الجمعة 29 مارس 2024
مجتمع

ما أقدس موت الرجل وهو يرافقها بشموخ المناضل علي القضيوي الإدريسي

ما أقدس موت الرجل وهو يرافقها بشموخ المناضل علي القضيوي الإدريسي

أبت سنة 2016 وهي في نزعها الأخير إلا أن تلحق  بموتى لحظة احتضارها المناضل الإشتراكي علي القضيوي الإدريسي، الذي وافته المنية بالمستشفى العسكري في مراكش، صباح يوم السبت 17 دجنبر، بعد صراع مع المرض. وعلى الرغم مما تركه خبر الرحيل من حشرجة في نفوس العارفين بقيمة الفقيد، فإن المواساة حلت على الفور من موروثه الخالد، والذي يستحق العلامة الكاملة، بل نياشين المقاومة الصادقة لما تقدمه من دروس الكفاح الإنساني، الجمعوي، والنقابي، والحزبي. لذلك، لا يمكن الإجماع، مقابل إعلان العجز عن قتل هذا القاتل، إلا حول الإقتناع بعظمة هيبة موت الرجل، إن كان موته لابد منه، وهو يعانقها بشموخ تاربخ علي القضيوي الإدريسي..

"وأنا أتذكر... أجدني أرصد أن تغيرات عديدة شهدها المغرب منذ تاريخ ميلادي إلى الآن، في شتى الميادين، الثقافية / الاجتماعية / الاقتصادية / السياسية، تركت بصمات خاصة على رؤيتي للأشياء. فما كنت أعتبره مطلقا أصبحت أعي نسبيته، وما كنت أراه نسبيا لامست، وألامس حقيقته. وأظنني كنت فاعلا قدر الإمكان في مجرى الأحداث، دون أن أكتفي بدور المتفرج". كلمات كتبها الراحل قبل أربع سنوات، وهو لا يدري طبعا، بأنه يوقع من خلالها على أن يكون يوم السبت 17 دجنبر 2016 موعد تنفيذ حكم العودة إلى ثنايا تلك العبارات بتمعن أكبر، وتبصر أعمق. والأكثر دون حضوره، أو حتى قدرة أي كان على إبلاغه بما قيل في حقه.

عفوا، ليس القصد أن تزداد يا سي علي فخرا بآراء الناس، ولكن ليزدادوا هم رفعة بمطية الاعتراف بين يديك. أما سيرتك الممتدة لعقود فهي من ستظل المحكمة الوحيدة التي لا تخشى أحدا، والشاهد الصادق على أنك لم تكن ترغب قط في سماع المدح والثناء. لا لشيء، سوى لأن ما يصدر عنك نابع من نفسك الخيرة، وقيمك الثابتة بدعامات الرقي دون خوف ولا طمع.

من قال إنك رحلت..

نقول يصدر، وليس ما صدر عنك، طالما أن عطاءك يتواصل بتواصل حركة الزمن، ولا علاقة له بتوقف دقات قلبك أو ذهابك لإنارة مسكن آخر قالو عنه قبرا وهو ليس بقبر لمن يفيض حياة. وكيف لا، وكثير من الأحياء تحت التراب، فيما أموات أكثر فوقه، يخطون صحيح، إنما بلا أثر. هذا الأثر الذي خرقت أنت وأمثالك به الأرض، وانضاف إلى حفريات التاريخ. فقط، هل من منقب..؟.

لنتركك اللحظة حتى تمارس حقك في الاختلاء بذاتك، وتتأمل براحتك موضعك الجديد، ولتستلذ أيضا بعظمة ما تركته من إرث لملايين أبنائك، بل وأحفادك القادمين. ولا تحمل هما، سنخبرهم باعتذارك على عدم انتظار مجيئهم، وأكيد سيستوعبون خصوصية الداعي بمجرد أن يعلموا أنك عشت طول عمرك على أهبة الامتثال لنداء المصير المحتوم. وكما رأيت النضال في وجه القمع حتمية، واعتبرت المقاومة ضد الاستبداد مسألة لا تحتمل النقاش، والخضوع لواجب الوطن ضرورة، فإنك كنت وفيا للنهج ذاته عندما نزل الأمر الذي لا يرد، ودعاك لمغادرتنا بثياب أبيض على جسد يحمل بين ضلوعه قلبا ببياض أنصع.

