الحديث عن موضوع "مغاربة العالم" هو حديث ذو شجون، يبدو حاله كحال الجواد المتمرد الذي يصعب محاصرته أو ضبطه أو التحكم فيـه، لأننا على يقيـن أننا مهما كتبنا عن هذا الموضوع الشائك أو حاولنا الإحاطة بجوانبه وتفاصيله، أو حتى حاولنا استعـراض بعض الحلول التي من شأنها الإبقاء على جسور التواصل والاتصال قائمة بين جاليتنا المغربية المنتشرة في بقاع العالم والوطن الأم، لن نكون إلا قاصرين في التوصيف وعاجزين عن التعبير، لأن الانشغالات والهموم كبيرة والمشاكل والتطلعات كثيرة ، ولايمكنه البوح أو التعبير أو الكشف عن عورة واقع الحال، إلا من عاش أو يعـيش هموم الهجرة وآهات الاغتراب عن الوطنومتاعب الاندماج وسط أحضان غير الأحضان، وأوجاع الابتعاد عن الأهل والأحبة والأصدقاء، وإذا حاولنا النبش في حفريات مغاربة العالم، فعـزاؤنا في هذه المجازفة المشروعة، أننـا سنقتحم خلـوة هذا الموضوع الحاضر/الغائب الذي بات أكثر "راهنية"، في ظل استمرارية جائحة كورونا التي لازالت تـفرض سلطتها على المغرب والعالم، وهي جائحة عالمية غير مسبوقة، اقتضت أن تراهن الدول على كل ما تمتلكه من خيرات اقتصادية وقدرات وكفاءات بشرية، من أجل التكيف الآمن والسلس مع الطقوس الوبائية القائمة ما يزيد السنة، وهذا المعطى زادنا حماسة في اقتحام خلوة "مغاربة العالم"، لما يمكن أن يضطلعوا به من أدوار متعددة المستويات في "مغرب ما بعد كورونا" الذي بات أكثر حاجة لكل أبنائه في الداخل كما في الخارج أكثر من أي وقت مضى.
وفي هذا الصدد، لامناص من الإشارة إلى أن الجالية المغربية منتشرة في بقاع العالم في أوربا كما في آسيا وأستراليا، وفي أمريكا وكندا كما في أمريكا الجنوبية، وفي الوطن العربي كما في القارة الإفريقية، وهذا التنوع المجالي، يضعنا أمام جالية مغربية تتباين أوضاعها وظروف عيشها واندماجها وهمومها ومشاكلها وقضاياها وتطلعاتها وانتظاراتها، كما تتبايـن من حيث مدى صلاتها وارتباطاتها بأحضان الوطن، ومدى استعدادها للعودة والإسهام فيما يعرفه البلد من دينامية إصلاحية غير مسبوقة ومن أوراش تنمويــة مفتوحة على أكثر من مستوى، ومن حيث المستوى النوعي، هي جالية تزخر بالكثير من الخبرات والكفاءات التي تصنع قصص نجاح في بلدان الاستقبال في جميع المجالات والتخصصات، من اقتصاد وطب وهندسة وقانون وقضاء ومحاماة وتعليم وعلاقات دولية ودبلوماسية وعلوم وتقنيات وأدب وشعر وفنـون وغيرها، وبعضها تحمل ويتحمل مسؤوليات سياسية وازنة خاصة في بعض بلدان الجـوار الأوربي كفرنسا وبلجيكا، وفي ظل جائحة كورونا سطع نجم الكثير من الكفاءات المغربية بالخارج خاصة في علم الأوبئة والفيروسات، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الخبير المغربي "منصف السلاوي"، وهي خبرات وكفاءات تجـر وراءها مسارات علمية وأكاديمية ومهنية ناجحة، تسخر في تطـور وتنمية بلدان المهجر، والكثير منـها لم يعد يربـطها بالوطـن إلا روابط الأصل ونوستالجيا الانتماء، ليس لأنها تنكرت للوطن أو فضلت الاندماج بشكل لارجعة فيه في بلدان إقامتها، ولكن في ظل حضور معطيات موضوعية تبعدها عن الوطن وقضاياه، وتحرمها من فرص الإسهام فيما يعرفه البلد من دينامية إصلاحية وتنموية ومن فرص واعدة، وبمفهوم المخالفة، يمكـن أن نتساءل : ما هو السبب أو الأسباب التي تبعد "مغاربة العالم "عن وطنهم، ونخص بالذكر الكفاءات والخبرات المغربية المنتشرة في كل أنحاء العالم ؟ أو بتعبير آخر: ما هي المعوقات التي تحول دون انخراط هذه الخبرات والكفاءات فيما يشهده البلد من دينامية إصلاحية وتنموية غير مسبوقة ؟
