الثلاثاء 16 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد فردوس: فصل الصراع بين لسان الفوائد في دحر المكائد وقاهرة الطاعون والمصائد

أحمد فردوس: فصل الصراع بين لسان الفوائد في دحر المكائد وقاهرة الطاعون والمصائد أحمد فردوس

يحكى في زمن الطاعون أن رجلا اهتدى إلى حيلة ثعلبية للمتاجرة بهذه المأساة الاجتماعية، بعدما فطن إلى أن ناس القرية لا يملكون الحيلة إزاء وقف زحف الوباء، الذي فتك بعائلاتهم وأبنائهم، وحيواناتهم، وقطع السبل بينهم، مستغلا شعورهم بالرعب والهلع جراء قلة المؤونة وشح آبار مياههم.

 

لبس قناع الطهرانية وأسدل لحيته الحمراء التي طلاها بالحناء، وتدثر بلباس أبيض، ووضع السبحة في عنقه، وتعطر بعطر المسك، وبدأ الداهية يتسلل إلى ربوة خارج القرية في وقت متأخر من هزيع الليل، ويقرأ بعض ما تيسر من كلام "السحرة والمشعوذين" بصوت مرتفع وخشوع، ويذرف الدموع مبتهلا إلى الله الذي ابتلى العباد بهذا الطاعون الفتاك، حسب نيته ومخططاته الثعلبية.

 

تلصصت عيون القوم على سلوكه الجديد، وتساءل سكان القرية باستغراب عن عدم خوفه من عدوى وباء الطاعون، ولماذا لا يطبق تعليمات "البراح" الداعي إلى الحجر الصحي، وانتابهم شعور بالذنب وهم يعانون من إجراء التباعد الاجتماعي بعد أن انقطعت الأخبار بينهم وبين أقربائهم وأهاليهم. وأحسوا أنهم حرموا من أعمال الفلاحة والتجارة والتجوال وأبسط شروط الحياة.

 

كان يطلق بخورا يزكم برائحته أنوف الناس من أعلى الربوة، ويدعي قدرته على طرد الوباء، والسحر، والعين، والحسد، وتسخير الجن والقبول.. وعلاج أمراض الربو والزكام والحساسية والمفاصل وبوزلوم والمعدة والبواسر والقلب والكبد والقولون، والضعف الجنسي.... وبين عشية وضحاها، بدأ يتضاعف عدد أتباع الرجل كل ليلة للقائه والتمسح ببركاته على مرتفع الربوة، واحتذى به نساء ورجال آمنوا بقوة تحديه للوباء بالصلاة والابتهال إلى الله، وتمسكوا بكلامه عن "الريجيم الغذائي" وأكل النباتات والحشرات والابتعاد عن نصائح "الحكيم" الذي قدم وصفة دواء خاصة ونصائح وقائية للناس.

 

حلقات الذكر والكلام الخارج عن المنطق والمعقول الذي كان يروج له الداهية المغلفة بالتدين، كانت تتخللها جلسات أخرى للحديث عن كفر الحكيم ومن يسير على نهجه وأفكاره، ونسج لأتباعه حكايات وهمية عن أسباب الابتلاء الذي ألم بالقرية والقبيلة، وعدد معاصي العلماء، الذين اقتفوا أثار كفار بلاد الإفرنجة وما شابههم من ملاحدة لا يؤمنون بالقضاء والقدر وما أنزل الله. ويريدون إدخال علومهم لمحاربة الإله.

 

امتلك الداهية عقول الناس البسطاء والجهلة والأميين بثعلبيه ومكره، وسيطر على أفئدتهم، وجعلهم يسبحون بحمده، ويضربون به المثل في أرجاء القبيلة، فتجندوا لنشر دعوته في محيط القرى المجاورة والأسواق والمساجد للانتفاضة ضد الحجر الصحي، وعدم تصديق نصائح الحكيم وكلام العلماء الذين يتسابقون لحصار الطاعون، وأوهمهم أن السبيل الوحيد للنجاة هو استعمال بعض الأعشاب والنباتات ومنتوجات الحشرات والإبل للعلاج من الطاعون.