ذهب سي علي إذن، لكن ذكراه لن تذهب، ولو أن الكلام مهما كثر عنه يبقى قليلا. لذا، فإن تسرب للموضوع تقصير، نجد العزاء في كون المعني به كبير، ولا تسعه أبلغ معاني الإحترام والتقدير. ومع ذلك، فإن المحاولة وعلى صعوبتها، إلا إنها توقظ متعة النبش في ذلك الزخم "القضيوي" الذي أطلق صرخته الأولى بدوار سيدي عبد الله بن مسعود، إقليم الجديدة. ومن ثمة، انفجرت شرارة إمدادات الجهاد الجمعوي والنقابي، فالحزبي. وكل ذلك على أرضية إنسانية تتغيى اللمة الحميمية أساسا. فكان يهتم بكل صغيرة ولا يستثني الكبيرة إلى أن كسب موقعا رسم عبره مسارا رائدا في التميز، واستطاع البصم على سخاء قل نظيره، خاصة بالنقابة الوطنية للتعليم، وداخل أحضان حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية كعضو باللجنة المركزية.

اشتراكي حتى الموت

الحديث عن سي علي لا يستقيم حقا بمعزل عن علاقته بحزب الإتحاد الإشتراكي الذي شغل مهمة كاتبه الإقليمي بالجديدة.. هذه الوردة التي اختارها كعربون سلم وسلام رببعي، وفي الوقت عينه ثكنة ثائرة على الانحياز  لتوجيه أسلحته النضالية صوب "العوسج" المعادي لمصلحة المملكة. فدخل الغمار عن طواعية بصدر عار، وهو على أتم الاستعداد لتحمل التبعات. وفعلا نال حظه من الجزاءات التي أكرم يها الرجال الوطنيين أيام سنوات الرصاص، مسلما جسده لبرودة زنازن الاعتقال  في سبيل الإحساس بدفء غد أفضل على أرض مغرب الحرية والديمقراطية التي لا تشوبها شائبة المساحيق الخادعة.

ومن أجل ذلك، كان بقدر المسؤولية التي وضعها فيه مختاروه لتمثيلهم تحت قبة البرلمان، وعلى نقيض طبعه المرهف والحساس مع المسحوقين من أبناء الشعب، كان صارما إلى أبعد الحدود في الدفاع عنهم بمجلس المستشارين. وما إن يتسلم الكلمة حتى يلقي بكل تساهل ممكن جانبا. وذلك في استحضار كلي لما يعود على ساكنة دكالة بالختم الإيجابي. وإن كان ذلك ليس بغريب على شخص نقشت حياته مشاهد حقب لم يرد تكرار شريطها، سواء لأبناء جيله أو الأجيال الملتحقة بعده. فهو من عاصر أشد مراحل التوتر والاحتقان، وهو من قاده القدر ليحيى تفاصيل "عام الجراد"، و"عام البون"، و"عام الناموس"، و"عام النمل"، وهو الذي تخطت أقدامه جثت المغتالين في الطريق إلى خلق الحياة لشعب المغرب.

ولأن ما من تحول تحقق إلا وكان بشكل جماعي، فإن السي علي لم يتوان في الحث على أهمية اللحمة، داعيا بالقول والفعل إلى التكتل ومن شتى المواقع. إذ كان الأستاذ والمعلم الملقن الذي يجد كينونته في مد يد المساعدة بكل ما أوتي من فرص لذلك. ومنها صلته بالمجال الإعلامي المحتاج لأشباهه من السياسيين المنفتحين. إذ لا يمكن ربط الاتصال به إلا ويقابله بعفوية نادرة، وصراحة جريئة، في بعد كلي عن أي محاولة للاعتذار، أو التحجج بحضور اجتماع، وبعد ذلك ترك الهاتف يرن في الفراغ. إنه المربي بلا أستذة، ومثال التواضع الذي يقتدى. فهنيئا لنا برائع كان بالأمس بيننا، اغترفنا منه ما سمحت به طاقاتنا الاستيعابية، ولا يزال إلى الآن يقدم الدروس من معينه الذي لا ينضب ولو من بعيد، ليس تحديا لشرط الصمت المفروض في عالمه الجديد، ولا انقلابا على بنود نهاية الأعمال فيه، ولكن إيمانا بدوام عطاء الروح أمام محدودية نشاط الجسد الذي لا معنى له حالة خوائه، وحتى إن كان هذا المعنى فلن يخرج عن مجرد هيكل عظام. فما بالنا إذن بمضحي أفنى دماء عروقه والرفات، ليزرع في دواخلنا بذور إكسير الحياة..؟.