الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الإلاه حبيبي: السياسة والضمير الأخلاقي

عبد الإلاه حبيبي: السياسة والضمير الأخلاقي عبد الإلاه حبيبي

أعتقد جازما أن السياسة لا يحكمها أي ضمير إنساني إلا إذا كانت بيد الفئات الاجتماعية المتوسطة التي غالبا ما تؤطر عملها السياسي برؤيا فلسفية تستند إلى فكرة العدالة الاجتماعية والتقدم والحرية، ماعدا ذلك فالسياسة تصبح طائشة، شاردة، تقتات من كل الأقاويل، وتنبت في كل الحقول، وتينع تارة ورودا، وتارة أشواكا، وفي أحايين كثيرة حروبا وإبادات...

 

ما يدعم قولنا هذا هو صناعة وتجارة السلاح، فلكي يتم الحفاظ على تنافسية قوية في مجال التسلح والتسليح، يتم بلورة سياسات خاصة، واختيار سياسيين منتقين بشكل دقيق لتنفيذ التوجهات التي تمليها اللوبيات المتحكمة في قطاع إنتاج وترويج الأسلحة والذخيرة... لهذا يصعب على من كانت رؤيته محدودة أن يفهم أسرار الحروب المعاصرة، وأسبابها البعيدة، وأهدافها المخططة في دهاليز الشركات الكبرى المتحكمة في سوق الأسلحة وتكنولوجيا الاتصال والتواصل والأقمار الصناعية والروبوتيك وغيرها من العلوم التي تدخل في صميم تطوير الحروب وتخفيف الخسائر البشرية من الجيوش وما يرتبط بها من عتاد وغذاء ومواد كثيرة تكلف ميزانيات ضخمة.

 

ها هنا نجد صعوبة فهم جدوى البحث عن الضمير الأخلاقي، أين يمكن العثور عليه في ثنايا هذه الكارتيلات المتخصصة في التفنن في صناعة وسائل الموت وإبادة الإنسان في ثوان معدودة بهدف السيطرة على كل موارد الطاقة والقوة في العالم... هل تمت تصفية هذا الضمير الأخلاقي، أولا، أو أنه لم يتمكن أبدا من دخول الحروب ومنافسة روادها بمقاومة مشاريعهم التدميرية باعتباره أصلا هو خصمها الأبدي؟ لا شك في أن الضمير سيظل هو السؤال الأكبر المنسي الذي يصعب الحديث عنه في كل أشكال العنف والحروب التي تواجهها البشرية على الأرض، وهو بالتالي السلام المستحيل، والعدل المؤجل، والتوزيع العادل لخيرات العالم المبعد من كل المؤتمرات واللقاءات التي تعقد لأجل التداول في حسم الخلافات وإنهاء الحروب.

 

يظل الفعل المقاوم لهذا الغول المالك لوسائل الدمار الشامل هو معقل الضمير الأخلاقي ومرقده في نفس الوقت، فإن استيقظ ونفض عنه غبار الهزيمة والهوان، كان الأمل ممكنا، والطريق نحو السلام سبيلا معبدا، أما إذا غاب واستطاب الاختباء في الصحف القديمة، والأقاويل الباردة، وزفرات الحكماء، وهمسات الضعفاء، فلن يكون للعدل مستقبلا ولا للحرية وجودا، ولا حتى للإنسانية بشرى رؤية فجر باسم  يستريح فيه الناس من الخوف من الإرهاب والدمار والأزمات والأمراض التي يتم خلقها وترهيب الناس بها حتى يسلموا أنفسهم لتجار الأدوية الذين هم جزء من تجار الأسلحة وأحد عرابي الحروب القادمة التي تجني من ورائها شركات إنتاج التلقيحات والأمصال والأدوية أرباحا خيالية؛ ولعل النموذج الماثل أمامنا اليوم خير دليل على هذه الحروب التي يغيب فيه الضمير الأخلاقي وتحضر فيها السفالة والنذالة واسترخاص الكرامة البشرية إلى أقصى الحدود...

 

الضمير الأخلاقي هو ذلك الوجه الهارب والمطارد من لدن الجميع، إنه الحقيقة التي يخشاها حتى المقهورون، فأحرى الأقوياء، الضمير لا يقيم في العقول التي لا ضمير لها، أو في النفوس المهزومة، أو في القلوب التي الفت العبودية واستلذت الاستعباد.. الضمير لا يقفز إلى الحياة إلا عندما يصبح أهله مستعدين للموت من اجله...