Sunday 14 December 2025
خارج الحدود

عنترة: «يوميات سجين»… كيف حول الرئيس ساركوزي السجن إلى منصة سياسية

عنترة: «يوميات سجين»… كيف حول الرئيس ساركوزي السجن إلى منصة سياسية مصطفى عنترة( يمينا) والرئيس ساركوزي
لم يكن صدور كتاب نيكولا ساركوزي «يوميات سجين»، مجرد حدث ثقافي عابر، بل شكل عودة مدروسة للرئيس الفرنسي السابق إلى قلب النقاش العام. فالسجن، الذي يُفترض أن يكون نهاية رمزية لمسار سياسي، تحوّل في حالة ساركوزي إلى منصة جديدة لإعادة سرد الذات، وتقديم رواية مضادة، وربما لإعادة التموضع داخل مشهد سياسي فرنسي لم يعد يشبه ذاك الذي غادره قبل سنوات.
 
اختار ساركوزي أن يكتب من موقع الضحية لا من موقع المسؤول السابق. في يومياته، لا يظهر كرئيس حكم فرنسا، بل كسجين حُشر في اثني عشر متراً مربعاً، جُرد من الأضواء والهيبة، ووجد نفسه وحيداً في مواجهة الجدران الباردة. هذه الزاوية الإنسانية تمنح النص قوة تعاطفية واضحة، لكنها في الوقت نفسه تطرح سؤالا مركزيا: هل نحن أمام شهادة صادقة لرجل كُسرت صورته، أم أمام بناء سردي واعٍ يهدف إلى استعادة الشرعية الأخلاقية؟
 
لم اطلع بعد على كتاب "مذكرات سجين" رغم أنني من متابعي هذا مسار ومواقف هذا الرجل السياسي، وقد لا أخفي أنني من المعجبين كذلك بحكنته السياسية وصلابة شخصيته وأسلوب تفكيره ورؤيته للأحداث...، بل الأكثر من ذلك ان الرجل صديق للمغرب ومدافع شرس على قضاياه العادلة والمشروعة.
في الكتاب، يتحوّل السجن إلى مرآة أخلاقية، لا يراجع فيها ساركوزي سياساته أو اختياراته الكبرى، بل يراجع علاقته بالعدالة وبالدولة التي خدمها يوما. يقدّم نفسه باعتباره ضحية قضاء مسيّس، ويذهب إلى حد التشكيك في حياد بعض القضاة، ملمّحا إلى وجود رغبة سياسية في «تحطيمه». هذا الخطاب ليس جديداً في التجربة الفرنسية، لكنه يكتسب وزنا خاصا حين يصدر عن رئيس سابق للجمهورية، بما يحمله ذلك من خطورة على صورة المؤسسات وثقة المواطنين فيها.
 
الأكثر إثارة في «يوميات سجين» - كما تناولته وسائل الإعلام في فرنسا وخارجها - ليس وصف الزنزانة ولا طقوس العزلة، بل ما يكشفه الكتاب من تحوّلات في الخريطة السياسية الفرنسية. فبرود العلاقة مع إيمانويل ماكرون، مقابل الدعم غير المتوقع من مارين لوبان وأوساط اليمين المتطرف، يكشفان عن تصدّع عميق داخل العائلة اليمينية. هنا، لا يكتفي ساركوزي بسرد الوقائع، بل يرسل إشارات سياسية دقيقة، قد تُقرأ على أنها تمهيد لإعادة التفكير في حدود التحالفات التقليدية بين يمين الوسط واليمين القومي.
 
في المقابل، جاءت المفاجأة من جهة لم يكن يتوقعها. يكشف ساركوزي عن اتصالات دعم تلقاها من مارين لوبان وشخصيات بارزة في حزب التجمع الوطني. لم يُخفِ دهشته من تعاطف اليمين المتطرف معه، معتبرا أن هذا الدعم غير المتوقع فتح أمامه أسئلة عميقة حول تحولات اليمين الفرنسي ومستقبل تحالفاته. هذا الاعتراف أثار جدلا واسعا، إذ رأى فيه البعض محاولة لإعادة التموضع داخل الخريطة السياسية، فيما اعتبره آخرون مجرد تسجيل صادق للحظة تعرّت فيها الاصطفافات التقليدية.
خرج ساركوزي من السجن رجلا مختلفا. يقول إن الهواء خارج الجدران بدا له غريبا، وإن شيئا٠ داخله انكسر، لكن شيئاً آخر أكثر صلابة وُلد من رحم المحنة. بدا مشهد توقيع الكتاب في العاصمة باريس أشبه بعودة رمزية إلى الحياة العامة، عودة تختلط فيها الصدمة بالفخر، والألم بالرغبة في النهوض من جديد.
لقد حمل «يوميات سجين» أكثر من مجرد سرد لتجربة شخصية؛ بل حمل رواية سياسية وإنسانية قد تعيد رسم موقع ساركوزي في المشهد الفرنسي، وربما تعيد طرح أسئلة كبرى حول مستقبل اليمين الفرنسي نفسه.
إن أخطر ما في هذا الكتاب، كما تفيد عشرات التقارير الاعلامية، هو أنه يقدّم السجن باعتباره تجربة تطهيرية، تُنقّي السياسي من أخطائه وتعيد إليه صفاء الرؤية. لكن هذا الطرح يحمل قدرا من المراوغة؛ فالسجن لا يُسقط المسؤولية، ولا يحوّل الإدانة القضائية تلقائيا إلى ظلم تاريخي. التعاطف الإنساني مشروع، لكن تحويل المحنة إلى صك براءة سياسية يظل موضع نقاش.
 
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن ساركوزي، بوصفه احد الكبار في الصف اليميني، نجح، مرة أخرى، في فرض نفسه فاعلاً في النقاش العام.
لقد خرج من السجن أضعف قانونياً، لكنه بدا أقوى وهو يعيد ترتيب أوراق من الزمن القريب، واستطاع بذلك أن يحوّل واحداً وعشرين يوماً خلف القضبان إلى رأسمال رمزي، يعيد من خلاله مخاطبة أنصاره، ويحرج خصومه، ويضع القضاء نفسه في قفص الأسئلة.
 
«يوميات سجين» ليس كتاب اعتراف، ولا كتاب مراجعة، بل كتاب مواجهة. مواجهة مع القضاء، ومع الخصوم، ومع التاريخ القريب. وهو، قبل كل شيء، تذكير بأن السياسة لا تنتهي عند أبواب السجون، وأن بعض السياسيين يعرفون كيف يحولون السقوط إلى بداية جديدة.
فنيكولا ساركوزي، سواء داخل السلطة أو خارجها، يظل شخصية قادرة على صناعة الحدث، وإثارة الجدل، وفرض نفسه فاعلاً في السرد السياسي، حتى وهو يكتب من موقع السجين أو المتأمل في هشاشة المصير الإنساني.
يبقى السؤال المفتوح: هل يمثل هذا الكتاب نهاية سياسية مغلّفة بلغة إنسانية، أم أنه مقدّمة لعودة غير معلنة؟
في فرنسا اليوم، يبدو أن الإجابة لم تحسم بعد.