الإجابة عن هذا السؤال لن تكلفنا وقتا طويـلا، لأن المغاربة الشرفاء والأحرار، أينما حلوا أو ارتحلوا، إلا وحملوا معهم حب الانتماء للوطن، لكن لما يبتعدون ويخـتارون بشكل طوعي أحضانا أخرى غير أحضان الوطن الأم، فهذا معنـاه أننا أمام "بيئـة" مكرسة لأسباب النفـور والابتعاد والهروب واليأس والإحباط، ومقويــة في نفــس الآن، للإحساس في بناء المستقبل والحياة بعيدا عن الديــار، وهي بيئـة قد نختلف في توصيفها أو تشخيصها، لكن مهما تعمقت بــــؤرة التوصيف أو تباينت درجة التشخيص، فلن نخـرج عــن إطار التهميـــش والإقصاء والتجاهل وعدم الاعتراف بما تزخر به الجالية المغربية عبر العالم من خبرات وطاقات وقدرات ما أحوج الوطن إليها، في ظل غياب استراتيجبة وطنية متبصرة قادرة على رصد وتـتـبـع الكفاءات المغربية المهاجرة، وعلى خلق مناخ داخلي محفز يــوفر شروط الاستقطاب، ورغم وجود مؤسسة دستورية تعنى بالجالية من حجم "المجلس الأعلى للجالية المغربية بالخارج" و "وزارة وصية" مسؤولة عن قطاع الجالية المغربية بالخارج (وزارة الخارجية والشؤون الإفريقية والمغاربة المقيمين بالخارج )، لازالت قضايا مغاربة العالم غائبة عن صناع السياسات العمومية، كما هي غائبة عن اهتمامات الأحزاب السياسية على مستوى البرامج الانتخابية وخاصة على مستوى الاستقطاب السياسي الحزبي لكفاءات المهجر.
وإذا ما تركنا الجانب المؤسساتي الرسمي جانبا، فالوضع العام تكاد تختفي عن سمائـه شمـس التحفيز والاستقطاب، مما يؤسس لعلاقة نمطية بيـن المغـرب ومواطنيه ببلـدان الإقامة، لا تتجاوز حدود "عملية مرحبـا" بمناسبة كل عطلة صيفية، وما يقــوم به هــؤلاء من تحــويلات مالية، وهـو وضـع مقلـق تحضر فيـه مشاهـد البيـروقراطية والزبــونية والرشوة والاستغـلال ، وضعف مؤشرات المواطنة واحترام القانـون والحكامة الرشيـدة، وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، وغياب رؤيـة واضحة فيما يتعلـق بمحارية الريــع والفساد السياسي والاقتصادي ونهب المـال العام، ...، دون إغفال محدودية البنيات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية والعلمية، وكلها مشاهد وممارسات من ضمن أخــرى، لا ترسم فقط صـورا قلقـة عن الوطـن، بـل وتقــوي الإحساس بالهروب بالنسبة لمـن يتواجد في الداخل، وبالإقامـة والاندمـاج النهائي في بلـدان الإقامة لمـن يعيـش أجواء الهجـرة والاغتــراب، وفي ظل هذه الظــروف المقلقـة، فمـن يعيـش في أوربـا أو كندا أو أوروبـا في ظل وضعيـة مهنيــة ومعيشيـة جيـدة، وفي ظـل نظام تربـوي وصحـي واجتماعي متقـدم ومنـاخ عيــش تحتـرم فيه الحقــوق والحريات ويسـود فيـه القانـون ويعلـو فيـه صـوت العدالـة والمســاواة، ويطلـق فيه العنـان للطاقات والكفـاءات والقدرات، يصعـب إقنـاعه بقبـول خيـار العـودة إلى الوطن في ظل الحضور القـوي لأسباب النفـور والهـروب والتي تمـت الإشـارة إلـى بعضهـا سلفـا، ومن هو متخصصا في بعـض التخصصات العلمية الدقيقة كالأوبئـة والفيروسات أو الفضـاء أو الطاقة النـوويـة وغيرها، وتوضـع رهن إشارته كل ظـروف التحفيـز المادي والمعنـوي، كيـف له أن يتـرك كل هذا، ويعــود إلى الوطـن بما يحملـه من معوقـات ومشكـلات ...
