الجمعة 26 إبريل 2024
فن وثقافة

من كنوز "اَلنًغْمَةْ اَلْحْرِيزِيًةْ" ذاكرة الثلاثي "عْلِي وُ عْلِي وُ اَلْحَطًابْ"

من كنوز "اَلنًغْمَةْ اَلْحْرِيزِيًةْ" ذاكرة الثلاثي "عْلِي وُ عْلِي وُ اَلْحَطًابْ" الباحث التهامي حبشي بجانب مشهد لتكريم رواد آلة لوتار بمهرجان جمعية المغرب العميق بسطات

استعدادا لفتح نافذة في العدد القادم من أسبوعية "الوطن الآن" على الموروث الفني الشعبي لتراث الشاوية وخصوصا غناء سَاكَنْ "اَلْعَلْوَةْ" الذي "يَسْلُبُ" العقل و "يُطَحْطِحْ" العظام. والنبش في ذاكرة مجموعة اَلشٌرْفَةْ اَلْبْهَالًةْ، في حوار شيق مع رئيس الفرقة الشيخ (اَلْمِيرْ) تقدم جريدة "أنفاس بريس" للقراء والمتتبعين ورقة ثقافية حول "اَلنًغْمَةْ اَلْحْرِيزِيَةْ" تتضمن قراءة في شريط للثلاثي "عْلِي وُعْلِي وُاَلْحَطًابْ"، قمنا بالتصرف فيها باستشارة وتنسيق مع الباحث التهامي حبشي .

يعتبر الباحث الأستاذ التهامي حبشي أن غناء المرس بمنطقة أولاد حريز "لا يقبل منا المنطق بتاتا القفز أو المرور، مرور الكرام، على بعض الأعلام من فن (اَلْوَتْرَةْ اَلْحْرِيزِيَةْ)، وخصوصا من الذين حافظوا على هذا التراث الغنائي والموسيقي حفظا وعزفا وأداء، وعلى رأسهم الثلاثي (عْلِي وُعْلِي وُاَلْحَطًابْ) رحمهم الله جميعا، وجعل البركة في من تلاهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم من أبنائهم وتلامذتهم".

حيث يمثل هذا الثلاثي صورة أصلية عن مجموعة الرواد الأوائل الذين جابوا، بفعل حركة الركب والمواسم، ربوع الشاوية وزعير وورديغة والحوز ودكالة وعبدة، مما مكنهم من تأليف وتوليف عدد لا يستهان به من "اَلْعْيُوطْ" و "اَلسًرَابَاتْ" و "اَلسْوَاكَنْ" و "اَلْبَرَاوِيلْ" و "الجْوَابَاتْ" و "الْحَطًاتْ" و "الْحَبًاتْ"، عبر آلة الأوتار (سَلْكْ عْلَى الحْرِيرْ) وآلتي "الطًعْرِيجَةْ" و "الْبَنْدِيرْ".

 

 قراءة في شريط غنائي لـ (عْلِي وعْلِي والْحَطًابْ).

من تسجيلات صوت النسيم، يحمل غلاف الشريط المعنون بـ "النًغْمَةْ اَلْحَرِيزِيًةْ"، صورة بَاسِمَةْ للمرحوم "عْلِي لَبْصَيْلِي" عازف آلة لَوْتَارْ، وهو يرتدي جِلْبَابا أصيلا أبيضا مخططا بالأسود، ويضع على رأسه طاقية بيضاء "مْعَرْقَةْ" / مائلة نحو اليسار.

عند تشغيل الشريط والإستماع إليه، نجد أن العزف والأداء يبدأ بـ "فْرَاشْ" خفيف من عيوط "اَلْمَرْسْ" و "اَلْحَصْبَةْ"، إنطلاقا من أداء عيطة "رْجَانَا فِي اَلْعَالِي" والتي تبتدئ عند هذه المجموعة بـ "مْسَاوْيَةْ" و "مْشَالْيَاتْ" موسيقية من عيطة "خَرْبُوشَةْ" الحصباوية الأصل، لتنحو بسرعة "مَرْسَاوِيَةْ" إلى عيطة "رْجَانَا فِي اَلْعَالِي" الحصباوية المكونة من سبعة "فُصُولْ" وسِتًةْ "حَطًاتْ" في الحصبة، والتي تؤديها مجموعة المرس بفصلين فقط.

