الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

يوسف المساتي:السياسات العمومية ومقاربة النوع: اشكاليات المساواة في الإرث( مع فيديو)

يوسف المساتي:السياسات العمومية ومقاربة النوع: اشكاليات المساواة في الإرث( مع فيديو)

تطرح محاولة التطرق إلى السياسات العمومية ومقاربة النوع إشكاليات عديدة بسبب تعقد مستويات وزوايا النظر إلى الموضوع، ومن هذا المنطلق سنتناول السياسات العمومية والإشكاليات المرتبطة بالمساواة في الإرث، محاولين ـ قبل الخوض في صلب الموضوع ـ تعريف بعض المفاهيم الأساسية دون الغوص في الإشكاليات المفاهيمية، و محاولة الاقتصار على ما نراه تعريفا قريبا لما نريد و مفككين لعناصر عنوان موضوعنا .

فالسياسات العمومية هي "كل ما تفعله وما لا تفعله الحكومة" كما يذهب إلى ذلك أحد الباحثين و بمعنى آخر إنها "برنامج فعل حكومي خاص بسلطة أو عدة سلطات عامة أو حكومية"أي أنها عبارة عن تسلسل من النشاطات لقرارات وإجراءات متناسقة متخذة أساسا من طرف أعوان النظام السياسي و الإداري (أعوان الدولة ) من اجل حل مشكل عمومي متعلق بالمجتمع.

أما النوع الاجتماعي فقد عرفته منظمة الصحة العالمية على أنه: "المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية" بمعنى أننا نتحدث عن النوع الاجتماعي في سياقاته الاجتماعية والثقافية وليس الخصائص الجنسية.

و فيما يخص الإرث فسنأخذ بتعريف مدونة الأسرة المغربية في المادة 323 التي ترى أنه "انتقال حق بموت مالكه بعد تصفية التركة لمن استحقه شرعا بلا تبرع ولا معاوضة"

بعد هذا التأطير الأولي سننطلق من التوصيات الأخيرة التي أصدرها المجلس الوطني لحقوق الانسان، حول ضرورة تفعيل المادة 16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، من خلال تعديل مدونة الأسرة والمساواة في مجموعة من الحقوق ومن بينها الإرث، وهذا ما سيثير ضجة كبيرة، لدرجة أن رئيس الحكومة –المفترض أنه المسؤول عن تنفيذ السياسات العمومية- سيخرج لانتقاد هذه التوصية وسيتم تجييش نواب الحزب وأعضائه...الخ.

وهو ما يجعلنا نتساءل: إن الدولة المغربية قد وافقت على رفع تحفظات المغرب على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بما فيها المادة 16 بتاريخ 18 أبريل 2011 ونشرت بالجريدة الرسمية في فاتح شتنبر 2011، ووافقت هذه الحكومة ونوابها في البرلمان على المصادقة على البرتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية ونشرت بالجريدة الرسمية بتاريخ 17 غشت 2015، ثم ينتقدون توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان بضرورة تطبيق هذه المادة: ألسنا هنا أمام خطاب مزدوج لمن يفترض فيه أن يكون مسؤولا عن تنفيذ السياسات العمومية؟؟ وبالتالي ألا يقود هذا الأمر إلى ارتباك وازدواجية في تطبيق السياسات العمومية المرتبطة بمقاربة النوع؟؟ و هل هذه الازدواجية هي نتاج للتقاطبات الإيديولوجية بين توجهين توجه ينطلق من المرجعية الكونية لحقوق الانسان، وتوجه على علاقة متوترة بهذه المرجعية بدعوى الخصوصية ...الخ؟؟، كما نتساءل أيضا : ألا يفترض في السياسات العمومية، خاصة ما يتعلق منها بالتزامات المغرب الدولية، أن تكون ذات أبعاد استراتيجية بمنأى عن تقاطبات الزمن السياسي السريع والمتقلب؟؟ هل هذه الازدواجية هي ازدواجية طرف معين داخل الدولة، أم أنها تعكس ازدواجية داخل بنية النظام السياسي في البلاد بين وجه تقليدي ووجه حداثي، بين خطاب للداخل وخطاب للخارج؟ وبالتالي كيف يمكن تدبير الاختلاف في العلاقة مع الداخل ومع الخارج؟؟

هذه الازدواجية تبدو واضحة حاضرة على مستوى التشريعات القانونية، فبينما ينص دستور 2011 الذي يعتبر أسمى قانون في البلاد على "- حماية منظومتي حقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني، والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء.

