الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

إغتيال حلم المجموعات الشعبية وإغلاق باب مورد ليالي السمر الرمضانية بأسفي

إغتيال حلم المجموعات الشعبية وإغلاق باب مورد ليالي السمر الرمضانية بأسفي كورونا يصيب السمر الرمضاني
في ظل حالة الطوارئ التي عشناها منذ شهر مارس 2020، بحجة جائحة فيروس كورونا، سواء أثناء الحجر الصحي الشامل خلال رمضان الفارط، أو شهر رمضان الحالي الذي سيسري فيه قرا الحجر الليلي من غروب الشمس إلى شروقها ابتداء من يوم الأٍربعاء 15 أبريل 2021، هل مازال المواطن/(ة) المغربي يقدس شهر رمضان بالشكل المثير الذي كانت تتأسس عليه خصوصية ممارساته وسلوكاته الدينية والدنيوية المتفاعلة مع الحقل الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والترفيهية..؟ و كيف استطاعت "كورونا" اعتراض وتجميد عادات موروثنا الثقافي الشعبي في شهر المودة والرحمة، وإشهار حق الفيتو "الحكومي" في وجه المغاربة وتغيير عاداتهم وتقاليدهم الرمضانية الضاربة بجدورها في عمق التربة الوطنية؟ وما مدى التأثير النفسي والمعنوي في علاقة مع الحجر الصحي لثاني سنة موبوءة حاملة لجراح غائرة على جبين المواطنين؟
قبل أن يقطر السقف ببطون أكلت السحت، وتتفنن في تعذيب المواطنين وتمريغ كرامتهم في التراب باسم الدين عن طريق السياسة، كان المقهى الشعبي يلعب دورا اجتماعيا وثقافيا وفنيا ونقطة ضوء ساطعة تضيء منعرجات طريق التواصل الإيجابي ببلادنا من خلال  لقاءات الأصدقاء/ الزبناء والترفيه عن النفس وضغوطات الحياة وصعوبة العيش.
 لقد كان فضاء المقهى في الوسط الشعبي سابقا يشكل فرصة ثمينة للتعارف بين مختلف الأجيال وفئات المجتمع وشرائحه الاجتماعية، وربط علاقات جديدة بين المثقفين ورجال التعليم والفنانين والمبدعين ومختلف "َالصْنَايْعِيًةْ". بل كان رحاب المقهى يعتبر منصة إعلامية شعبية لتبادل المعارف وأطراف الحديث، وخلق نقاشات في مواضيع راهنية لها أهميتها في حياة الناس والمجتمع، حيث يمكن القول أن المقهى الشعبي كان مختبرا حقيقيا لقياس منسوب القيم الاجتماعية، وواقع العلاقات الإنسانية والتواصلية المشبعة بالإيثار والتضامن والتكافل الإجتماعي.
إن جميع المدن التي عرفت ظاهرة المقاهي الأدبية والثقافية التي اشتغل على تأسيسها ثلة من الفعاليات الجمعوية لإثارة أسئلة القلق الثقافي والمعرفي، ساهمت إيجابا في تحويل المقاهي الشعبية في مجموعة من المناسبات الجميلة وخصوصا خلال شهر رمضان الفضيل، كمناسبة حاملة لطقوس وعادات حضارتهم وتراثهم الوطني ومورثهم الشعبي إلى فضاءات للإستئناس والمؤانسة وخلق الفرجة والمتعة وصناعة الفرح فيما بين مكونات المجتمع المغربي، وفق تعاقدات وإمكانيات بسيطة ومتواضعة تحقق التوازن بين الحقوق والواجبات دون مشاكل تذكر، على اعتبار أن صناعة الفرح والفرجة بالنسبة للمواطن البسيط علاج أساسي لإكراهات الواقع الإجتماعي والإقتصادي وضغطه النفسي والمعنوي والمادي والبيئي.
في هذا السياق تتسابق أسئلة "رمضان والموجة الثانية من الإغلاق ومنع التنقل والحجر التعسفي على المواطنات والمواطنين" من بينها على سبيل المثال لا الحصر: هل غيرت الجائحة سلوك المواطن المعزول والمحجور عليه في زمن كورونا خلال رمضان الفارط والحالي؟ إلى أي درجة أترث قرارات الحكومة في علاقة مع حالة الطوارئ الصحية وإغلاق أبواب الحركة في وجه البسطاء بالمقاهي الشعبية التي كانت مسرحا لليالي رمضان الجميلة؟ كيف هو حال فئة المجموعات الشعبية الفنية التي حرمت ومنعت من ممارسة مهنتها الفرجوية بالمقاهي الشعبية بمختلف المدن المغربية؟ 
اختارت جريدة "الوطن الآن" في هذه الورقة نموذج المقاهي الشعبية بمدينة أسفي حاضرة المحيط، و التي كانت تشكل قبل جثوم غول الوباء على صدور المسفيويين، فضاء للتلاقي بين الجمهور عاشق النغم والطرب والموسيقى الشعبية وفن العيطة خلال شهر رمضان، ومناسبة لتحريك عجلة الفنانين ودعمهم ماديا واجتماعيا، وضمان قوت عيشهم وتوفير تكاليف الشهر الفضيل في انتظار قدوم فصل الصيف وانطلاق مناسبات الأعراس والحفلات والمهرجانات الوطنية. 
