الأربعاء 24 إبريل 2024
فن وثقافة

أسباب نزول عيطة "شريفي سيدي حسن" على لسان الفنان حسن الزرهوني (8)

أسباب نزول عيطة "شريفي سيدي حسن" على لسان الفنان حسن الزرهوني (8) الزميل أحمد فردوس رفقة الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني بجانب مشهد من لمحلة السلطانية

تعتبر عيطة "شريفي سيدي حسن" من العيوط الجميلة والرائعة التي ساهمت في توثيق أحداث تاريخية عاشها المغرب في فترة حكم السلطان المولى الحسن الأول، وتعرضت هذه "القصيدة" للإندثار والتلاشي والنسيان، إلى أن جمع بعض متونها الشعرية شيوخ العيطة من مدينة أسفي، على لسان الرواد من أمثال الشيخ ميلود الداهمو والشيخة عيدة وغيرهم.

ضيف جريدة "أنفاس بريس" الفنان التشكيلي والموسيقي الأستاذ حسن الزرهوني استجاب لنداء ثلة من أصدقائه المهووسين بفن العيطة، فغرد بلبل منطقة الكاب، وقام بتفكيك وتحليل قصيدة هذه العيطة في سياق أحداثها التاريخية ومواقعها ومجالاتها الجغرافية، وشرح مجموعة من متونها ومفرداتها، فكانت فرصة ثمينة لإشراك القراء في هذا الطبق التراثي في انتظار تفاعل المهتمين بفن العيطة والموسيقى التقليدية المغربية الأصيلة.

في سياق شرح وتفسير وتفكيك وتحليل بعض المتون الشعرية الواردة في عيطة "شريفي سيدي حسن" أو العيطة "الزيدانية"، إرتأينا أن نتناول متن بالغ الأهمية وله حمولة فنية جميلة على المستوى المعرفي والثقافي في سياقه التاريخي، مع العلم أن بعض الشيوخ والفنانين لا يتغنون به أثناء أداء العيطة، حيث قال فيه الشاعر(ة)/النظام (ة):

" تفرق الديوان

تسجل لكلام

الله يعز لحكام

شريفي سيدي حسن"

إن الحديث عن هذا المتن يقودنا بادئ الأمر إلى ضرورة شرح كلمة "الديوان" ثم الأدوار التي كان يلعبها الديوان في ضبط مجموعة من الأحكام والقرارات والعمليات ذات الصلة بتدبير الحكم في فترة معينة من تاريخ المغرب.

إن أصل كلمة "الديوان" فارسية، ويطلق على المكان الذي تحتفظ فيه السجلات الإدارية التابعة للجهاز الحكومي، وهو مجمع الصحف أو الكتب والوثائق التي تدون فيها أسماء المنتسبين للجيش وكل ما يتعلق بهم حسب الترتيبات والمعلومات المتضمنة في أوراقهم. و وظيفته هي حفظ كل ما يتعلق بحقوق الدولة من الأعمال والأموال والممتلكات ومن يقوم بها من الجيوش والعمال و الباشوات والقياد.

إن أهم الدواوين المعروفة تاريخيا هو "ديوان بيت المال"، والذي توارث منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث نجده كذلك خلال فترة الدولة العباسية والأموية فضلا عن فترة سلاطين الدولة السعدية والعلوية.

خلال فترة السلطان المولى الحسن الأول نجد الدواوين التالية :

ديوان بيت المال: كانت تدون في سجلاته جميع النفقات ومصاريف الجيش، بالإضافة إلى سجلات المداخيل المتعلق بالغنائم.

ديوان الخراج: وكان ديوان الخراج يختص في تدوين مستحقات المخزن المركزي من الجبايات ويسجلها في سجلات خاصة.

ديوان الرسائل: وهو الديوان الذي تسجل فيه نسخ من الرسائل أو كيفية تحريرها وتدوينها سواء كانت موجهة للسلطان أو تلك المرسلة من العمال والباشاوات والقياد عبر السلم الإداري للسلطة المركزية والعكس كذلك.

ديوان التوقيع: كانت تسجل فيه الشكايات الكبرى المتعلقة بالقبائل وأعيانها و سكانها، والموجهة إلى السلطان قصد الفصل في مواضيعها على اعتبار أنه هو الذي يتعين عليه النظر والحسم في هذا النوع من الشكايات ..(شكايات تعرض القوافل التجارية للنهب والسلب ومشاكل قطاع الطرق وبسط المشاكل الاجتماعية في نزاع مع بعض القياد وأعوانهم من المخزن المحلي.

ديوان المستغلات: تسجل فيه جميع الممتلكات التابعة للدولة من أراضي وعقارات وبنايات.