 

تناسلت خلايا كتائب الداهية في زمن الطاعون، وازدهرت بضاعته الوهمية، بعد أن تم تضبيع المريدين، وتجنيد الواصفين والأتباع والأشياع، للتصدي لكل من أراد مناقشته ومجادلته ومحاورته بالعقل، فصنع محلولا سائلا قطره من أعشاب الجبل والتي وضع لها أسماء باهرة، وأعد خليطا من بول البعير وما يعتمل داخل أحشائها، وانطلق في تجارته الرابحة، دون اكتراث بما يمكن أن يقع من تسممات للبسطاء من الناس الهائمين على وجه البسيطة باحثين عن علاج يبعد عنهم زحف خطر الطاعون اللعين.

 

كلما توسعت جائحة الطاعون بالإصابات والفتك والموت في علاقة بفقر الناس وجوعهم للمعرفة والانعتاق، توسع محيط الداهية، وتضاعفت أرباح تجارته الوهمية، فوسع مجال تدخله وأصبح يخطب في مساجد القرية للتأثير على عقول الأميين والجهلة من بسطاء الناس، ولقيت تجارته رواجا كبيرا باسم الدين .

 

اختار لنفسه لقب "لسان الفوائد في دحر المكائد" وعمم في هذا الشأن رسالة تحت هذا العنوان وانتشرت سمومها كالفطر في أرجاء المعمور، بعد أن دبجها بطلاسم القول باسم الله، ولم يتورع بين سطورها في مهاجمة العقلاء والمتنورين من أبناء القبيلة، واتهم العلماء والحكماء بالكفر والزندقة، ووجه أسلحة الفتك والغدر ضد كل من يقف في وجهه، وخلق بؤرا للفتنة بين القبائل حتى كاد أن يتسبب في حرب عشواء.

 

تسلطن الداهية على الناس بسحر كلامه، ولم يتبق له سوى ادعاء النبوة، بعدما منحته قوة مجهولة أمر الإفتاء في أمور الدنيا والآخرة، وبدت عليه آثار النعمة دون حرج، وفتحت له أبواب الخلوة مع كبار قوم زمانه، للاستشارة والتداول في أمور التوسع والتمدد خارج إيالة شيوخه الكبار الذين يرفلون في النعيم.

 

بزغ اسم امرأة حسناء من بلاد وجدستان، تلقب بـ "قاهرة الطاعون"، فارسة مغوار وشاعرة لا تقهر أمام صناعة فن الكلام، طوعت قطاع الطرق واللصوص بلبيب قولها، وفي عهدها ساد الأمن والأمان، وضمت إليها قبائل مجاورة وجدت في نصائحها الملاذ الأخير والحصن المنيع ضد الداهية "لسان الفوائد في دحر المكائد".

 

:قاهرة الطاعون" سليلة إمارة بلاد وجدستان، تشربت من أصول العلم والمعرفة والحكمة، واطلعت على أمهات كتب أطباء بلاد الهند والسند، وجربت أوصاف علاج أمراض تفشت في عصرها، وتمكنت من ممارسة مهنة الطب بدون مقابل، شاع خبرها في أرجاء المعمور، فلجأ إليها الناس من كل صوب وحدب.

 

بارت سلعة الدجال وطلاسمه الساحرة، وسقط قناع الطهرانية عن وجهه البشع، فشعر بدنو أجله ونهاية أسطورته، فلم يتردد في تسخير مريديه من الأميين والجهلة للرد على منطق "قاهرة الطاعون"، لكنه فشل بفعل سلاح تلك المرأة الطبيبة العاقلة القادمة من بلاد وجدستان.

 

لم يفلح قطاع الطرق صعاليك زمن الوباء من أتباع الداهية الدجال في سرقة "كمامات" أرسلتها إمارة السلطان بوجدستان إلى قاهرة الطاعون، ورجع الناس لبيوتهم استجابة لنداء تمديد الحجر الصحي، ووفرت لهم المؤونة والدواء ومن يحرس منافذ وطرقات القوافل، فعم الأمن والأمان، وخرس لسان دجال يروي سير سالف الأزمان، ويروي حكايات وهمية يستحضرها بفعل كان يا مكان في سالف العصر وتعدد الأديان.