في ظل التحولات الاقتصادية العالمية وتسارع التنافس بين الدول الصاعدة، تبرز الحاجة إلى فاعلين اجتماعيين واقتصاديين يمتلكون روح المبادرة الوطنية. إن تشكّل برجوازية مغربية وطنية يمثل ركيزة استراتيجية لأي مشروع تنموي يسعى إلى تحقيق استقلال اقتصادي فعلي وتوازن اجتماعي مستدام. فهذه الطبقة المنتجة لا تكتفي بالاستثمار في السوق الداخلي، بل تسهم أيضًا في بناء نموذج اقتصادي يقوم على الابتكار والمسؤولية الاجتماعية، في انسجام مع الرؤية الملكية التي تسعى إلى تحديث بنية المجتمع المغربي وترسيخ العدالة الاجتماعية.
تسعى هذه المقالة إلى مناقشة أهمية بروز هذه البرجوازية من زاوية سوسيولوجية واقتصادية، باعتبارها أداة للتحرر من التبعية الخارجية، ووسيلة لتقوية الطبقة المتوسطة التي تشكل أساس الاستقرار السياسي والاجتماعي.
التحول التاريخي للاقتصاد المغربي ودور القيادة الملكية
منذ استرجاع الاستقلال سنة 1956، عرف الاقتصاد المغربي سلسلة من التحولات البنيوية؛ فقد انتقل من اقتصاد موجه نحو الزراعة والاستخراج إلى اقتصاد أكثر انفتاحًا وتنوعًا يعتمد على الصناعة والخدمات.
خلال ثمانينيات القرن الماضي، أفضت برامج التقويم الهيكلي إلى بروز فاعلين اقتصاديين جدد ارتبطت مصالحهم بالمؤسسة الملكية، ما مكّن من تحسين البنيات التحتية وجذب الاستثمارات. ومع ذلك، ظل الاقتصاد المغربي يعاني من درجة عالية من الارتباط بالأسواق الخارجية، إذ لا يزال وزنه في الاقتصاد العالمي محدودًا رغم حضوره البارز في إفريقيا.
خلال ثمانينيات القرن الماضي، أفضت برامج التقويم الهيكلي إلى بروز فاعلين اقتصاديين جدد ارتبطت مصالحهم بالمؤسسة الملكية، ما مكّن من تحسين البنيات التحتية وجذب الاستثمارات. ومع ذلك، ظل الاقتصاد المغربي يعاني من درجة عالية من الارتباط بالأسواق الخارجية، إذ لا يزال وزنه في الاقتصاد العالمي محدودًا رغم حضوره البارز في إفريقيا.
في عهد الملك محمد السادس، برز توجه استراتيجي نحو اقتصاد مستدام يقوم على تنويع مصادر النمو، ولا سيما من خلال الرهان على الطاقات المتجددة، والابتكار، والرأسمال البشري. وقد مثّلت الاستراتيجية الطاقية الوطنية لسنة 2009 مثالًا على إرادة ملكية واعية بضرورة تقليص التبعية الاقتصادية والانتقال إلى نموذج إنتاجي ذي بعد بيئي واجتماعي متكامل.
البرجوازية الوطنية كقاطرة للنمو.إن التجارب الدولية تُظهر أن بناء اقتصاد وطني قوي يمر حتمًا عبر إرساء طبقة برجوازية وطنية مستقلة في توجهاتها ومسؤولة في خياراتها. هذه الفئة لا تكتفي بتجميع الثروة، بل توظفها في خدمة التنمية، من خلال الاستثمار في القطاعات الحيوية كالصناعة والطاقة والخدمات الحديثة.
وبالنسبة للمغرب، فإن تعزيز هذه الطبقة يشكل شرطًا لتحقيق معدلات نمو مرتفعة تتجاوز 5% سنويًا، بما يسمح للمملكة بالانتقال من المرتبة الخمسين تقريبًا إلى مصاف الاقتصادات العشرين الأولى عالميًا.
وحتى يتحقق ذلك، ينبغي تشجيع المقاولات المواطنة، وتحفيز الرأسمال المحلي على المخاطرة المنتجة بدل المضاربة، مع تجاوز العقبات الثقافية والتاريخية التي كبّلت أحيانًا روح المبادرة الوطنية.