"اَلْعَيْطَةْ" و "اَلسًاكَنْ" في شريط "اَلنًغْمَةْ لَحْرِيزِيَةْ"

بعد ذلك تنتقل المجموعة إلى أداء مقاطع موسيقية من عيطة "اَلِلي بْغَا حَبِيبُو" المرساوية، لتلج بنا بعد ذلك إلى أداء العديد من "اَلسْوَاكَنْ"، في مقدمتها ساكن "مُولَايْ عْمُرْ" (ولي من أولياء الله الصالحين يعتبره "اَلْفُقْرَا" من أولاد حريز أنه هو جدهم المؤسس الأول، وهو دفين منطقة السراغنة، الذين يحيون موسمه سنويا مع أبناء عمومتهم من أولاد حريز)؛ ويعتبر هذا الساكن من أهم وأشهر السْوَاكَنْ في الغناء الحريزي، إذ يكاد يشكل اللازمة التي يكثر عليها الطلب و "اَلْجَذْبْ". ويعرف عند الأهالي بـ "اَلْعُمْرَاوِيَةْ"، ويتميز أدائه بإيقاع "حَمْدُوشِي" موسع ثم "مَهْزُوزْ" (2 على 4) ـ موزعة على دقتين لكل ربع نصف ربع ثم ربع صمت ـ . ويقول مطلعه:

(بِسْمْ اَلًلهْ بَاشْ بْدِيتْ/ عَلَى اَلنًبِي صَلِيتْ، اَلْبَرًاحْ يْنَادِي/ أَرْوَاحْ أَمَنْ غَادِي، مُدُنْ وُبَوَادِي/ كُلْ اَلْعَامْ يَرْكَبْ يَمْشِي، سَعْدَاتْ مَنْ هُوْ غَادِي، زْمَانْ كَنْتْ مْكَذًبْ/ وَاَلْيُومْ شَفْتْ بِعَيْنِي، اَلثًوْرْ غَادِي يَجْرِي/ وُمَذْبُوحْ بِالجًنْوِي، دِيرْ وْلِيدِي ﯖُدًامْنَا/ دَابَا تَزْيَانْ أيًامْنَا، هَاذَاكْ مُولَايْ عْمُرْ/ صًمْعَةْ بَيْضَةْ تَظْهَرْ/ حِيثْ شْرِيفْ مْخَنْثَرْ…)

ويختتم ساكن "مٌولَايْ عْمُرِ"، بحضرة ذات قدام مهزوز، ثم ينصرف إلى "سدة مصرفة" ولها قٌفْلْ: "دَابَا رَبِي يَعْفُو عْلَى عْبَادُو وَالنًاسْ اَلْحَاضْرِينْ"، من عيطة "اَلْحَدًاوِيًاتْ" أو "اَلتْهَامِي" ذات الإيقاع المرساوي، وهي سُوسِيًةْ.

و تنتقل المجموعة إلى أداء أنماط غنائية أخرى أقل سهولة وبساطة في العزف واللحن والمبادلات، وهي "اَلزًعْرِي و اَلْخْرِيبْـﯕِي"، الذي يأخذ شكل جُمَلْ موسيقية موجزة وحَبًاتْ "زَعْرِيًةْ" قصيرة. و الملاحظ هنا أن "النًغْمَةْ الْحْرِيزِيًةْ" تنقصها "مِيلُودْيَا" موسيقية واحدة عن النمط "الزًعْرِي" المتميز بأداء ثلاث جمل موسيقية متشابهة تسبق إطلاق "اَلْبَرْوَالْ" أو "اَلْحَبْ" الزًعْرِي أو الخْرِيبْـﯖِي والسْمَعْلِي، من قبيل: "لِيًامْ اَلِلي فَاتَتْ/عَدْهَا مَاتَتْ" أو "دْمُوعْ اَلدًرِي/ كِي تًبْرُورِي" أو " كُلْهَا بِرَزْقُو/ عَنْدْ اَلِلي خَلْقُو".

ثم تعود مجموعة "عْلِي وُعْلِي وُالْحَطًابْ"، في نفس الشريط إلى إستهلال مرساوي/ حصباوي قبل أن تدخل في أداء السواكن والقطع الغنائية التالية :

ـ سَاكَنْ: "سْيدْي مَسْعُودْ بَنْ حْسِينْ" الذي يبتدئ على إيقاع القدام لينتهي بإيقاع حَضًارِي، ومطلعه: "سِيدِي مَسْعُودْ هٌوَ يْفَرًشْ هُوَ يْغَطِي/ هُوَ يْدَاوِي لَمْسَطِي. نْوِيتْ لِيكْ اَلزْيَارَةْ/ يَاعَزْرِي دُكًالَةْ. كَرْمَكْ رَبِي بِالْعَزْ/ يَا جَدْ أَوْلَادْ فَرَجْ".

