُ حينما يكون منهمكا في توضيح و شرح هده الأشياء. بل لا بدَّ أن يتوفَّرَ على مخزون ثقافي و اجتماعي، أي على تراث لغوي ومفاهيمي يجعله قادرا على القيام بمهمة التَّوضيح و الشرح. و بعبارة أخرى، كل مَن أراد أن يُفسِّرَ و يُوضِّحَ و يشرحَ الأشياء، من الضروري أن يتوفَّرَ على خلفية ثقافية و اجتماعية. خلفية ثقافية، لأن الرصيد اللغوي و المفاهيمي هو الذي يمكنه من التواصل مع الأشياء و الخوض في تفاصيلها. خلفية اجتماعية، لأن مَن يريد أن يفسِّرَ يجر وراءه معِيشاً اجتماعيا يجعله قادرا على التَّعامل مع الأشياء من باب التَّجربة التي قد تتغيَّر تحت عاملي الزمان و المكان.
أنطلاقا من هذه الاعتبارات، من المنطقي أن نقولَ أن الشيءَ الواحدَ قد تكون له تفسيرات مختلفة و متباينة. و هذا شيء طبيعي ما دامت الخلفيات الثقافية والاجتماعية تختلف من فرد إلى آخر و من جماعة إلى أخرى و ما دامت المعرفة البشرية نسبية يتحكَّم في تغييرها الزمان و المكان. و خير مثالين أسوقٌهما في هذا الصدد، هما :
1.الجفاف. بالنسبة لعامة الناس، وخصوصا أولئك الذين يُدركون الدِّينَ بكيفية سطحية أو عن طريق القيل و القال، الجفاف يُفسَّر كعِقابٌ من الله للمجتمعات التي زاغت عن الدِّين وعن مبادئه و عن ما سطَّره الله لعباده من سُبُل الإيمان والاستقامة. بالنسبة لبعض الفقهاء، الجفاف إما عقاب من الله و إما ابتلاءٌ منه و امتحانٌ منه و اختبار لعباده لينظرَ في أعمالهم هل هي أعمال خير أو أعمال شر. وبالنسبة لعلماء البيئة و علماء المناخ، الجفاف ناتجٌ عن اختلالات في التَّوازنات الطبيعية (البيئية) التي، بدورها، تُدخِل اختلالات في الدورة المائية، الشيء الذي يؤدي إلى توزيع غير منتظم للأمطار التي قد تكون طوفانية أو قد تنزل بشُحٍّ كبير.
2.جائحة كورونا. بالنسبة لعامة الناس، ما تمَّ تطبيقُه من تفسير على الجفاف، يسري كذلك على الجائحة، أي أنها عقاب من الله لمَن اتبعوا أهواءهم و زاغوا عن سبيل الله. بالنسبة  لبعض الفقهاء، الجائحة إما عقاب من الله و إما ابتلاء منه لسائر البشرية و بالخصوص لمَن يعتنقون دينا آخر غير دين الإسلام علما أن هذه الجائحة لم تُفرِّق بين المسلم و غير المسلم. بالنسبة للأطباء و علماء الجراثيم و المتخصِّصين في علم المناعة، الجائحة ناتجة عن سرعة انتشار نوع خاص من الفيروسات غير متحكَّم فيها علميا. فيروسات قد تتغيَّر تركيبتُها الوراثية (الجِينِية) بذون سابق إنذار.
ما يجب الانتباه إليه، سواءً تعلَّق الأمرُ بالجفاف أو بالجائحة، هو أنه، إذا كان علماء البيئة و المناخ و الأطباء و علماء الجراثيم و المناعة قادرين على إثبات تفاسيرِهم بالحُجج الدامغة و لو مؤقتا، فإن عامة الناس و الفقهاء لا يملكون ما يُبيِّنون به صحة تفاسيرِهم بصفة مقنعة. فتبقى التَّفاسير تفايسرَ لا أقل و لا أكثر، إن تكيَّفت مع ثقافة زمانٍ و مكانٍ معيَّنين، قد لا تتكيًَّف مع ثقافة زمانٍ و مكانٍ أُخَريين.