ديوان الصدقات: وكانت تسجل فيه عملية جبايات موارد الزكاة وتوزيعها على مستحقيها وفقا للشريعة الإسلامية .

ديوان المصادرة: يدون فيه كل ما يخالف دستور وقانون الدولة.

ديوان الفض: كانت تقرأ من خلاله الرسائل وكذلك الجواب عليها .

ديوان الجند: تسجل فيه أسماء الجنود وأنسابهم ومراتبهم ورواتبهم، و هو الذي يهمنا على اعتبار أنه ورد في المتن العيطي إشارة "تْفَرًقْ الدِيوانْ" . وهي إحالة على أن "ديوان الجند" قد كان يقوم بمهمات عملية تنظيم وتسيير الجيش المخزني بناء على التوجيهات والتعليمات التي جاءت بها الإصلاحات الكبرى التي عرفها الجيش في عهد السلطان المولى الحسن الأول. وهذا هو معنى "تْفَرًقْ الدِيوانْ"

إن الشطر الثاني الذي تغنى به الشاعر في المتن العيطي "تْسَجًلْ لَكْلَامْ" يحيل بدوره على عملية تدوين كل ما يتعلق بهذه العمليات الضبطية في سجلات "ديوان الجند"، أي التعليمات التي تصدر عن السلطة المركزية المتمثلة في شخصية السلطان المولى الحسن الأول والذي تنفذ قراراته بحذافرها من طرف جهاز المخزن المركزي.

إن هذه التعليمات الوارد في "تْسَجًلْ لَكْلَامْ"، تعتبر ترسانة قانونية، وهي التي عرفت إبان فترة الحماية الفرنسية بمجموعة من الأسماء حسب الترتيب (الظهير، المرسوم الملكي، القانون، ثم تصدر نصوص قانونية تنظيمية و التي توضح كيفية أجرأة وتطبيق تلك الفصول على شكل مراسيم وقرارات ومناشير ودوريات إلى غير ذلك..و في تلك الفترة التاريخية كان "الديوان" يجمع كل هذه القوانين الرسمية وهي التي أشار إليها الشاعر (ة) / الناظم (ة) في الشطر الثاني من المتن العيطي بـ "تْسَجًلْ لَكْلَامْ"

لقد عمل السلطان المولى الحسن الأول على تعديل القوانين المعروفة بالديوان حتى تتأقلم مع الظرفية الإقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية الجديدة التي عرفها المغرب بعد هزيمته في معكرة إيسلي سنة 1844 ، وحرب تطوان سنة 1860، وكان الهاجس الوحيد عند السلطان ، هو إصلاح الجيش ومده بالتعزيزات والتجهيزات اللازمة. كما بادر إلى فتح المخازن وتوزيع الأموال والألبسة والأسلحة، وتقديم طلبات لبعض الدول خصوصا انجلترا من أجل الحصول على إمدادات الأسلحة لمواجهة القبائل الثائرة والدول الطامعة في السيطرة على المغرب.

لقد كان الجيش السلطاني ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الجنود النظاميون أي الرسميون، ثم رجال المخزن الذين يقومون بحماية السلطان ولا يحملون البنادق إلا إذا خرج السلطان من "لفرا" الخيمة السلطانية أو خروجه من "السِيوَانَةْ" وهي خيمة الضيافة في حالة استقباله لبعض الضيوف . وهناك المجندون من القبائل الملتحقون بالجيش بعد المناداة عليهم للخدمة لعسكرية، ثم عسكر تتكون مجموعاته من "الْـﯖِيشْ" المنتسبين لقبيلتي أولاد دليم والشراردة، بحيث يكون دائما في حالة استعداد وتأهب قصوى لخوض المعارك، و يتم تجهيزه وتمويله من الخزينة وأغلب عساكره من القبائل المخزنية التي كانت تساهم بشكل مستمر في إمداد الجهاز المخزني المركزي بالوحدات العسكرية، بالإضافة إلى "جيش الَوْدَاَيةْ" الموزع على ثلاثة مجموعات واحدة تتمركز بالقرب من واد سبو، وفرقة تحصن وتحمي قصبة الرباط، والثالثة تستقر بحوز مراكش. وجيش "شْرَاﯖَةْ" وأغلب جنوده ينتمون للقبائل المحيطة بمدينة فاس،وأخيرا جيش البخاري الذي أسسه السلطان المولى إسماعيل.

كان الجيش يتلقى الأوامر من طرف المأمورين بهذه العملية وخصوصا بالحاجب الملكي أبا حماد عندما ترقى لمنصب "الصدر أعظم" الذي يتواصل مع باقي أفراد المخزن المركزي بإعطاء التعليمات الصادرة عن الهيئة العليا المتمثلة في السلطان المولى الحسن الأول، وتسجل هذه التوصيات في ما يسمى بديوان الجند ابتداء من إنخراط و التحاق الجندي بالجندية والمدة الزمنية التي قضاها إلى إنتهائه من مهامه العسكرية ضمن فرسان الحركات السلطانية الكبرى.