-         حظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الإنتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان.

-         جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة"

بينما نص الدستور على ماورد أعلاه في ديباجته، نجد التشريعات الوطنية تنطلق من التشريعات الفقهية وتتخذها كمرجعية أسمى، وهنا يطرح التساؤل حول كيفية حل التناقض ما بين ما يمليه مبدأ سمو الاتفاقيات الدوليةالوارد دستوريا، وبين مبدأ الشريعة الإسلامية مصدر التشريع وإن لم يتم الإعلان صراحة على هذا المبدأ في الدستور، لكن النصوص القانونية في مدونة الأسرة وغيرها تعلنها؟؟ ألا تعني موافقة المغرب على رفع تحفظاته على المادة 16 وغيرها إلزامية الشروع في تعديل قوانين مدونة الأسرة انطلاقا من أحكام الدستور نفسه؟؟ ألسنا هنا أمام خرق دستوري واضح؟؟ أم أنها ازدواجية السياسات العمومية تنعكس بشكل مباشر وواضح على ازدواجية النصوص القانونية؟؟ وبالتالي كيف تستطيع السلطة العمومية الوفاء بالتزاماتها الدولية ومقتضياتها الدستورية؟ وتعديل قوانينها؟ في ظل استمرارها في تبني خطاب مزدوج ومتناقض؟؟.

وقد يعترض البعض من منطلق أن ذلك يعتبر مساسا بأحد ثوابت الدولة أي الدين الإسلامي باعتبار أن نصوص الإرث قطعية الدلالة بصريح النص القرآني، فنقول أن هذا الأمر يجب النظر إليه من زاويتين أساسيتين: أولهما أن يكون الإسلام هوية الدولة فلا يعني ولا يشترط أبدا أن يكون مصدر التشريع، ومن الممكن هنا أن نحيل على النموذج التركي والتونسي والماليزي والأندونيسي وغيرهم فهي كلها دول إسلامية بتشريعات مدنية، ولا يوجد ما يهدد هوية الدولة أو ثوابتها. أما الأمر الثاني، فهو يتعلق بطبيعة التعامل مع النص الديني، هل حقا أننا أمام نصوص قطعية الدلالة، لا مجال فيها للاجتهاد أو إعادة قراءتها؟ أم أن هناك منافذ للتعاطي مع النص الديني بشكل يجعلنا نتجنب التوترات القائمة بين الخصوصية والكونية، وبين المطالب الحقوقية والتشريعات الفقهية، وهو ما نعتقد أنه يمكننا التعامل معه من منافذ ومداخل متعددة.

ولعل أول هذه المنافذ هو ضرورة استحضار السياقات التاريخية لتشريع الميراث انطلاقا من البيئة التي نزل فيها النص القرآني، والمتميزة بعقلية ذكورية قوامها الرجل، خاصة أننا نتحدث عن مجتمعات كان نمط إنتاجها قائما على "اقتصاد المغازي أو الاقتصاد الحربي" حيث الغلبة الأساس لقوة الرجل، وحيث يصبح الرجل هو الفاعل الأساسي، وهو ما عرفه النص القرآني بالقوامة التي ربطها بالإنفاق. و تجب الإشارة هنا إلى أن المرأة في المجتمعات الإسلامية، لم تكن عليها أية أعباء مالية حتى لو كانت ميسورة فقد كان زوجها أو أقاربها هم من يتكلفون بأمورها المالية، بما فيها الدية التي تجب على المرأة إذا قتلت نفسا أو غيره كان يؤديها زوجها أو إخوتها. إذا لدينا القوامة كما حددها النص القرآني في الآية 34 من سورة النساء والتي ورد فيها "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ" والتي حصرت القوامة في الجانب المالي، ولدينا أيضا نمط الانتاج، والعلاقات الاجتماعية السائدة، وبالتالي إذا نظرنا إلى هذا الأمر في شموليته، فسنجد أن هذا التشريع شكل آنذاك طفرة حقيقية، لأنه راعى المقاصد الحقيقية للنص الديني.