ـ سَاكَنْ: "بَنْ عَاشِيرْ"، ومطلعه: "غِيرْ عْلِيًا غِيرْ/ اَلْحَاجْ بَنْ عَاشِيرْ. أَنْتَ دَاكْ اَلْوَالِي. كُونْ عْوَانِي آسِيدِي".

ـ ساكن: "بٌوعْبِيدْ اَلشًرْقَاوِي"، الذي يقول مطلعه: "اَلرًاضُو اَلرًاضُو آالْغَادْيِينْ/ تَانَمْشِيوْ فِي اَلرْفَاﯕَـةْ كَامْلِينْ. جِيتْ نْزُورَكْ جِيتِي بْعِيدْ/ اَلشًرْقَاوِي يا بُوعْبِيدْ".

ـ ساكن: "اَلْحَبْشِي"، الذي تقول فيه المجموعة: "أَيَا اَلْحَبْشِي / جْمَعْتِي الَفْرِيشْ وُبْغَايْتِ تَمْشِي/ أَيَا اَلْحَبْشِي/ رِيشَةْ بَيْضَا فِي جْنَاحُو…"

ـ ساكن: "اَلْبَاشَا حَمٌو" ذات الإيقاع الكناوي اَلْحَضًارِي، والذي يقول فيه المغني: "اَلْبَاشَا حَمٌو/ آمُولْ اَلجًنْوِي/ آالشًارَبْ دَمٌو…"

ـ ساكن: "اَلزًاوْيَةْ مَانِي سَاخِي بِيكْ"، التي ترجع كلماته إلى الشيخة فاطمة الزحافة المنحدرة من قبيلة أولاد سعيد المجاورة لسطات، ويقول مطلعها: "الله أَزًاوْيَةْ مَانِي سَاخِي بِيكْ/ سَخًاكْ اَلزْمَانْ عْلِيَا…لَمْحَبْتَكْ أَرْسُولْ اَللهْ/ نَمْشِي عْلَى كْفُوفْ إِيدِيَا. ضَحْكَتْ لَالَةْ حْتَى بَانُو سْنَانْ وُلَضْرَاسْ. وَالجٌوهَرْ مَا يَدْخُلْ لَدْلَالَةْ. خَذُوذْهَا حَمْرَةْ بَلًعْمَانْ. تَفاًحْ فِي بْلَادْ جْبَالَةْ.."

ـ قصيدة: "رْفُودْ اَلْخَامِسْ"، ذات البعد الوطني والتي تتغنى بإستقلال المغرب ومطلعها: "خُوتْنَا فِي اَلْإِسْلَامْ. هَزٌو بِنَا لَعْلَامْ. زِيدُو بِنَا لْـﯖُدًامْ. إِلَا خْيَابَتْ. دَابَا تَزْيَانْ"

ـ قطعة بعنوان: "عَدَا لَحْدُودْ"، التي أديت على إيقاع مَهْزُوزْ مباشرة بعد أحداث سنة 1963 بين المغرب والجزائر. ومما جاء فيها: "لَحْدُودْ هِيَا بْلَادْنَا. تَمًه يْعِيشُوا وْلَادْنَا. اَلْمَلِكْ وُجَيْشْنَا. عْوِينًا. وُحْنَا ﯕَاعْ تَابْعِينُو. كُلْشِي مَنْ اَلْإِلَاهْ. لَا غَالِبَ سِوَاهْ. إِدْرِيسْ بَنْعْمُرْ ﯖَالْ كْلِيمَةْ. حْلَفْ حْتًى نْشَرْبُو أَتَايْ تَمْ. عَدَا لَحْدُودْ يَاهْ".

 ـ الخاتمة بسوسة أو سدة مصرفة، ولها قُفْلْ من عيطة الحداويات المرساوية وهي: "دَابَا رَبِي يَعْفُو عْلَى عْبَادُو وَالنًاسْ اَلْحَاضْرِينْ".

وتعد قطعتي "رْفُودْ اَلْخَامِسْ" و "عَدَا لَحْدُودْ" دليلا واضحا على ارتباط الغناء الحريزي بأحداث الوطن والوطنيين في فترات سياسية عصيبة من تاريخ المغرب الحديث، وهو ما يبرز أن العيطة قد لعبت دورا تحريضيا مهما في مقاومة المستعمر والمحتل، فكانت أقوى الرسائل التي تصل بسهولة إلى الآذان والوجدان فتشعل في النفوس جذوة المقاومة والنضال من أجل حرية الإنسان والوطن. فضلا على أنها لعبت دورا تَنْفِيسِيا مهما في تأمين التوازن الروحي والعقدي والجمالي للقبائل المحلية، بما ساهم في الإستقرار السياسي لدولة وأمة المغرب الأقصى عبر مختلف العصور التاريخية.

