كتب خالد فضيل، والد الطفلتين المختطفتين هناء وجيهان، رسالة مؤثرة، توصلت "أنفاس بريس" بنسخة منها، يناجي فيها نفسه، معبرا عن الآلام التي يعيشها جراء ابتعاد فلذتي كبده، اللتين لا يعرف مكانهما منذ 22 يونيو 2019 إلى حدود كتابة هذه الرسالة.. واعدا إياهما بأنه لن يمل ولن يكل حتى يعودا إلى الوطن ويضمهما إلى صدره.. قاطعا وعدا بينه وبين فلذتي كبده على أنه سيلتقي بهما من جديد، وسيطوي صفحة كل هذا الألم بعد أن يقرأها، هو وهما، مليا، كأسرة اجتمعت من جديد بعد معاناة الفراق.
في ما يلي نص الرسالة:
"طفلتاي هناء و جيهان،
لا أعلم إن كنتما ستطلعان على هذه الرسالة أم لا، لكن شعورا عارما يجتاحني آمرا إياي بأن أتحدث إليكما و إلى التاريخ بعد مرور 133 يوما على بعدكما الجغرافي القسري عني، هذا البعد الذي لم يفعل سوى أنه جعلني أتأكد مرة أخرى، وبشكل أعمق وأوحش وأحد، من أنني لن أتردد لحظة واحدة في دفع حياتي ثمنا من أجل أن تكونا، أنتما وأخوكما أيمن في أفضل حال. أنتما تعلمان ذلك جيدا وتعرفان حتى في هذا العمر الصغير، أن أباكما كان دائما مستعدا للموت من أجل حق الآخرين في الكلام وفي العيش الكريم. لكم كنت سعيدا حين كنتما تفتخران بما أقوله في التجمعات الخطابية وفي الندوات الفكرية وما أكتب من رأي حول قضايا الشعب والبلاد. أتذكر كل لحظة وحين عندما كانت تذهب هناء إلى أساتذتها وصديقاتها مزهوة بشيء مما تنشره الصحف من أفكاري. دعابة وبراءة وجمال الطفولة فيكما ما كانت لتلتفت لمعاناتي مع قبح ملاحقات وسماجة افتراءات خصوم الديمقراطية والحريات والإنصاف الاجتماعي والأمل في الأفضل للناس، كل الناس في الوطن والعالم.
طفلتاي هناء وجيهان،
أنتما معنى حياتي، أنتما كل حياتي وأنا مصر أن يعلم العالم كله هذا الأمر رغم انشغاله بتناقضات المصالح وبمآل مناطق النفط والثروة والسلطة وبجيوستراتيجية رعناء يصنعها عبدة المال الذين فقدوا كل شعور إلا الشعور بالسادية وهم يلغون الإنسان والتراب والقيم ليعززوا أرصدة حمقاء في بورصات خرقاء. تبا لمن يحكمون العالم ولا يجعلون على صدر أولوياتهم فرح الأطفال.
أنا على يقين أنكما، حتى وإن خضعتما للابتزاز والضغط والتغرير، لن تنال مما تختزنه ذاكرتنا والوجدان وعنفوان الحب والثقة وتفاصيل يومياتنا لا الإغراءات ولا التضليل ولا الأيام. فأنتما تعرفان، ومعكما جزء عريض من الرأي العام العالمي، الآن، أن لا قوة في هذا الكون تستطيع حرماني منكما أو حرمانكما مني. سنلتقي من جديد، بكل تأكيد، وسنتمرغ ضحكا ونحن نشاهد "سوحليفة" و"عبد القادر السيكتور" و"لكوبل"، وستعتني بي هناء، كلما شعرت بحسها الثاقب أنني تعبت من الاشتباك مع الحال وأصحاب الحال، وستباشر جيهان سلطات الدلال المطلقة علي كما كانت دائما منذ أن رأت النور ذات ليلة لـ 29 أكتوبر، وسنواصل مسارنا لتتفوقا في الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض واللغات وسأستأنف تلخيصي لدروس التاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية التي كانت ترهقكما، وكنت أجد سعادة غريبة حين كنت أقضي الليل وأنا أجعلها موجزة وأكثر فائدة. سنلعب ونمرح ونغني نشيد جمهور الرجاء "في بلادي ظلموني"، ونشاهد مقابلات برشلونة ومراوغات ميسي، صديق جيهان، ونصنع الأفضل لكما مع أيمن والأصدقاء الذين نحبهم ويحبوننا لبساطتهم وعفويتنا.
طفلتاي هناء و جيهان،
لا أرغب سوى في عودتكما إلى حضني والوطن، ومن أجل ذلك سأقاتل حتى آخر رمق، وحين أحضنكما قد أسامح، من أجلكما، أم أطفالي، رغم ضلوعها في هذه اللوعة وهذه الحرقة وهذا الفراق، إن هي أقرت بأن ما أقدمت عليه أمر لا تسعفه الأعذار ولا يسامح.
وعدان، إذن، بيني وبينكما:
أن نلتقي من جديد، وأن نطوي صفحة كل هذا الألم بعد أن نقرأها مليا، بيننا كأسرة، دون أن نترك بصيص فرصة لحقد أو إرادة انتقام.
أقبل وجنتيكما ويديكما وصفائكما بكل اعتزاز، في انتظار أن أفي بوعدي لكما.
لست أفضل من باقي الآباء، أي نعم، لكنني أفتقد طفلتاي بشكل قسري منذ 22 يونيو 2019 دون أن أعلم شيئا عن مكان تواجدهما وعن أحوالهما، وهذا أمر لا تتحمله طاقة تحمل الآباء والبشر، كل الآباء والبشر عبر العالم...
فيا من كانوا سببا مباشرا أو غير مباشر في هذه الجريمة النكراء التي لو تعددت لأصبحت جريمة ضد الإنسانية.... أنا أعرفكم بالأسماء والعناوين ودرجات التورط... وأدعوكم لتسألوا الناس، كل الناس ومن كل الأجناس عن هكذا مأساة. ستجدون إجماعا كونيا على أن الأمر أكبر من أن يطيقه لا بشر ولا شجر ولا حجر. ومع ذلك سأحضن طفلتاي وقد أسامح، وأنا أنزف، أم أطفالي بعد اعتذارها أمام أطفالي، أنزف لأن لا أحد يدرك تعقيدات وعنف الجراح التي يتكبدها من يسامحون ما لا يسامح .
اسألوا تراث الفيلسوف الفرنسي الكبير جاك ديريدا لتكونوا فكرة عن هذا الأمر النادر، وتأكدوا أنني بنفس الجهد المضني الذي قد أسامح به أم أطفالي، سألاحقكم مدى الحياة وفي كل الساحات حتى يتعرف القضاء في فرنسا وفي المغرب والعالم برمته على حجم الجرم في جيناتكم، ويقولوا كلمتهم في حقكم هنا والآن، وحتى لا يعيش آخرون هذا الصنف من المآسي".