أكد مجموعة من شيوخ العيطة والفنانين الشعبيين أن المقاهي التي كانت تفتح أبوابها لاستقبال زبنائها من عشاق النغم والطرب وتنظيم جلسات فنية من طرف مختلف المجموعات الغنائية خلال شهر رمضان الكريم لم تكن تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ورغم ذلك كانت تلعب دورا مهما في التخفيف من وطأة الأزمة المادية لهذه الشريحة الاجتماعية التي تعيش من مداخيل عروضها الفنية، دون أن تغريها إشهارات قفة رمضان أو تتسابق نحو عمليات الإحسان المفترى عليه، أو تبيع آلاتها الوترية لمقاومة عطش وجوع الصيام مثل ما وقع خلال شهر رمضان الفارط، وهذا ما يتوقعه العديد منهم هذه السنة للأسف الشديد.
"قبل غزوة كورونا كانت أربع مقاهي بمدينة أسفي تحتضن عدد مهم من المجموعات الشعبية و الفنانين والفنانات، وتفتح أبوابها بعد صلاة التراويح للتنفيس على الزبناء لتلبية اختياراتهم واحترام أذواقهم الفنية بعد يوم من العمل الشاق والصيام والجهد، وكانت تلك المجموعات الغنائية تخطط لشهر رمضان لإقامة تعاقدات مع أرباب المقاهي لضمان لقمة العيش بعيدا عن التسول و الإستعطاف وطلب الإحسان". يوضح أحد الفنانين الشعبيين من منطقة الحصبة.  
ومن بين المقاهي التي أغلقت أبوابها في وجه الفنانين الشعبيين وشيوخ العيطة بأسفي منذ انتشار الجائحة نذكر مقهى "لَحْصَايْرِي" التي تبعد عن مدينة أسفي بحوالي ثلاثة كلومترات في اتجاه طريق جماعة حد حرارة. "هذه المقهى كان يشتغل فيها خلال شهر رمضان مجموعة كل من الشيخ السي محمد ولد الصوبة ومجموعة الفنان السي محمد المحفوظي". يقول نفس المتحدث للجريدة.
وتخصصت مقهى "لحصايري" في تقديم لونين تراثيين من تراث الغناء الشعبي وفق الطلب، لإشباع رغبات الزبناء سواء من عشاق نغم آلة لوتار أو آلة الكمان، فضلا عن حضور صوت "الشيخة/الفنانة" العبدية كمحور لأداء وجبات وأطباق شهية من موروث الغناء العيطي برأسة الشيخ السي محمد ولد الصوبة، علاوة على لون الأغاني المتجددة الشبابية التي كان يقدمها الفنان القدير الشيخ المحفوظي والتي تجد قبولا وانتشارا واسعا لدى فئة الشباب بمواضيعها الاجتماعية والإنسانية والعاطفية. 
لقد كانت المجموعتين الفنيتين تتقاسمان زمن العمل بالمقهى الشعبي المذكور كل ليلة في احترام تام للتوقيت الممنوح لرب المقهى وفق ترخيص السلطات العمومية.. "كانت كل مجموعة تؤدي فقراتها الفنية وفق البرنامج المسطر والتوقيت المحدد لها، وكان الجمهور يتفاعل مع الفنانين والفنانات ويكشف عن أسلوبه الراقي في السخاء والعطاء في لحظة (اَلتًعْلَاقْ) أو ما يصطلح عليه في لغة الشيوخ بـ (اَلسًيِقَارْ)، مع العلم أن رب المقهى ملزم حسب الاتفاق المبرم على أداء مستحقات المجموعتين وفق التعاقد والإتفاق الحاصل". يوضح أحد الفنانين الشعبيين من أسفي و الذي لم يتردد في إعلان أسفه بالقول:
 "كان عملنا الفني وسط فضاءات المقهى الشعبي مثل المختبر الذي يشكل فرصة للتمرين القوي على العزف على مختلف الآلات الوترية والإيقاعية، واختبار الأصوات الغنائية الجديدة، وكانت سانحة كذلك تفتح أمامنا نافذة أمل لمواجهة تكاليف الشهر الفضيل، بحيث لم نكن نفكر بتاتا في البحث عن أي دعم أو إحسان أو قفة رمضانية، كنا نعول على عرق حبيننا وأريحية الزبناء/ الجمهور الجميل".
