الأربعاء 24 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (22)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (22) عبدالصمد الشنتوف في عز شبابه
أوقفتني الحافلة وسط هورسماندن، كان مساء باردا، رحت أحث خطاي نحو إقامتي بالضيعة تحت زخات المطر. وجدت البلدة الريفية خضراء هادئة . دلفت إلى المرأب واندسست في كيس نومي مستلقيا على ظهري، أنظر من حولي فأرى جميع القاطفين مستلقين على الأرض ، مختبئين داخل أكياس نوم ملونة وكأننا ثعابين ولجت جحورها . نحملق في وجوه بعضنا البعض ، تارة نتبسم وتارة أخرى نعبس ، تخيلت المرأب كمشتى الثعابين خلال فصل الشتاء.
بدا لي المرآب موحشا، يكاد يخلو من النوافذ ولا تتسلل إليه خيوط الشمس . قبالتي ثلاثة أتراك : حشمت، عصمت وأحمد، على يسارهم جوصيه ورفايل من البرتغال ، على يميني صديقي التيجاني، وعلى يمينه هو شابان بولنديان بوريس وألكسندر.
هذا الأخير شاب انطوائي غامض وكأنه يعاني من مرض التوحد. عندما ينهض لدورة المياه يحرك عينيه وأذنيه بشكل مريب، يهمهم بشفتيه وكأنه يتواصل مع كائن غير مرئي.
عندما ينظر إلي يتعكر مزاجي وينقبض صدري ، هذه أول مرة ألتقي بشابين ينحدران من أوروبا الشرقية . شابان أوروبيان أشقران لكنهما ليسا كباقي الأوروبيين ، ينتميان إلى العالم الأحمر البعيد ، أتيا من معسكر بعيد لا نعرف عنه الكثير . شابان عبوسان يظلان طوال الوقت صامتان، يصعب عليهما الاندماج معنا، منطويان على نفسيهما وكأنهما يحملان على كاهليهما ثقل أحزان المعسكر الاشتراكي، خلتهما هاربين من مستشفى الأمراض النفسية .
افترشت سجادتي وانزويت إلى جانب خزان "إينوكس" ضخم لعصير التفاح ، لم أجد مكانا شاغرا أفترشه غيره ، الكل يعرض عنه فقبلت به عن مضض ، ذلك أني التحقت بالضيعة متأخرا خلال موسم قطف التفاح.
عندما أكون مستلقيا على ظهري أنظر إلى السماء فيزداد حجم الخزان ضخامة في عيوني وكأنه جبل فوق رأسي ، تخيلت نفسي نائما عند سفوح جبل بوهاشم . إنه وعاء كبير لمصنع جعة "سايدر" .
جميعنا طلبة في العشرينات من عمرنا إلا التيجاني فهو أستاذ الفرنسية ويكبرنا ببضع سنوات. فجأة استدار نحوي حشمت فوجدني أكلم الخزان في خشوع وأتوسل إليه ، حسبت نفسي عند ضريح الشيخ الكامل ، طلبت من الخزان بصوت خفيض أن يتزحزح قليلا من مكانه نحو مدخل الباب حتى أطمئن على نفسي خلال نومي ، كنت خائفا أن يسقط فوقي،استغرب حشمت من أمري وقال :
- هل أنت بخير ؟ كيف لك أن تحدث جمادا ؟
- قلت له من شدة الخوف أتودد للخزان وأحثه على الثبات مكانه، لقد وعدني بالسلم والأمان.
- لعلك جبان مخبول ، كيف لخزان "إينوكس" أن ينصت إليك أو يسقط عليك وهو مثبت ببراغي وسلاسل حديدية على الجدار ؟ ، أنصحك بمراجعة الطبيب .
- هل ممكن أن تستبدل معي مكانك وأمنحك صندوقا من التفاح ؟ انفجر التركي ضاحكا ورد علي:
- لن أغير مكان نومي حتى لو منحتني الضيعة كلها.
- إذن أنت جبان مثلي تخشى من الموت، فلماذا تعاتبني ؟
- ربما، دعني أقول لك شيئا ، لقد أدهشتني أيها المغربي بخفة دمك وخيالك ، نحن نقطن في هذا المرآب منذ حوالي شهر ولا أحد أثار مثل هذا الحديث قبل مجيئك ، يبدو وكأنه حديث المجانين . تعاطيك مع الخزان أثبت لي أن لديك مخزونا كبيرا من الخيال يستبد بعقلك ، ربما أنت مدمن على مشاهدة أفلام الرعب والخيال العلمي .
- لا لا أبدا ، أنا واقعي أكثر منك، لأنني جبان كما أشرت فقايضتك بصندوق تفاح لكنك امتنعت . أنت أيضا جبان ، كل ما في الأمر هو هذا الخزان العملاق أزعجني وأفسد نومي .
- أنت صنعت قصة سوريالية من هذا الخزان الممتلئ بجعة التفاح ، آه كم يسيل لعابي على جعة سايدر .
التفت نحو التجاني وسألته :
- أتظن أن الخزان ممتلئ يا تجاني ؟ .
- فرد علي متهكما : وما يضيرك إن كان ممتلئا أم فارغا ، وهل تظن أنك ستبقى على قيد الحياة إن سقط عليك ؟ .
جواب التيجاني أجج قلقي وأثار مخاوفي من جديد وإن تظاهرت برباطة جأش . ضحك حشمت بصوت عال وأضاف قائلا :
- أتدري إن سقط عليك فيل ضخم ماذا سيحدث لك ؟ .
- قلت لا أدري .
- قد تنجو وتصاب بكدمات وكسور خطيرة في جسدك وربما تصاب بعاهة مستديمة، أما إذا سقط عليك هذا الخزان فستتحول إلى لحم مفروم، لأن وزنه أضعاف مضاعفة لوزن الفيل .