 

"الإقتباس" عند رواد "اَلنًغَمَةْ اَلحْرِيزِيَةْ"

لكل هذه الإعتبارات يؤكد الباحث التهامي حبشي على أن فن "اَلنًغْمَةْ اَلحْرِيزِيَةْ"، هي توليف أو مزيج مركب من أنماط "عْيُوطْ" محلية مرساوية وأخرى مجاورة "حصباوية وزعرية وخريبكية"، علاوة على "اَلسْوَاكَنْ" التي تمجد مناقب الأولياء والسادة الصالحين المحليين منهم والمجاورين. الشيء الذي أنتج بالفعل كشكول غنائي شعبي آسر وأخاذ في أوتاره وألحانه، كما في إيقاعاته وموازينه. بحيث يتكون شريط (عْلِي وُعْلِي وُالْحَطًابْ)، من أربعة "عْيُوطْ" مرساوية، مقتبسة من الغناء الحصباوي .

في هذا السياق يخلص الباحث التهامي حبشي إلى أنه في "اَلنًغْمَةْ اَلحْرِيزِيًةْ" نعثر على "أشعار وصنائع وإيقاعات اندرجت في عيوط من المرساوي والحصباوي، وأخذت من عيطة "حَاجْتِي فِي ﯕْرِينِي" و "الْحَدًاوِيَاتْ" وبعض الأذكار الصوفية واَلْحَبْ الزعري، كما نصادف فيها أيضا الإيقاع "لَـﯖْنَاوِي" واللحن "الزِيًانِي" المتاخم لأقدام الأطلس المتوسط من مناطق زيان وزمور.

وأشار نفس الباحث إلى أن "النغمة الحريزية"، اقتبست كذلك، من عيطة "رْكُوبْ اَلْخَيْلْ" وعيطة "مَا شَفْتُوا شَامَةْ آهْيَا اَلْعَلًامَةْ"، حيث يعتمد الإيقاع غالبا على نسق "الأهم فيه حَمْدُوشِي، (2 على 4) موزعة على دَقًتَيْنْ، وهو إيقاع جاء في أغلب الظن من تأثيرات الفرق أو الطوائف الـﯖناوية والحمدوشية المرتبطة بعيساوة" .

 

تفاعل الجسد مع "اَلنًغْمَةْ اَلحْرِيزِيًةْ"

يرى الباحث التهامي حبشي أنه "إذا كان غناء المرس والحصبة، يرافقه الرقص النسائي للشيخات، وهو رقص خفيف غالبا ما يدور حول البطن في شكل حركات وتموجات شبيهة بحركة المياه المنسابة في مراسي ومرافئ ومَرْجَاتْ و ضَايَاتْ الشاوية ودكالة وعبدة، فإنه من الظواهر المثيرة للعين والحس في النغم أو الغناء الحريزي، هو تكامل الأداء فيه بالتظاهر الجسدي (الذكوري منه والأنثوي) الذي يتجلى في التصفيق (الرش) الشديد باليدين، والرقص القوي الداك على الأرض بالقدمين، وبتلويحة الرأس، وأحيانا بنتف الشعر والضرب بكلتا اليدين على الصدر".

وشدد على أن هذه الطقوس بدأت في "التلاشي منذ سنوات، بحكم تقلص أو ضمور فضاءات مواسم الأولياء الصالحين بالمنطقة، وفي مقدمتها موسم الولي الصالح والجد المؤسس لإتحادية قبائل أولاد حريز والسراغنة، (سيدي عمر بلحسن دفين منطقة بزو)، والذي شكل طيلة عقود تاريخية طويلة مزارا سنويا وملاذا أساسيا لهذه القبائل وما جاورها، حيث التبرك والتمسح بأضرحة وبركات الولي وأولاده وجيرانه، وذكر مناقبهم وكراماته. والمشاركة ليلا في حلقات الفرجة الشعبية وطقوس الحضرة على نغمات وإيقاعات (الوترة/ الوتر، والدف/ البندير والليرة/ الفحل). حيث يعتبر أن هذه المشاركة التي كانت، في بعض الأحيان، "تصل إلى درجة التماهي أو التوحد والإندماج الكلي بين المؤدي/ المغني والمؤدى له/ المتفرج، في طقس إنشادي وتهليلي، جسدي وراقص، يثير "السْوَاكَنْ" والوجدان ويحرك النفوس والأبدان عن طريق (اَلْحَضْرَةْ وَالجًذْبَةْ)".