كان بإمكان المرء أن يعلن انتماءه إلى القبيلة وافتخاره بها قبل العصر الحديث لأنها موئل حياته وأمنه. مع العصر الحديث وتشكل الدول الوطنية في العالم صارت جنسية المرء هي التي تحدد هويته إلى الوطن، بغض النظر عن عشيرته أو قبيلته. ومع العولمة، وفي نطاق تحولات جيوسياسية جديدة، بات الحديث عن الوطن «المنعزل» بمشاكله وقضاياه من الأوهام التي يتشبث بها ممن ما يزال يفكر في الهوية والوطنية بمثل ما كان في الحقبة الاستعمارية. لكن أي هوية وطنية تستمد وجودها من تاريخها الثقافي واللغوي متناغما مع صيرورة التشكل التاريخي للدولة؟
ما أكثر متلازمات الدعوات العرقية الدالة على أمراض وعقد نفسية، وعلى رأسها كراهية كلمتي: المشرق والعربي إلى درجة الحقد والضغينة التي لا حد لها. إنهم يعتبرونه أساس تهميشهم الثقافي واللغوي منذ ما يسمونه الغزو العربي الإسلامي، وكأنهم كانوا تحت الاحتلال البيزنطي وما قبله بقرون ينعمون بلغة كتابية، وديانة ذات كتاب مقدس، وبثقافة واسعة، وبحضارة مورية نتاج إمبراطورية لم تغب عنها الشمس التي لم تطلع عليها قط، وتحتل في كتب تاريخ الحضارة مكانة لا تضاهيها أية حضارة.
إن مشكلتهم مع المشرق العربي كامنة في رؤيتهم إلى أنه عرَب المنطقة، وجعلها عربية إسلامية، متناسين بسبب متلازمة الهوية «المقدسة»، أن سكان المنطقة تفاعلوا مع الحضارة العربية الإسلامية وساهموا فيها بقسط وافر لا ينكره إلا الدجالون وأصحاب الأباطيل والخرافات. إن الفتح الإسلامي حرر المنطقة من الوجود البيزنطي، وأعطى لساكنتها إمكانية المساهمة في الحضارة، بانخراطهم في الإسلام وتوظيف اللغة العربية، وقد صارت لغتهم، ودخولها عهدا جديدا ما يزال متواصلا إلى الآن.
يروج بعض المتمزغين أن الحديث عن بورغواطة لم يعترض عليه إلا أعداء الأمازيغية، ولا يخجل من معاداته للتاريخ الذي ساهم فيه الأمازيغ مع أشقائهم العرب، وشاركوا في تراثه وثقافته وبلغته. إن من يعادي الأمازيغية والأمازيغ حقيقة هو من يعادي التاريخ الثقافي العربي لشعوب المنطقة متنكرا لمساهمتهم فيه. وهو نفسه الذي يعادي المشرق العربي الذي يشكل له عقدة حقيقية، ويعبر عن ذلك بدون أن يغمض له جفن. لا أحد يعادي الأمازيغية في المغرب أو الوطن العربي، لأن الأمازيغ الأحرار والنبلاء فعلا ساهموا في هذه الحضارة التي تشكل لهم عقدة دائمة. إن النقاش ينصب على أباطيل المتمزغين الذين يريدون خلق هوية سردية لا تاريخية متغافلين عن التاريخ الحقيقي المكتوب والموثق، مختلقين تاريخا لا وجود له، ويقدمونه بديلا عن التاريخ الواقعي.
إن المغرب امتداد للمشرق، وحين نصف القطبين بالعربي والإسلامي فذلك لأنهما نتاجا ثقافة عربية إسلامية. وليس لأي منهما علاقة بالعرقية أو الأصل الجيني. فهذه الثقافة وليدة كل الأعراق التي دخلت في الإسلام، ووظفت العربية لغة للكتابة والتفاعل الثقافي، وصارت ملكا للجميع. وتاريخ الأفكار والحضارات يؤكد ذلك. من يثبت لي غير ذلك متصلا بهوية عرقية محددة؟ فالعلاقة بين ابن رشد والغزالي لم تكن بين ابن رشد والقديس أوغستين. ولا علاقة لحي بن يقظان ابن طفيل مع تحولات الجحش الذهبي، لأنها كانت مع ابن سينا والسهروردي وابن النفيس. هذا إذا ادعينا أن القديس وأبوليوس كانا يكتبان بالأمازيغية، ويمثلان الهوية الثقافية الأمازيغية.
إن علاقة المغاربة بالمشرق تكمن في توجههم إلى القبلة خمس مرات في اليوم، وفي باقي أركان الإسلام. وحتى مغاربة العالم من الناطقين بالأمازيغية يختزل حلمهم بعد التقاعد في الذهاب إلى الحج. ما هي علاقة المغاربة بالموريين وملوكهم الذين يقدمون إلينا كأبطال أسطوريين؟ وما هي صلاتهم بالبورغواطيين وقرآنهم الأمازيغي؟ هذه هي الأسئلة التي تحرج المتمزغ، وتعقده، ولا يستطيع الجواب عنها. إنها تخرجه عن طوره، وتدفعه وأمثاله إلى السب والشتم، وليس لهم غير ذلك. إن من يعادي الأمازيغية هو من ينشر الخزعبلات عن الأمازيغيين الذين ساهموا في التاريخ المغربي، وفي الحضارة العربية الإسلامية بلا عقد، بل بعشق ومحبة. فكانت دائرة المعارف الإسلامية تضع أبا علي اليوسي مع الجاحظ وابن زيدون مع أبي تمام في ثقافة واحدة. إن التفاعل وتبادل التأثير والتأثر بين المغرب والمشرق لا ينكره إلا جاحد، أو مجنون.
