كثيرة هي الأمكنة بإقليم اليوسفية التي تمارس ـ بفعل جماليتها ـ جاذبية خاصة على الإنسان، فتكون أحيانا مصدر إلهامه الفكري والإبداعي، وأحيانا أخرى مصدرا لتاريخ يروى بنشوة لا يشعر بلذتها إلا من يعشقون فن الحكي، المتجذر في مسار طفولتنا. والحاضرة الفوسفاطية بمدينة اليوسفية، تشكل إحدى هذه الأمكنة، فكثيرا ما كانت فضاءاتها المدثرة بخضرة الأشجار والمزهوة بضلالها الوارفة، وشخوصها الزاهدين في محارم هوامشها مثل: "كُرْشَاحْ" شيخ الأنفة، والجنرال الحمري... ومصدر نصوص فكرية وإبداعية لمفكرين ومبدعين من أبناء المدينة مثل: الأستاذ نور الدين وحيد، والدكتور عبد القادر وساط (أبو سلمى) والمفكر والمبدع مبارك وساط، والدكتور الأديب أحمد رزيق ...ومن خارجها، مثل المبدعين: محمد زفزاف، وإدريس الخوري...ما يرويه أبناء اليوسفية عن علاقتهم بالحاضرة الفوسفاطية، يشكل جزءا من تاريخ مدينة، لا زال في حاجة إلى سبر أغواره المتجذرة في السفح الشمالي لنجد الكنتور.
لحظات الحكي عن الزمن الطفولي، كثيرا ما تحيل إلى أشياء جميلة، كانت تزين معصم الحاضرة الفوسفاطية وتزيدها توهجا، بما كانت تضفيه من بهجة على أبناء المدينة، وخاصة من لم تكن تربط أبائهم علاقة بالمكتب الشريف للفوسفاط.
كل من يلج مدينة اليوسفية من ناحية الشمال، وينفد إليها عبر شارع محمد الخامس، فكأنه ينزلق إلى عالم آخر، تبدو معه المدينة كلها وكأنها أوروبية التصميم والمعمار.
دور سكنية أوروبية الهندسة والمعمار، تكسو فضاءات حدائقها أشجار باسقة، تحجب عن السكنيات أشعة شمس الصيف الحارقة، وتقي الورود والزهور بضلالها.
المظهر المورفولوجي للمدينة جميل وزاده جمالية، تناسق الشوارع المفضية إلى شمال المدينة وغربها وشرقها، والأزقة المفعمة بالاستقامة، والمزهوة بضلال الأشجار. ويبقى المركز التجاري، والملاعب الرياضية، والأندية المتنوعة، جواهر ترصع فضاءات الحاضرة الفوسفاطية، بما تحتوي عليه من أشكال هندسية ومعمارية ذات طابع أوروبي، شيدت بأيادي مغربية.
هذا الفضاء (لوي جانتي) الذي رأى النور في بداية ثلاثينيات القرن الماضي بسافلة مجرى وادي كشكاط، وضع له تصميم هندسي رائع تضمن شارعين رئيسيين بعرض 60 مترا ومساحة خضراء تمتد بين محطة القطار والكنيسة، وحدد عرض الشوارع والأماكن والطرق، وعدد الشقق التي ستبنى على الجادات وفي الأماكن العمومية...جعل منها أبهى مدينة بالمنطقة بلونها الأحمر ترقص فرحا وسط خضرة آلاف الأشجار، التي كان عددها يتزايد كل سنة، وفق مخطط صمم بشكل دقيق، وأنجز بشكل ممنهج على مراحل سنوية.
الحاضرة الفوسفاطية اليوم، أصبحت تشكل ذاكرة لمدينة اليوسفية، ومن المفروض أن يتم تحويلها إلى تراث يساهم في التنمية، واتخاذها نموذجا لتهيئة المراكز الحضرية الناشئة بالإقليم: اللويحات، رأس العين، أجدور، ايغود، سيدي شيكر... لكي نساير السرعة الحضرية التي يتطور بها وطننا، وطن الوحدة.
