Saturday 7 June 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: هنا لندن… في انتظار التنين الصيني

عبد الرفيع حمضي: هنا لندن… في انتظار التنين الصيني عبد الرفيع حمضي
في لحظة تعيد فيها الجغرافيا رسم معالم السياسة، ويُعاد فيها ترتيب خرائط المصالح والنفوذ، يبدو أن قضية الصحراء المغربية تدخل منعطفًا حاسمًا. فبعد المواقف الإيجابية لكل من الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا -البلدان العضوان الدائمين في مجلس الامن - جاء تصريح وزير الخارجية البريطاني الجديد، الذي وصف مبادرة الحكم الذاتي "الأساس الأكثر مصداقية وقابلية للتطبيق وبراغماتية"
هذا التطور في موقف عضو آخر دائم في مجلس الامن جاء ليؤكد أن ميزان مواقف الدول المؤثرة في القرار الأممي بات بوضوح داعما للموقف المغربي، مع ما يحمله ذلك من دلالات استراتيجية للحسم .
لكن أهمية الموقف البريطاني لا تكمن فقط في مضمونه، بل في مصدره. فالمملكة المتحدة معروفة بتقاليد دبلوماسية “أرثوذكسية”، تقوم على التريث، والحذر، والثبات.
وزارة الخارجية البريطانية تحديدًا تُعد من أكثر المؤسسات تشبثًا بالخط المحافظ في السياسة الخارجية، قليلة الإيمان بالتحولات السريعة أو التفاعلات مع اللحظة السياسية العابرة. ولهذا فإن إعلان دعم مبادرة الحكم الذاتي لا يُمكن قراءته كمجرد تحول في موقف النخبة الحزبيةالحاكمة ، بل كمؤشر على تغير أعمق يمس بنية الدولة العميقة البريطانية ذاتها، بمختلف أضلعها: الدبلوماسية، الأمنية، العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والسياسية.
إنه إعادة تموضع محسوب لدولة كبرى، ترى في الاستقرار بالمنطقة حجر أساس للأمن الإقليمي في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
-الجزائر… الوهم في زمن التحولات
في مقابل هذا الزخم الدولي المتصاعد، تواصل الجزائر تمسكها بوهم سرديات الحرب الباردة، مُصرة على خيار الانفصال، ومستمرة في توظيف قضية الصحراء المغربية في صراعاتها الإقليمية، بدل النظر إليها كفرصة لبناء فضاء مغاربي متكامل ومتضامن.
هذا الجمود السياسي يعكس عجزًا في قراءة الواقع الدولي المتغير، وانفصالاً عن منطق المصالح المتبادلة والتكامل الاقتصادي. فلا تزال الجزائر تُقارب الملف بمنطق الخصومة لا منطق البناء، وتُفوّت بذلك على شعبها وعلى المنطقة فرصًا تاريخية للاستقرار والنمو.
لكن مسار التاريخ لا يتوقف، ولا ينتظر من يتأخر عنه. وتاريخ المنطقة يُظهر أن من يتقن فن التفاعل مع التحولات هو من يصنع الفرق في اللحظات الفاصلة.
-الصحراء المغربية في قلب المشروع الإفريقي للمغرب
وبعيدًا عن منطق الجمود والمواجهة، اختار المغرب أن يجعل من أقاليمه الجنوبية منصة انطلاق نحو إفريقيا، لا نقطة نهاية لنزاع. فالصحراء المغربية، بدل أن تكون عبئًا سياديًا، أصبحت قلبًا استراتيجيًا لمشروع تنموي ودبلوماسي عابر للقارة.
فمن الداخلة والعيون، يشتغل المغرب على رؤية متكاملة للربط الأطلسي بين إفريقيا والعالم، تجلت في المبادرة الملكية لتمكين عدد من الدول الإفريقية من منفذ دائم على المحيط الأطلسي. هذه المبادرة، التي تتجاوز بعدها الاقتصادي الصرف ، لكونها تسعى إلى إعادة توجيه سلاسل القيمة et de commerce chaînes de valeur الإفريقية نحو فضاء مفتوح وحر، بعيدًا عن الارتهان للمنافذ التقليدية المغلقة.