إن اختيار الجند كان يفرض التقيد بمواصفات ومجموعة من الشروط التي ينظمها ديوان الجند والمتمثلة في وصف المقاتل الذي سينخرط في صفوف الجنود وفق أوصاف محددة ودقيقة تتمثل في (البلوغ ، سليم بدينا وصحيا، وقوي البنية ، والإقدام على القتال والحروب وله دراية بأنواع التضاريس وخصوصا في المناطق الجبلية...)

بديوان الجند يتم تسجيل كل المعلومات منها إذا كان الجندي يتوفر على أسرة وأبناء أو لا، أو يتوفر على فرس ليتم تعويضه ومنحه مستحقاته القانونية (تعويضات على الفرس وعلى الأبناء) حيث يخصص راتبا معينا للجندي كتعويض من ديوان الجند إذا ما تعرض للوفاة كذلك...وإذا لم يستطع الجندي استكمال وإتمام الإنخراط في الجندية لأسباب صحية يتم إخراجه من سجلات ديوان الجند بعد تخصيص راتب له، أما الجندي الذي يمتنع عن القتال في حالة مواجهة القبائل الثائرة وهو قادر على أداء مهمته القتالية، حرم من راتبه المخصص له، وإذا مات وقتل استفاد دوي الحقوق ويؤدى لهم راتب كدين مستحق لهم من بيت المال .

ويسهر على تنظيم ديوان الجند كل من "مجلس التقدير" المكلف بتقدير رواتب الجند وتحديد أوقات صرفها حسب التصنيف من الأطر العليا إلى المتوسطة والفئات الدنيا كل وفق مهامه واختصاصه وكفاءاته، و "مجلس المقابلة" المكلف بتسجيل المؤهلين بدنيا والشروط اللازمة للقتال . وكان كل مجلس يرأسه أمين بمثابة كاتب، له صلاحيات في تنفيذ القرارات الصادرة عن المخزن المركزي ويسمى "صاحب الديوان". ويضم هذا الديوان كذلك الجند النظاميون الذين يتقاضون رواتبهم من الديوان أثناء فترة تجنيدهم ، ثم الجند المتطوعون وينقسمون إلى قسمين: قسم يتقاضى رواتب للمشاركة في الحروب وقسم ثاني متطوع بنفسه وبماله .

وبخصوص السجلات التي كانت تدون فيها كل هذه العمليات والمعطيات التي ذكرنا كانت موزعة حسب الاختصاصات وهي كالتالي:

سجل الرجعة : وهو عبارة عن كشف حسابي للمصاريف المتعلقة بالجيش.

سجل الزيادة: عبارة عن أموال تحفيزية تعطى وتمنح للجنود من أجل التحفيز والتشجيع من أجل القتال والمشاركة في الحروب.

سجل الساقط: وكانت تدون فيه أسماء المقاتلين الذين تخلو عن القتال لأسباب موضوعية أو ذاتية (صحة ـ ظروف مناخية ـ وفاة )

سجل الفهرست : و هو بمثابة دليل مرجعي يحتوي على أسماء الدفاتر العائدة لديوان الجند.

أما بخصوص الشطر الأخير من المتن العيطي "اللًهْ يْعَزْ لَحْكَامْ" فإن الشاعر يتحدث هنا على المجهود الكبير الذي بدله السلطان المولى الحسن الأول في إخماد انتفاضات القبائل الثائرة والمتمردة بسبب الإصلاحات الكبرى التي قام بها، (العسكرية، والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والدينية..) انظر الحلقات السابقة

رغم سياسة التقشف التي باشرها ونهجها السلطان وترشيد النفقات لكي لا يلتجأ للدول الأجنبية للاقتراض منها كما وقع في بعض الدول العربية كتونس ومصر خلال تلك الفترة التاريخية، واستطاع صد الأطماع المتزايدة للأوربيين حيث تم الإعتراف والإقرار في مؤتمر مدريد سنة 1880 ، الذي حضرته 15 دولة، بعدم تبعية المغرب لأية قوة أجنبية.

رغم هذه الإصلاحات التي قام بها السلطان المولى الحسن الأول، فإن غيرته على الوطن جعلته يتطوع شخصيا بعزيمة الدفاع عن وحدة البلاد، فجهز جواده وانطلق في حركاته السلطانية لتفقد أحوال الرعية، والوقوف على نقط القوة والضعف في القبائل، فحمل عرشه على صهوة جواده منذ توليه العرش سنة 1873 إلى غاية وفاته سنة 1894 ".