 ومن يقول أنه لا مجال للمساس  بالنص  الديني ولو تعارض مع معطيات العصر، نتساءل معه ألم يقم عمر بن الخطاب بتغيير الأنفال التي ورد فيها نص قرآني صريح، بل إن سورة بأكملها سميت باسمها، ورغم ذلك ألغى عمر بن الخطاب قاعدة قرآنية تقضي بتوزيع أربعة أخماس على المجاهدين من الأراضي المفتوحة، وهو لم يفصله عن وفاة النبي أقل من عقد من الزمان، لكن تغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ومراعاة عمر لهذه التحولات وللمقاصد الأساسية للتشريع القرآني، جعلاه يوقف العمل بنص صريح، أضف لذلك حد السرقة وزواج المتعة وغيرها من الأحكام التي وردت فيها نصوص صريحة و أوقفها عمر، هذا عما لم يرد فيه نص صريح وأطلق المجال للاجتهاد، وهنا نجد أنفسنا أمام الثنائية الحاضرة دوما في تاريخ الفقه الاسلامي: روح التشريع/ في مواجهة النص الحرفي.

المدخل الثاني الذي يمكن أن نقارب منه موضوع إرث المرأة في القرآن، هو أن الآية المحددة لميراث الأنثى، ونقصد هنا الآية 11 من سورة النساء والتي ورد فيها "يوصيكمالله في اولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين... تطرح أكثر من علامة استفهام، إذ ترد فيها كلمتان نعتبرهما أساسيتين لإعادة قراءة الآية وهما "يوصيكم" و "حظ"، فهل نحن إزاء ميراث أم إزاء وصية؟؟ هل نحن إزاء حظ أم إزاء نصيب؟؟ هل نذهب كما ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار أن النص القرآني يتحدث عن الحد الأدنى؟؟ أم أننا إزاء تفسير خاطئ لهذه الآية، تفسير انطلق في قراءته للنص القرآني من عقلية ذكورية حرفية بل وايديولوجية، دليلنا في ذلك مثلا اختلاف ميراث البنت الواحدة بين السنة والشيعة، فبينما يجيز الشيعة أن ترث البنت بمفردها ثروة والديها، يتم تعصيبها عند السنة، وهذا التشريع لا يمكن أن نفهمه إلا في علاقته بجذور الصراع الشيعي-السني وخاصة ميراث فاطمة عن النبي ؟؟ ألا يجب اليوم أن نعيد قراءة الآيات التشريعية في النص الديني بمنهجيات وقراءات جديدة؟؟

المدخل الثالث وهو ما يوفره لنا الفقه الإسلامي نفسه من إنتاجات واجتهادات مهمة، من خلال العمل على فكرة المقاصد أم على النصوص، هل نأخذ بما يقول بعض التنويريين "حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله" أم بما يرى بعض الأصوليين "حيثما وجد الشرع فثمة مصلحة العباد"، ألا يوفر الفقه الإسلامي إمكانيات للتجديد، وإعادة قراءة معطيات النص القرآني؟ نذكر هنا مثلا بقاعدة المصالح المسترسلة، نذكر أيضا بموافقات الشاطبي، والقاعدة الأساسية جلب المنفعة ودرء المفسدة، ونحيل أيضا على اجتهادات نجم الدين الطوفي منذ حولي 7 قرون، عندما قال :"أنه إذا تعارض النص  مع المصلحة أعملنا المصلحة وأولنا النص !؟"

ألا نحتاج اليوم إلى الخروج من التقاطبات الإيديولوجية الضيقة، وفتح نقاش واسع وعميق، حول التجديد الفقهي في علاقته بمقتضيات العصر؟ ألن نكون بهذا أكثر خدمة للنص الديني ولروح التشريع القرآني؟ عوض أن نحكم على هذه المجتمعات أن تبقى رهينة قراءات حرفية تسيء للنص الديني، وتسهم في العزلة والتأخر؟، أليس واجبا على الدولة الحزم في اختياراتها الاستراتيجية و الوفاء بالتزاماتها الوطنية والدولية و القطع مع ازدواجية الخطاب والرؤية والاختيارات؟؟

إنها إشكاليات كبرى يطرحها موضوع الإرث لكنها في الواقع تتجاوزه إلى إشكالات ورهانات ترتبط بسيرورة وصيرورة الدولة ومستقبل الوطن، ما يفترض فتح نقاش عميق وهاديء بمنأى عن كل ما قد يؤدي إلى منزلقات خسائرها أكثر من أرباحها.

رابط الفيديوهنا