الخميس 25 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: يوم صعب في لندن

عبد الصمد الشنتوف: يوم صعب في لندن عبد الصمد الشنتوف
صعدت الشاحنة وانطلقنا تجاه سوق الجملة في "كوفن غاردن" ، بدا حسن معكر المزاج هذا الصباح ، لارغبة له في الكلام ، كان يقود شاحنته الزرقاء بسرعة بطيئة مخترقا حي إدجوار رود الراقي بقلب لندن . حي تتمركز فيه جالية عربية كبيرة حتى صاروا يطلقون عليه حي العرب بلندن، يحد بحديقة هايد بارك وشارع أكسفورد المزين بمتاجره الفاخرة.
شارع إدجوار رود يضج بالحركة ومكتظ بمقاهي ومطاعم ومحلات تعلوها يافطات عربية، إضافة إلى مكاتب صرف ووكالات أسفار.
لمحت على يساري حانة الثعالب البيضاء التي كنت أشتغل فيها سابقا، تراءى أمامي شريط قصتي مع أبي جاسم الخليجي وإميلي الإنجليزية. على يميني يوجد سوبرماركت سافوي . عندما أمد بصري أرى قوس النصر من رخام أبيض "ماربل آرش" يحد نهاية الشارع البهيج وهايد بارك الشهير. . تجاوزنا "بارك لين" ومررنا عبر محطة فكتوريا العملاقة، هناك على ضفة نهر تايمز العظيم يلوح من بعيد سوق "كوفن غاردن" قرب منطقة فوكسهول .
غشي صمت القبور مقصورة الشاحنة، لا أحد منا يحدث الآخر وكأننا مضربان عن الكلام. منذ أن تعرفت على حسن وهو يتوجس مني . لست أدري بتاتا ما الذي حصل بالضبط؟، لا أشعر بأي كيمياء تسري بيننا، كل واحد منا غارق في توجسه العميق .
بادرت إلى تكسير الصمت وإذابة الجليد بحديث ما، فقلت له: هل سمعت بزيارة شمعون بيريز للمغرب مؤخرا؟، تجاهل حسن سؤالي ولم يرد، لا أدري لماذا. قلت في نفسي: لعل حديث السياسة لا يستهويه في هذا الصباح الباكر . فجأة ، بعد برهة انطلق في حديث نرجسي عن نفسه وعن تجارته ومحطاتها . أخبرني بأنه يفكر في الاستثمار في المغرب بعد نجاح مشروعه ومراكمة بعض المال، ليضيف: للتو فرغت من تشييد منزل كبير يضم ثلاثة طوابق بحي السلامة في العرائش. عندئذ فهمت أن حسن شاب مهاجر طموح لا تختلف اهتماماته كثيرا عن باقي المهاجرين. يمتلك إرادة صلبة في العمل الدؤوب ويعشق تكديس الأموال، كما استيقنت أننا من طينة مختلفة على مستوى الذوق والتفكير. المشترك الوحيد بيننا هو الاسم العائلي وأصول أبوينا التي تعود لقبيلة سوماتة العتيدة بشمال المغرب، لا غير .
سوق "كوفن غاردن" شاسع ومنظم بشكل فائق ، أجول بنظري فأرى أطنانا وجبالا شاهقة من الخضروات والفواكة مكدسة على "الباليت" في كل مكان، بعضها مكتوب عليها أسماء دول المنشأ ومصدر البضاعة .
سرحت بخيالي وقفز ذهني إلى سوق الأحد الأسبوعي بالعرائش .
(كنت أتردد عليه مع والدي حين كنت طفلا صغيرا . سوق عشوائي يحتوي على مربعات ومخازن مهترئة يحظى بها تجار نافذون بالمدينة . كانت تكسوه الأوساخ من كل جانب وتحيط به روائح تزكم الأنوف . عند مدخل السوق يمينا يركن رتل من عربات تجرها حمير وبغال منهكة وكأنك في مشهد من فيلم يحكي عن القرون الوسطى .
وقع بصري على رجل طاعن في السن يدعى "باعربية" مستلق على ظهره فوق عربته بجانب حماره النحيل ، ينشر سجادة صوف من جلد خروف ، ويمسك بسبحة يردد بها بعض الأوراد .
كان "باعربية" يغدق على حماره العطف والرفق ويحيطه باهتمام بالغ. على يسار المدخل يقع مرآب لشاحنات بالية ممتد على مساحة أرض يابسة من تربة الترس. مثل هذه الشاحنات الملونة من نوع رونو وبيرلي لا تشاهدها سوى في الأفلام الهندية، بعضها يفرغ الحمولة وبعض يشحنها أو ينتظر دوره .
أذكر يوما كنت أرافق أبي فاستوقفنا "باعربية" ، كان يحترم أبي كثيرا ويناديه بالفقيه ، وينخرط في دردشة معه وهو جالس فوق عربته . أحيانا كان يستفتيه في أمور الفقه والدين، فأتشاغل عنهما مندهشا برؤية حماره المتعب مداعبا إياه .
