Friday 5 December 2025
كتاب الرأي

ميمونة الحاج داهي: الحقيقة شرط للشرعية.. الغموض سياسية مرفوضة

ميمونة الحاج داهي: الحقيقة شرط للشرعية.. الغموض سياسية مرفوضة ميمونة الحاج داهي
يتحرك المجتمع المغربي بسرعة أوسع من الايقاع الذي تظهره مؤسسات الدولة. وتتكون في الفضاء العام طبقة من الوعي تسبق أحيانا قدرتها على التنظيم السياسي، لكنها تملك تأثيرا مباشرا على الثقة العامة وعلى حساسيات الرأي. في المقابل، تبدو الادارة السياسية أقل استعدادا لتحديث أدواتها بالسرعة نفسها، وهو ما يخلق فجوة تتسع تدريجيا بين مطالب الناس وإجابات الدولة.

في السنوات الاخيرة، لم تكن الأحداث التي لفتت انتباه الرأي العام مجرد حوادث معزولة، و إنما علامات على تآكل نموذج تقليدي في الممارسة السياسية والتواصل. يتشكل انطباع قوي بأن الآليات التي أدارت بها الدولة ملفات حساسة خلال العقود الماضية لم تعد تكفي في زمن يعتمد على الفورية، وعلى وفرة المعلومات، وعلى التداول الرقمي، وعلى شجاعة الأسئلة. الاستجابة المتأخرة لأي أزمة لا تمر دون أثر؛ فهي تزرع الشك، وتستدعي قراءة بديلة للأحداث، وتمنح مساحة لمصادر غير رسمية كي تقدم روايتها.

في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل أن المجتمع المغربي أصبح أكثر انتباها لتفاصيل الحكم. يتابع المواطن الأخبار، يحللها، يقارنها، ويكوّن رأيه الخاص دون حاجة إلى وسيط. هذه المهارة الاجتماعية الجديدة لم تتشكل نتيجة توجيه أو تعليم، بل بسبب التفاعل اليومي مع واقع سياسي واقتصادي واعلامي يتغير باستمرار. حين يكتسب المواطن هذه القدرة، يصبح التواصل الرسمي مسؤولية دقيقة، ويصبح الصمت خيارا مكلفا.

التحولات التي يشهدها المغرب ليست مقدمة لاضطراب شامل، بل مؤشر على انتقال يمكن أن يكون ايجابيا إذا أحسن التعامل معه. 

تحديث الثقافة السياسية يبدأ من الاعتراف بأن الدولة لم تعد وحدها مالكة تفسير الأحداث. فعندما تتعدد مصادر الفهم، يحتاج الحكم الى منهج يفسر، ويشرح، ويقدم رؤية قبل أن يقدم قرارا. إدارة الأزمات بالتأجيل أو التداول البيروقراطي لم تعد تملك الشرعية نفسها، لأن المواطن يتابع الزمن الحقيقي للوقائع.

الثقة عنصر مركزي في أي نظام سياسي. تبنى ببطء، وتنهار بسرعة. وما يهددها اليوم ليس حجم الأخطاء، بل غياب تفسيرها. حين لا تشرح القرارات بوضوح، تتسع المسافة بين السلطة والمجتمع، ويصبح المجال مفتوحا لتأويلات لا يمكن السيطرة عليها لاحقا. إن قوة المؤسسات لا تظهر في خطاب الطمأنة، وانما في قدرتها على تقديم معنى واضح لما يحدث، وعلى ربط القرار بمصلحة عامة مفهومة، و ليس بمسافة غامضة بين النظام والناس.

المغرب يمتلك مقومات قوية تسمح له بتطوير نموذج حكم أكثر مرونة،، مجتمع نشط، قطاع خاص دينامي، قاعدة إجتماعية واسعة من الشباب المتعلم، وقدرة مستمرة على استيعاب الصدمات الاقتصادية. غير أن هذه الموارد تحتاج الى إطار مؤسسي يتطور بالسرعة نفسها، وإلى إدارة سياسية تتقدم خطوة في اتجاه الشفافية، و إلى قناعة بأن التفسير المشترك للواقع يعزز الاستقرار أكثر مما يفعل التجاوز الصامت.

الدول التي تزدهر ليست تلك التي تخلو من المشكلات، بل تلك التي تستطيع أن تواجهها دون توتر. المغرب لا يفتقر الى الخبرات أو الامكانيات، ولكنه يحتاج إلى توسيع دائرة المشاركة في الفهم، و إلى مخاطبة الرأي العام باعتباره شريكا في صناعة المستقبل، و ليس مجرد متلق لنتائج القرارات. 

حين تصبح اللغة مؤسسية، واضحة، ومسؤولة، تترسخ الثقة ويتجه النظر من إدارة اللحظة إلى بناء الزمن القادم.
في هذه المرحلة، من المبكر الحديث عن مآلات نهائية. لكن من السهل ملاحظة أن المجتمع يتغير، و أن الإشارة لم تعد تكفي حين يطلب الناس معنى. وهذا سؤال لا يمكن إرجاؤه، لأن التفسير أصبح جزءا من الحكم، تماما كما القرار.