ويأتي مشروع أنبوب الغاز النيجيري–المغربي كترجمة عملية لهذا الطموح، إذ يَعْبُر أكثر من عشر دول غرب إفريقية، ويجعل من المغرب بوابة للطاقة نحو أوروبا، ومن الأقاليم الجنوبية مركزًا جيوطاقيًا واستراتيجيًا، لا مجرد نقطة عبور.
بهذا المعنى، فإن الصحراء المغربية لم تعد موضوع نزاع، بل أداة تكامل. وبالتالي فالرهانات التي يحملها المغرب اليوم تتجاوز الرد على خصومه، لتصنع واقعًا اقتصاديًا وديبلوماسيًا جديدًا في إفريقيا غرب الصحراء.
-حسم في واشنطن وباريس وتطور في لندن مع ترقب في بيكين
الاعتراف الواضح والذي لا لبس فيه لكل من واشنطن وباريس بمغربية الصحراء ودعم لندن المباشر والصريح لمبادرة الحكم الذاتي المغربية المغربية بقدر ما يعكس تقاربا ديبلوماسيا وتحولًا استراتيجيًا فهو يؤكد ان الاستقرار الإقليمي بالمنطقة بات يمرّ عبر الاعتراف الصريح بسيادة المغرب
في المقابل، تبرز الصين كفاعل اقتصادي صاعد في المغرب، حيث راكمت حضورًا قويًا في مشاريع البنية التحتية، والتكنولوجيا، والطاقة، في إطار شراكة استراتيجية تتطور بهدوء وثبات. غير أن هذا التعاون، المتقدم في باقي جهات المملكة، فقد ان الأوان ان يمتد إلى الأقاليم الجنوبية، سواء في شكل استثمارات أو وجود مؤسساتي مباشر.
فالتريث الصيني يُمكن فهمه في ضوء الفلسفة الثابتة للسياسة الخارجية الصينية، المبنية على مبدأ عدم التدخل في الملفات المصنفة ضمن قضايا السيادة. فبكين، التي تواجه هي الأخرى تحديات سيادية في ملفات تايوان والتبت وبحر الصين الجنوبي، تتفادى الخوض في نزاعات إقليمية يمكن أن يُستعمل موقفها منها لاحقًا ضدها.
لكن المتغيرات الدولية، وسلوك القوى الكبرى، تُعيد اليوم طرح السؤال: هل بإمكان الصين، وهي تطمح إلى لعب أدوار كونية كبرى، أن تُطوّع تقاليدها الدبلوماسية لتواكب الواقع الجديد؟
إن المغرب، بثباته واستقراره، يقدم نموذجًا موثوقًا في محيطه، لا يطلب من شركائه الاصطفاف، بل الانسجام. ومن هذا المنطلق، فإن بكين مدعوة، في إطار ما تتيحه لها مكانتها الدولية، إلى الانتقال من شراكة اقتصادية ناجحة إلى رؤية استراتيجية منفتحة على آفاق سياسية أوضح، انسجامًا مع منطق التنمية والاستقرار، واحترامًا لعلاقة ثقة طويلة بُنيت عبر الزمن.
-منطق التحولات… ومكانة المغرب
في الحصيلة ،لم تعد قضية الصحراء مجرد نزاع إقليمي بين الرباط والجزائر، بل أصبحت جزءًا من تحول أوسع في نظرة العالم إلى شمال إفريقيا وإفريقيا عمومًا. فالمغرب، من خلال مبادرته للحكم الذاتي، ومشاريعه المهيكلة، وحضوره المتزايد في الساحة الإفريقية، اصبح فاعل استراتيجي لا يمكن تجاوزه.
وإذا كان العالم يتجه نحو منطق الشراكات المتوازنة بدل التدخلات المباشرة، فإن المغرب أثبت أنه قادر على صياغة سياسة خارجية مرنة، متعددة الأبعاد، تجمع بين الشرعية التاريخية والذكاء الاستراتيجي.
أما من لا يزال عالقًا في حسابات الماضي، فسيفوته قطار التوازنات الجديدة، وسيجد نفسه في الهامش، بينما يمضي القطار بثقة نحو المستقبل.