إن سألتني عن با عربية قلت لك: كان رجلا وديعا عفيفا يفرح بي أشد الفرحة، يربت على كتفي فيناولني قطعة من حلوى ملونة، ثم يدعو لي بالصلاح والنجاح في الدراسة. كان إذا حدثك أنعش قلبك، وإذا مازحك تصدر عنه ضحكات راسخة في الطيبوبة وجمال الروح. يحب الخير للناس جميعا، ولا تفارق الابتسامة محياه إلا نادرا. يعتمر عمامة بيضاء و"بلوزا" زرقاء خلال عمله. شيخ تجاوز الستين من عمره، ويمتلك مخزونا كبيرا من القيم الإنسانية رغم فقره وبساطته. وقد لا أبالغ إن قلت أن "باعربية" كان رجلا لا مثيل له في مدينتنا نظرا لجده وإخلاصه في عمله. غالبا ما يركن عربته وحماره عند مدخل السوق منتظرا دوره في تحميل البضاعة إلى إحدى بيوت العائلات الغنية أو متجر في وسط المدينة .
حين نصل سوق "كوفن غاردن"، كنا نمر عبر البهو الفسيح نلقي نظرة على البضاعة الجديدة وأسعارها. معظم التجار يحيون حسن ب"هالو" ، ونرد عليهم بالتحية نفسها . جلهم من الإنجليز اليهود والهنود. يبادلون حسن بابتسامات متملقة يسودها بعض الحذر، يعرفونه جيدا ويطلبون وده، ذلك أنه كان تاجرا صارما ومغامرا يسعى نحو صفقات كبرى بأسعار بخسة. كان لديه إلمام كبير بجودة البضاعة ومعرفة مصدرها، كل مرة يعرض عليه التاجر اليهودي مارك كميات ضخمة من الموز الجاميكي والمانجو الأسيوي. عادة ما تكون مدة صلاحيتهما على وشك الانتهاء. يدفع ثمنها نقدا على الفور، فأشرع في تحميلها وشحن الصناديق داخل الشاحنة بمساعدة سائق الرافعة الشوكية. كان عملا صعبا وشاقا يستدعي مجهودا بدنيا قويا سيما وأني لست متعودا على هذا الإجهاد المضني والوقوف لساعات طويلة.
في يوم السبت كنا نشتغل في سوق آخر يسمى "ويلزدن" ، معظم رواده من السود الأفارقة والإثنيات الملونة . كانوا ينتظرون حسن بلهفة شديدة لأنه كان يزودهم باليام "yam" (بطاطس حلوة ضخمة) والموز الجاميكي الذي يعشقه السود في مطبخهم. عند عودتنا بالشاحنة المثقلة بالبضاعة من سوق الجملة كنت أفرغ الحمولة لوحدي داخل إحدى المخازن المحاذية، فأجلس على الأرض متوسطا أرتالا شاهقة من صناديق الفاكهة، لحظتها أشرع في فرز البضاعة الجيدة والتخلص من الموز الفاسد حيث أقذف به داخل حاوية نفايات ضخمة.
مهاجر هندي بلا أوراق يدعى جاغديش كان يشتغل بجانبي كمساعد عند تاجر هندي غارق في البخل والعجرفة. كان التاجر صلفا غليظ القلب مع مستخدمه، بحيث كان يمنعه من تناول الفاكهة الطرية الجيدة قائلا له : الفاكهة الجيدة للزبناء أما الفاسدة منها فهي من نصيب بطنك أيها المهاجر السري الحقير .
لا بد أن أعترف أن مشغلي حسن لم يكن يجلب لي وجبات طازجة من المطعم المجاور، لكنه لم يكن يمانع حين يراني ألتهم الموز اللذيذ، أقضم المانجو قطعة قطعة ، كنت أستلذ حلاوته كثيرا ، لم أكن قد تذوقت المانجو من قبل في حياتي .
خلال عملية فرز الفواكه نجلس أنا وجاغديش القرفصاء فأحدثه عن أحوال المغرب، وكان هو أيضا يحدثني عن حياة قاسية مر بها في إحدى قرى بومباي. لم نكن نرى بعضنا إلا عبر فتحات ضيقة لصناديق متراصة. أحيانا كنا نتصايح بصوت عال حتى نسمع بعضنا البعض. أخبرته بأني كدت أصير أستاذا في بلدي لكن الحظ لم يسعفني، فانبهر بما سمع .
جاغديش كان شابا قرويا نحيفا ذا بشرة قمحية داكنة، لم ينل حظه من التعليم في بلده. كان المسكين يتحسر كثيرا على فراق عائلته التي خلفها وراء ظهره غارقة في ضنك العيش والفقر، فأشفق عليه وأطربه بأغنية رسامي لمجموعة لمشاهب، استعذها كثيرا، ربما لأنها أغنية تحمل في طياتها مقامات موسيقى هندية، فيما هو كان يرد علي بأغنية "زينداجي إيك صفر" الذائعة الصيت للفنان الهندي كيشور كومار .