لا ندعي أننا وضعنا الأصابع على الجروح، أو نبنا عن الجالية المغربية عبر العالم في استعراض مشاكلها وتطلعاتها وما يعيق عمليات رجوعها إلى أحضان الوطن، لكننا حاولنا مقاربة واقع الحال، وفق "رؤية من الداخل"، حاولنا من خلالها رصد بعض المشاهد أو الممارسات التي يذوب معها جليد العـودة والاندماج، والإسهـام فيما يشهده الوطن من دينامية إصلاحية وأوراش تنموية مفتوحة في عدة جبهات، وإذا كان لابد من اقتراح الحل أو الحلول لربط الكفاءات المغربية بالخارج بوطنها الأم، فنرى أن لا حل في الأفق، إلا عبـر استئصال شوكة كل الأسباب الدافعة إلى الهروب والابتعاد، والمكرسة لأحاسيس الاندماج النهائي في بلـدان المهجر أو الإقامة، وفي هذا الإطار يمكن الإدلاء بالمقترحات التالية :
- الاستمرار في مسيرة الإصلاح والتحديث، والتصدي لكل مظاهر الفقر والبؤس والإقصاء الاجتماعي والمجالي، بما يضمن تحسين مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية وبالتالي تجويد مستوى العيش على غرار بلدان الجوار الأوربي.
- الانخراط الفعلي في سياسة محاربة الريع والفساد ونهب المال العام، وفرض احترام القانون والاهتمام بالقضاء، بما يضمن كسب رهانات الاستقلالية والنجاعة والفاعلية والنزاهة والاستقامةوالمساواة والعدالة الاجتماعية ودولة الحق والقانون.
- تطوير الأنظمة التربوية والصحية، وتوفير شروط نجاح مشروع الحماية الاجتماعية الذي يعد ثورة ملكية اجتماعية رائدة في العالم العربي وإفريقيا، من شأنها أن تعـزز المشروع التنموي الرصين الذي يقوده الملك محمد السادس.
- بلورة استراتيجية حقيقية ذات صلة بمغاربة العالم، تسمح بتتبع واقع حالهم وما يواجهونه من مشكلات ومعوقات مرتبطة بالاندماج، وما يحملونه من تطلعات وانتظارات تستدعي المعالجة الآنيـة والفورية، وتتبـع بالخصوص الكفاءات المغربية المهاجرة ورصد قصص نجاحها وتيسيـر سبل ارتباطها بالوطن الأم، وتمكينها من كل شروط الدعم والتحفيز لتساهم بدورها في مسيرة الإصلاح والنماء، وهنا نوجه البوصلة نحو وزارة الخارجية و التعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج عبر مصالحها الدبلوماسية والقنصلية المعتمدة بالخارج، التي لابد لها أن تتجاوز علاقاتها بالجالية حدود الجوانب الإدارية الصرفة، إلى مستوى التتبع والمواكبة والتحفيز وتيسير سبل ارتباطها بالوطن وإسهامها في تنميته.
- الارتقاء بمستوى وقدرات "المجلس الأعلى للجالية المغربية المقيمة بالخارج"، بشكل يضمن ليس فقط، مواكبة مستدامة للجالية المغربية المنتشرة عبر العالم، بل والترافع من أجلها، بما يضمن صياغة سياسات عمومية ناجعة وفاعلة مرتبطة بهذه الجالية، وإلا ما الجدوى من هذه المؤسسة الدستورية، ما لم تكن تشكل الحصن الحصين لمغاربة العالم وناطقهم الرسمي.
- في ظل ما تعرفه الأحزاب السياسية من ضعف وهوان، تعجز معه عن استقطاب مغاربة الداخل، فيصعب الرهان عليها لاستقطاب مغاربة الخارج خاصة من ذوي الخبرات والكفاءات العالية، وهذه الأحزاب السياسية بكل ألوانها وانتماءاتها، مطالبة بالارتقاء بمستوى ممارساتها الحزبية والديمقراطية والانتخابية، وأن تنخرط بدورها في محاربة العابثين والفاسدين وفي فسح المجالات أمام الطاقات الشابة التي من شأنها إحداث التغييـر، حينها يمكنها التحرك في اتجاه استهداف الخبرات والكفاءات المغربية بالخارج.
- الصحافة الوطنية / المواطنة تتحمل بدورها مســؤولية الانفتاح على مغاربة العالم، عبـر تتبعهم ورصد قصص نجاحهم وإبداعهم في بلــدان المهجر، من خلال برامج إذاعيـة وتلفزيـة موجهة للجالية، تقـوي الإحســاس بالوطن، وتحفز على العودة والاستقـرار.