إلا أن بعض الفقهاء، سامحهم الله، يستغلون مكانتَهم بين الناس و تقديرَ المجتمعات لهم ليَظهروا للناس و كأنهم يملكون الحقيقة ناسين أو متناسين أن ما يقولونه حول الجفاف أو الجائحة أو أمور أخرى ليس إلا آراءٌ من بين آراءٍ أخرى. و حتى يُقنعون الناسَ بأنهم ينقلون لهم حقائق، تراهم يبلِّغون ما يقولونه بصُراخ و بانغعال شديدين و كذلك باهتزاز أجزاء أجسامهم. فعندما يقولون إن الجفافَ و الجائحة عقاب أو ابتلاءٌ من الله، فلا دليلَ لهم أنه فعلا عقاب أو ابتلاء. و هنا، فإنهم ينسون أو يتناسون أن الله سبحانه و تعالى يفعل ما يشاء أو يفعل ما يريد. فتراهم يتمادون في إضفاء صفة الحقيقة على ما يقولون لكسب مزيد من الثقة و التَّقدير لدى الناس.
وإذا كان بإمكاننا التماس العذر لعامة الناس بحكم إدراكهم السطحي للدين، فإن الفقيهَ، أكثرَ من غيره، ملزمٌ بأن يظهرَ للناس كفاعل خيرٍ هدفُه الأول و الأخير هو التَّنويرُ و الإصلاح و الموعظة. و إلا ما معنى أن يتفوَّهَ بأمور هو نفسُه و لا أي شخص آخر غيرُ متأكِّد من صحتها. فإذا قال عامةُ الناس إن الجفافَ و الجائحةَ عقابٌ من الله، فهذا جهلٌ قد يكون غير متعمَّد. و إذا قال فقيهٌ إن الجائحةَ عقاب أو ابتلاءٌ من الله، و هو على علمٍ بعدم صحة ما يقول، فهذا تطاولٌ على ما ليس له به علمٌ. الفقيه يوضِّح، يفسِّر، يُبيِّن و يُرشِد و لا علمَ له بما شاء و أراده الله. و ما أراده الله يدخل في نطاق الغيب و لا يعلمه إلا  الله مصداقا لقوله سبحانه و تعالى : "وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ" (هود، 31). هذه الآية الكريمة موجَّهة لأحد رُسُلِ الله الذي يقول و يعترف بأنه لا يعلم العيبَ، فما بالك بعامة الناس و من ضمنهم الفقهاء مصداقا لقوله سبحانه و تعالى : "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (الجن، 26).
الفقيه يُرشد و يعِظ و الكمال متروكٌ لله. و بكل أسف، هذا النوع من الفقهاء موجود. و هو موجود لاستغلال سذاجة الناس و المتاجرة معهم بالدين. و سذاجة هؤلاء الناس تتمثَّل في ثقتهم العمياء فيما يقوله هذا النوع من الفقهاء و في اعتبار أقوالهم حقائق و بركات مصدرُها ربَّاني لا يجوز الاعتراض عليها أو التَّشكيكُ فيها. و الطامة الكبرى و ذروة النفاق أنهم يلجأون لشبكات التَّواصل الاجتماعي لتوسيع نفوذهم و حجم متاجرتهم علما أنهم لطالما حاربوا هذه الشبكات و أفتوا بعدم استعمالها لأنها من صُنعِ الكفار. و طامة الطامات هو أن هؤلاء الفقهاء يحيطون أنفسَهم بجدار من الوقار و التَّقديس يجعل الناسَ لا يجرؤون على نقدهم و توجيه اللوم لهم مخافةَ أن ينالَهم سوءٌ من جراء تشكيكهم بما يقوله فقهاءٌ يعتبرونهم مقرَّبين من الله.
و لهذا، فإن هذا النوعَ من الفقهاء، عوضَ أن يرقوا بمهامهم إلى درجة النُّبل و عوضَ أن يكونوا قدوةً لمَن يتَّبعونهم، فإنهم فضَّلوا المتاجرة بالدين و الميول لأمور دنيوية مادية مصداقا لقوله سبحانه و تعالى : "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" (البقرة، 16).