- اصطنعت ضحكة هازئة وقلت له: إذن سأموت خارج وطني وأنا في ريعان شبابي ؟
- رد علي ساخرا : نعم ستموت وستدفن مع الإنجليز في هذه القرية النائية بعدما يصلي عليك كاهن الكنيسة .
أربكني جوابه فاستدرت نحو التيجاني وقلت له سجل رقم هاتف عائلتي بالمغرب لكي تخبرهم إن أصابني مكروه .
تفرس التجاني في وجهي وقال : نم ، نم يا أبله ، يبدو انك شخص أحمق ساقه القدر إلينا لتنسينا همومنا ونطرد الضيق والملل من هذا المرأب . فقام حشمت ليضغط على زر الإنارة وانطفأ الضوء .
ساد سكون خافت وظلام دامس، استسلمنا جميعا للنوم ، غاب كل واحد منا داخل كيس نومه ، غرقنا جميعا في سباتنا وخيم على المرأب صمت المقابر.
أمضيت الليل كله أتقلب داخل كيس نومي، أقرأ اللطيف تارة وأردد المعوذتين تارة أخرى . أرقب خزان الجعة حتى لا يتحرك من مكانه. كنت أستجمع قوتي وأحدث نفسي بأن الأعمار بيد الله ولا راد لقضائه، ثم أخلد للنوم وأغيب. بعدها أستفيق في جنح الظلام لأتحسس الخزان بيدي فأجده ملسا باردا مازال مثبتا في مكانه.
كنت أتمنى لو تحضر الملائكة وتخلصني منه. تخيلته شبحا عملاقا متربصا بي.
عند الليل تنخفض حرارة الطقس ، سكون الليل يغطيني بعتمته ، أسمع هزيز الرياح وحفيف الأشجار يصل إلى أذني ، يمتزج بنباح الكلب "لولو" وزقزقة الطيور فتتشكل في الفضاء سمفونية شجية . هبوب رياح عاصفة من تحت فتحة الباب تحدث صوتا يصدح في الهواء كصوت صفير بلبل في ليل عاصف . مرت ساعات ولم يغمض لي جفن ، كنت أتخيل الخزان سيسقط علي في أي لحظة ، سأموت في هورسماندن وسأدفن مع النصارى . سيتلو علي الكاهن ترانيم الإنجيل المقدس في الكنيسة . سأجاور المسيحي جون ..مايكل ..وباتريك في مقابر الإنجليز . لن تستطيع أمي الحنونة أن تزورني في قبري .
ما زلت أصارع نومي ، هواجس الخوف تستبد بي في منامي ، مشاهد مرعبة تجتاح مخيلتي . فجأة استيقظت فوجدت الخزان مازال مثبتا واقفا فوق رأسي . لم يتزحزح قيد أنملة من مكانه .
استيقظنا على صوت دافيد وهو ينادي : انهضوا ، انهضوا ياشباب ، لقد دقت ساعة العمل . نظرت إلى ساعة خشبية معلقة على الجدار ، كانت تشير الى السابعة صباحا ، دخل دافيد المرآب مرتديا حذاء مطاطيا إلى ركبتيه بلون أخضر داكن . لمحني بعينيه الزرقاوين فوجدني جالسا متدثرا بكيس نومي . سألني : ماذا دهاك يا "سام" ألم تغمض عينيك ؟ ، أشرت بسبابتي إلى الخزان وقلت له : أخشى أن يسقط علي فأموت وأنا بعيد عن أمي ووطني . ضحك دافيد وقال : لا عليك سآمر عمالي اليوم أن يزيحوه قليلا نحو مدخل الباب حتى تستريح وتنام .
تنفست الصعداء ، شكرته على لطفه وقمت إلى دورة المياه . لما فرغت من الحمام وجدت جميع الطلبة القاطفين واقفين مصطفين في طابور ، يتثائبون ، يفركون أعينهم وكأنهم لاجئون في إحدى مخيمات الصليب الأحمر .
الحياة قد تصبح على قدر كبير من السخرية . تحسرت كثيرا على نفسي من هذا المشهد البئيس وقلت في نفسي : يا إلهي : سأقطن بهذا المرآب طوال موسم القطف وأقف كل صباح متسمرا في طابور اللاجئين لاستعمال دورة المياه ، لماذا صنعت بي كل هذا يا أستاذ هنري ؟
لو كنت اجتزت مباراة الأساتذة بالرباط لما جئت إلى بلاد الإنجليز لأنام في المرآب.
لكن لما كنت أختلي بنفسي بين أشجار التفاح وأراجع نفسي أقول: وهل كان وضعي سيكون أحسن حالا من الأستاذ التيجاني ؟ ، فهو أستاذ مثقف في اللغة الفرنسية ، وله مكانة رفيعة بين زملائه الأساتذة في الثانوية، جل الناس يحترمونه في مكناس . يمشي مزهوا بين طلبته داخل الفصل يشرح لهم ديوان الشاعر الكبير "لامارتين" ، ومع ذلك كان ينتظر قدوم الصيف بفارغ الصبر فيطير إلى جنوب إنجلترا لقطاف التفاح عند دافيد .
المساء كان التيجاني يصطحب معه لولو ليطوف به وسط البلدة ترويحا على النفس ، فيبصبص الكلب المدلل بذيله من شدة الفرح . شعور الوحدانية والضجر ينتابه بشدة طيلة اليوم ، لذا كان يتوق لمجيء الأستاذ بلهفة قوية كي يأخذه جولة فسحة بالحدائق الخضراء، ليس حبا في لولو طبعا، بل لسواد عيون مدام ريتا صاحبة الضيعة.