لا أحد ينكر التمايز، بعد الفتح الإسلامي، بين المشرق والأندلس، وبين المغرب والأندلس لأسباب سياسية تتصل بالاستقلال أو التبعية. ومع ضعف الخلافة العباسية واستقرار أنظمة الحكم في الأندلس والمغرب صار التمايز ثقافيا. أفلحت الأندلس في التحدي فأوجدت لها خصوصيتها الثقافية التي جلبت لها الاعتراف مع الزمن. لكن التمايز صار بين الأندلس والمغرب ثقافيا فتألق العطاء الأندلسي، ولم يفلح المغرب رغم ما قدمه ثقافيا في اللحاق بها لأسباب عديدة. لكن مع التطور أوجد التواجد المغربي في الأندلس، وهجرة الأندلسيين إلى المغرب مناخا ثقافيا موحدا وواحدا. فلا فرق بين ابن رشد وابن طفيل، ولا ابن خلدون وابن الخطيب.
وعطاءات هؤلاء فرضت نفسها باللغة العربية والروح العلمية الإسلامية على الغرب الذي تفاعل مع الحضارة العربية الإسلامية خلال العصر الوسيط، كما كان لها تأثير في المشرق العربي أيضا.
إن جغرافية المغرب وتاريخه، ومعه كل أقطار المغرب العربي ـ الإسلامي اليوم لا علاقة لهما بما كانت عليه الأمور قبل التدخل الاستعماري الذي أوجد جغرافيات مختلفة، وحدودا وضعها بالمسطرة، وترك الصراعات على الحدود قائمة رغم مرور أزيد من سبعين سنة، كما أنه أرسى التمايز بين المغاربة على أساس عرقي، وهو ما تغذيه الصهيونية اليوم، ومعها كل من يروجون لها، ويدافعون عنها، ويعملون على ترجمة استراتيجيتها بعزل المغرب عن المشرق بدعوى استلاب المغاربة للمشرق. فلماذا لا يتحدثون عن الاستلاب للغرب وانتصارهم للصهيونية؟ ولم يدافعون عن الاستلاب لتاريخ ما قبل الفتح الإسلامي، وينكرون التفاعل التاريخي والثقافي بين المشرق والمغرب؟ ما هي العلاقة التي تجمع الآن بين أقطار المغرب وقد صار كبيرا؟ وما هو أثرها على شعوب المنطقة بغض النظر عن الإثنيات والقبائل؟ أين التاريخ والجغرافيا والمصالح الاقتصادية والتسامح والتعاون بين الشعوب؟
إن التفاعلات بين أقطار المغرب، رغم الاختلافات بين الدول، والتبادل بين المشرق والمغرب، ورغم التنافس الشريف، قوية ثقافيا وفكريا. وكل مثقفي هذا الوطن من الخليج إلى المحيط يساهمون في تطوير ثقافة واحدة ذات هوية تاريخية مشتركة، وهي التي تميز وجودهم الثقافي عن باقي ثقافات العالم التي هم جزء منها، وينفتحون عليها بلا عقدة الاستلاب. إن الثقافة العربية تترجم إلى اللغات العالمية، وأقسام دراسة العربية في كل الجامعات الدولية، والإسلام صار دينا يعتنقه الإنسان في كل العالم. إنه الدين الثاني الذي بات يؤرق المسيحية وغيرها من الديانات. كما أن المثقفين العرب صاروا أكثر انفتاحا على اللغات الأجنبية ويتفاعلون معها، والمهاجرون منهم باتوا يحظون باحتلال المراكز العلمية ويسهمون في التطوير العلمي العالمي. وأي منجز يحققه أي عالم أو مثقف أو كاتب أو لاعب على المستوى العالمي يفرح له كل الوطن العربي لأن حمض الهوية الثقافية التاريخية هو الذي يجمع بينهم، وليست رابطة النسب أو العرق.
إن العلاقة بين المشرق والمغرب علاقة متينة تاريخيا وواقعيا وثقافيا. وليست عرقية ولا خيالية. ظل حلم الوحدة قائما في المتخيل الجماعي الإنساني، وكان أساسَ تشكيل الحضارات الكبرى في تاريخ البشرية. لكن قوى الانفصال والتفرقة لأنها وليدة العصبية والسلفية القبَلية، لا يمكنها أن ترقى إلى التفكير فيما يوحد الناس لأنها مهووسة بما يجعلها ترى نفسها فوق الجميع، وهويتها المتجذرة في التراب أرقى من كل الهويات، والأرض كتبها الله لهم منذ الأزل دون غيرهم من عباده. لذلك لا غرو أن نجد الصهيونية تمثل هذه الهوية خير تمثيل لأن وجودها لا يمكن أن يستقيم إلا بالأباطيل، ولا يمكنه أن يتحقق إلا بإبادة الآخر، ومعاداته، وفي الوقت نفسه تدعي أنهم يعادونها، وهي فقط تدافع عن نفسها! لا فرق بين الصهيونية واليمين الغربي المتطرف، وبين دعاة التفرقة وكراهية ومعاداة الآخر بدعوى الصفاء العرقي والانتماء إلى «ثقافة» الأرض؟
سعيد يقطين، كاتب من المغرب