- الرهان المستدام على تخليق الحياة العامة وعلى الارتقـاء بمستوى مناخ المال والأعمال، لتحفيز وجلب الاستثمارات الخارجية، بما فيها الاستثمارات التي يمكن أن تأتي من جانب المقاولات المغربية الكائنة بالخارج، وهذه المقاولات لابد لهـا أن تحظى بما يلزم من تسهيلات بنكية ومن تبسيط للمساطر ومن تحفيزات جبائية، ومن أولوية فيما يتعلق بالعروض الاستثمارية الكبرى التي تقدمها الدولة للخــواص، كما حدث في مشروع بناء ميناء الداخلة الذي أسند لمقاولة مغربيـة، وهي خطوة تستحق كل التثمين، لأنها داعمة للمقاولة المغربيـة وللرأسمال الوطني.
- باتت الحاجة ماسة لفسـح المجال أمام الجالية المغربية لتساهم في تدبيـر الشأن العمومي والجهوي والمحلي لتترافع عن قضاياها وهمومها وتطلعاتها بنفسها ودون أيـة وساطة، وهذا يقتضي التفكير في آلية تتيـح لها فرصة المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية خاصة التشريعية منها، على غرار مجموعة من التجارب المقارنة التي تمنح لمواطنيها بالخارج الحق في التصويت والترشيح.
وعليه وبناء على المقترحات السالف ذكرها التي أوردناها على سبيل المثال لا الحصر، يتبيـن أن موضوع "تشجيع مغاربة العالم على العودة إلى الوطن والإسهام في تنميته" يتجـاوز بكثير الحدود الضيقة لفعل تشجيع الجالية على العودة والاستقرار بالوطن، إلى مستوى عام يرتبط بتطهير التربة الداخلية المنتجة لأسباب النفور والهروب من أحضان الوطن، والدافعة إلى الارتمـاء نحو أحضان أخرى، وهذا المسعى يقتضي الاستمرار في مسيرة الإصلاح والتحديث الاجتماعي والاقتصادي التي يقودها الملك محمد السادس برصانة وتبصر، والرهان على تخليق الحياة العامة وما يرتبــط بها من محاربة الريع والفساد وهدر للمال العام، موازاة مــع استعجال تنزيـل استراتيجية ناجعة تقارب قضايا الجالية المغربية في أبعادها المختلفة، فضلا عن الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها الأحزاب السياسية الرصينة والإعلام المغربي المواطن في مد جسور التواصل والإشعــاع مع مغاربة العالم، وبهكذا تدابيـر وإجراءات وغيرهـا، تستطيع الدولة أن تستقطب ما تزخر به جاليتنا المغربية من خبرات وكفـاءات عبر العالم.
وفي هذا الصدد، فقد كشفت جائحـة كورونا عمق حاجة الدول إلى مواردها البشرية وقدراتها الاقتصادية من أجل إعادة بنــاء نماذج تنمويـة جديدة، والمغرب وفي ظل ما يعرفـه من أوراش تنموية رائدة، وفي أفق اعتماد النمــوذج التنموي المرتقب، واستحضارا للمتغيـرات المرتبطة بالوحدة الترابية وما تواجهه من تحديات، أصبحت حاجته ماسة لكل أبنائـه في الداخل كما في الخارج، وما كشفت عنه الجائحة الكورونية من مظاهر الضعف والمحدودية خاصة في قطاع الصحة وعلم الأوبئة والفيروسات، يفــرض التعجيل بفتح الأبـواب أمام الخبرات والكفاءات المغربيـة المقيمة بالخارج، وتمكينها من كل شروط الدعم والتحفيـز، بما يسمح ببنـاء منظومة صحية جيدة قادرة على مواجهـة المخاطر الوبائيـة المحتملة، خاصة في ظل الرهــان على مشروع الحماية الاجتماعية الذي لايمكن تصوره دون منظومة صحية جيدة في مستوى التطلعات والانتظـارات.
ونختم بالقول، أن خدمة مغاربة العالم لوطنهم لا يمكن حصرها فقط في مطالبتهم بالعودة والاستقرار في المغرب، بل يمكنهم خدمة الوطن بشكل مباشر عبر انخراطهم في المشروع التنموي، أو بشكل غير مباشر عبـر وضع خبراتهم وقدراتهم رهن إشارة البلـد، أو عبـر النضال والترافع عن قضايا ومصالح الوطن انطلاقا من بلدان الإقامة في إطار "دبلوماسية مغارب العالم"، وهي دبلوماسية يمكن الرهان عليها لجلب مشاريـع الشراكة والتعاون والاستثمار، والدفاع عن قضيــة الوحدة الترابية عبر التعريف بها والتصدي لكافة منــاورات أعداء وخصوم الوطن.