أغنية غرامية رقيقة كانت تهز كياني فتنسيني همومي وعذابي . سألته عن الممثل "شاشي كابور" هل يقطن بجواركم؟، فانفجر ضاحكا وقال: كيف تعرف شاشي كابور ؟ ، فأجبته : تعرفت عليه عبر شاشة سينما كوليسيو بالعرائش . فانهمك شارحا لي بشيء من التفاصيل أن الحياة في الهند تقوم على نظام تقسيم طائفي يسمى "فارنا" ، لأن شاشي كابور ينتمي إلى طائفة ثرية راقية أما جاغديش فهو محسوب على طائفة "الداليت" ، وهي طائفة المنبوذين في المجتمع الهندي . ومن هنا فهمت لماذا مشغله يعامله بهذا السلوك الغارق في الإهانة والاحتقار .
بعد الزوال عندما أفرغ من عملية الفرز يكون الإنهاك قد نال مني مبلغه، فأشرع في نقل البضاعة عبر عربة خشبية بعجلات الكاوتشو ، أدفعها جيئة وذهابا إلى الكشك لعرضها على الزبائن وأنا أتصبب عرقا . كنت أرفع كفي لأمسح حبات العرق التي تعلو جبيني وتنحدر على طرفي وجهي. كان أخي عبدالرؤوف منغمسا في بيع الفاكهة التي تنفد بسرعة. ذلك أن الأفارقة والجاميكيون يتزاحمون ويتدافعون على شراء الموز والمانجو وكأنهم ثيران هائجة، كان المشهد مثيرا للامتعاض والسخرية سيما وهم يتلهفون على فاكهة معروضة بأسعار بخسة ومغرية. لا تاجر يقوى على منافسة حسن في سوق "ويلزدن" ، كان يلقب بإمبراطور الموز والمانجو في السوق .
في المساء، عندما تدنو الشمس نحو المغيب، نأخذ في تفكيك الكشك ويقذف بي ثانية داخل العربة وكأني عبد منبوذ . تكون الساعة قد اقتربت من السابعة، لحظتها أكون متعبا وقد تسرب الإعياء إلى جسدي، لم أعد أقوى على الوقوف. أطرافي تئن وتصرخ من الألم ، قدماي لا تقوى على حملي، أشعر بفشل يجتاحني من رأسي الى أخمص قدمي . خلت نفسي وكأني أحد نزلاء سجن ألكاطراس أقضي محكومية طويلة مع أشغال شاقة .
لم أكن أتصور لندن بهذه الشقاوة والبؤس بعدما كنت أحسبها مدينة الفنون والضباب. كنت أخلد إلى نوم عميق وأنا ممدد فوق "الباش" جراء التعب القاتل فيما الشاحنة تطوي الأزقة والشوارع. عند المنعرجات تسقط فوق رأسي صناديق متسخة فأحتمي بغطاء بلاستيكي سميك، انتابني إحساس مريع وكأني أحد المعذبين في الأرض .
حين نصل محطة لاتمار رود يركن حسن شاحنته ويفتح علي الستار بوجه واجم ، فأنهض من مكاني شبه سكران لأخرج من العربة ورأسي "مفعفع" ، لا أدري إن كنت في لندن أم في كوكب المريخ .
اقتعدت أريكة وانزويت في إحدى أطراف الصالة، مسست جبيني بباطن كفي وأغمضت عيني، فكرت مليا في هذا العذاب، هل أستمر في العمل أم أرحل. لكن أين أرحل وجيوبي فارغة ولا بيت لي آوي إليه. بعد وهلة قصيرة استقر رأيي على الرحيل وخوض غمار التشرد من جديد.
في الصباح التالي دنوت من رأس أخي عبدالرؤوف شارحا له أسباب انسحابي من هذه التعاسة. قلت له لا أحتمل البقاء مستخدما عند حسن من الرابعة فجرا إلى السابعة مساء أحمل صناديق الخضار والفواكه وآكل الموز مثل عبد مشرط الحنك. ارتبك أخي وكأنه لم يتوقع مني الرحيل، حاول ثنيي عن قراري محاولا نصحي بالتماس الصبر إلى أن تمر هذه الغيمة القاتمة فيعوضني الله بعمل آخر، لكن العناد ركب رأسي وتمسكت بقراري . ودعته والكآبة تعلو وجهي بعدما حضنته بقوة . تمنيت له حظا وافرا في مشواره ثم انصرفت نحو غولبورن رود أجر حقيبتي المهترئة. كنت أحث خطاي تائها مهموما، أتحسس مصيري، مقتحما أفقا غامضا مرة أخرى. وهنت عزيمتي قليلا دون أن يتسرب اليأس إلى قلبي، كلما قلت حيلتي واشتدت كروبي قصدت مقهى كازابلانكا حتى صار ملجئي وملاذي الوحيد في عاصمة الضباب ...