أما المقهى الثانية فهي مقهى "اَلْبَرَاجْ"، والتي كانت تبعد عن مدينة أسفي في اتجاه طريق دار القايد السي عيسى بن عمر العبدي، بحوالي خمس كلومترات، حيث كان يداوم على الإشتغال فيها وتقديم عروضه الفنية كل من الشيخ حسن ﯕَبًزَ عازف آلة لوتار العبدية، والشيخ جمال الحصبة بالإضافة إلى الشيخ عبد الإله الزين.. "كانت تتناوب على العروض الفينة بمقهى (اَلْبَرَاجْ) ثلاثة أو أربعة مجموعات شعبية، وكان فضاء المقهى يستقطب جمهور متوسط الحضور. ورغم ذلك كان أفراد المجموعات الفنية يشعرون بالدفء والعطف والتضامن من طرف عشاقهم ومحبيهم، الذين يترجمون حبهم من خلال (اَلتًعْلَاقْ) منحهم أوراقا مالية كل حسب استطاعته". حسب تصريحات متطابقة لفنانين من أسفي.
المقهى الثالثة تتواجد بمنطقة لالة هنية الحمرية وهي قريبة من المعلمة الأثرية قصر البحر وسط المدينة القديمة، وكان يشتغل فيها كل من شيخ لوتار الفنان عبد الرحيم الرواسي، والشيخ أمين الورديني عازف الكمان والإيقاع باحترافية عالية، وكانا الشيخين يشكلان مجموعة واحدة يتزعمها حسب التوقيت ومدة العمل بالتناوب مرة بقيادة الفنان الرواسي وتارة أخرى برآسة الشيخ أمين الورديني، وكان فضاء هذه المقهى يستقطب بدوره عدد مهم من الجمهور والزبناء طيلة شهر رمضان مما كان يشكل حقيقة مورد رزق وعيش لكل أفراد المجموعة طيلة شهر رمضان. 
أما المقهى الرابعة فهي فضاء المسبح البلدي، والتي كانت تشتغل فيها كل شهر رمضان الشيخة الفنانة القديرة خديجة مَرْﯕُومْ ومجموعة رشيد اَلنْوِيتْي، وبحكم أن المقهى تتواجد في وسط مدينة أسفي وقريبة من الساكنة فقد كانت تعرف السهرات وليالي السمر الرمضانية إقبالا كبيرا للجمهور، خلاف المقاهي الأخرى التي كانت تتواجد خارج المدار الحضري. وكانت تعتبر متنفسا حقيقيا سواء لأفراد المجموعات الغنائية الشعبية أو للجمهور من مختلف الشرائح الاجتماعية الذي كان يصنع لحظات الفرجة والفرح ويساهم بشكل تضامني وتكافلي في مداخيل توفر الحد الأدنى لمواجهة مصاريف شهر رمضان للشيوخ والشيخات والفنانين الشعبيين.  
في زمن كورونا، وخلال شهر رمضان الفارط (2020) أغلقت المقاهي أبوابها في وجه الزبناء والمجموعات الفنية، وسيعرف رمضان الحالي (2021) نفس القرار المجحف الذي عمق الأزمة الاجتماعية والنفسية وأربك حسابات عيش هذه الشريحة الفنية بفعل قرار منع التجوال وإغلاق المقاهي: "هناك فنانات و فنانين لا يتوفرون على بطاقة الفنان، ومحرومين من التغطية الصحية، وملزمين بتوفير لقمة العيش لأفراد أسرهم وعائلتهم وأقربائهم، ومنهم من ينتظر وصفة طبية لمقاومة أزمة مرضية دون الحديث عن متطلبات الكراء وفواتير الماء والكهرباء وهلم حساب وكريدي وسلف وسير حتى..." توضح إحدى شيخات العيطة التي تعيش تحت سقف غرفة آيلة للسقوط بمدينة أسفي.
السؤال الذي يردده أغلب مكونات هذه الشريحة الاجتماعية شيوخ وشيخات وفنانين شعبيين بعدما اغتيل أملهم في استئناف أنشطتهم الفنية، هو: إلى متى سيظل الوضع مرتبك تسوده ضبابية على مستوى التعاطي الحكومي مع واقع الحال البئيس، دون بوصلة تقودنا إلى بر الأمان وتعيد الحياة لسيرتها الأولى؟