شراكة البرجوازية الوطنية مع المؤسسة الملكية
تمثل المؤسسة الملكية الفاعل المركزي في هندسة السياسات التنموية بالمغرب، وقد برهنت عبر العقود على قدرتها في توجيه الاقتصاد نحو آفاق تحديثية تستند إلى مبدأ التوازن بين السوق والتضامن الاجتماعي.
من هنا، فإن تحالفًا واعيًا بين البرجوازية الوطنية وهذه الرؤية الملكية يشكل ضمانة لنجاح المشاريع الكبرى، سواء تلك المتعلقة بالطاقات النظيفة أو بالاقتصاد الأزرق أو بالتنمية البشرية داخل المغرب وإفريقيا.
إن دعم هذه الطبقة للمبادرات الملكية ليس فقط واجبًا وطنيًا، بل هو استثمار في استقرار البلاد واستمرارية نموذجها الاجتماعي الفريد القائم على التعدد والتسامح والانفتاح.
من هنا، فإن تحالفًا واعيًا بين البرجوازية الوطنية وهذه الرؤية الملكية يشكل ضمانة لنجاح المشاريع الكبرى، سواء تلك المتعلقة بالطاقات النظيفة أو بالاقتصاد الأزرق أو بالتنمية البشرية داخل المغرب وإفريقيا.
إن دعم هذه الطبقة للمبادرات الملكية ليس فقط واجبًا وطنيًا، بل هو استثمار في استقرار البلاد واستمرارية نموذجها الاجتماعي الفريد القائم على التعدد والتسامح والانفتاح.
إعادة الاعتبار للطبقة المتوسطة
لا يمكن لأي نهضة اقتصادية أن تترسخ من دون طبقة متوسطة قوية وموسّعة تشكل صمام الأمان الاجتماعي. هذه الفئة التي تمثل ما يقارب 38% من السكان، ظلت تاريخيًا حاملة لقيم العمل والانضباط والاعتدال، وهي الضامن لاستمرار التوازن بين السلطة والمجتمع.
غير أن الضغوط المعيشية وارتفاع تكاليف الحياة قلصا من حضورها الاقتصادي، مما يستدعي سياسات عمومية تركز على تحسين القدرة الشرائية، وتوسيع الولوج إلى التعليم الجيد والسكن اللائق، ومحاربة الفوارق الاجتماعية التي تهدد الانسجام الوطني.
طريق المغرب نحو نادي العشرين
لتحقيق قفزة نوعية تجعل المغرب ضمن الاقتصادات العشرين الأولى عالميًا، لا بد من التركيز على الاستثمار في الرأسمال غير المادي: التعليم، البحث العلمي، الابتكار، والحكامة الجيدة. كما يجب تعزيز موقع المملكة كمركز إقليمي لجذب الاستثمارات الإفريقية والدولية، وتقوية روابطها الاقتصادية مع أوروبا وآسيا.
بهذه المقاربة، يصبح المشروع التنموي المغربي مشروعًا مجتمعيًا متكاملًا يقوم على برجوازية وطنية مسؤولة، وطبقة وسطى قوية، وقيادة ملكية راشدة، وهي مقومات تضمن تحقيق استقلال اقتصادي وتوازن اجتماعي طويل الأمد.
خلاصة:
إن بروز برجوازية وطنية مغربية لا يمثل ترفًا اقتصاديًا، بل هو ضرورة وجودية لبناء نموذج تنموي مستدام ومتوازن. فهي القوة التي يمكنها تحويل الثروة إلى تنمية، والربح إلى تضامن، في انسجام مع الرؤية الملكية القائمة على تحديث الاقتصاد وصون القيم الوطنية.
إن المغرب، وهو يواصل طريقه بثبات نحو الاستقلال الاقتصادي، يحتاج إلى تعبئة شاملة للرأسمال الوطني والطبقة المتوسطة والمؤسسة الملكية معًا، من أجل بناء مغرب منتج، مستقل، ومتماسك اجتماعيًا.
فؤاد ابن المير: دكتور في علم الاجتماع والقانون العام
