من أهم المعارك التي خاضها اليسار المغربي، في بداية التسعينيات، مناهضته للخوصصة وتلويحه بتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية، يوم اتخذت الدولة قرار رفع اليد عن العديد من المؤسسات الاقتصادية ذات البعد الاستراتيجي، التي كانت تشرف على تدبيرها بشكل مباشر أو غير مباشر، في العديد من المجالات الإنتاجية أو ذات طبيعة هيكلية، وعلى الرغم من كل ما كان يقوم به الإعلام اليساري من تشهير وتنديد، الذي مارسه في إطار فضح الاختلالات والتبذير الممنهج للمال العام واتساع رحاب الفساد، وكل ما كان يقوي التسلط والاستبداد، فإنه دافع على ضرورة حفاظ الدولة على موقعها في رأسمال هذه المؤسسات، والقيام بالمراقبة الصارمة في حماية المصالح الحيوية للدولة وتماسك المجتمع. لم تكن حجج الدولة لحظتها قوية في تدعيم قرارها، لكن ظهور بعض التراخي في موقف قوى اليسار وأجنحتها الأساسية، مهد الطريق إلى التسريع بعملية التفويت والتفريط في ما كان يشكل علامة استقلال البلاد وسيادتها، وفي كثير من الأحيان بكلفة رمزية، وكأن الدولة كان همها فقط التخلص من عبء التسيير وكلفة تدبير شؤونها، بالضخ المستمر للسيولة المالية من أجل الحفاظ على أجهزة بدون مردودية. في الوقت الذي لم تكن فيه كل هذه المؤسسات دون مردودية تذكر، بل إن بعضها كان يعتبر من المكتسبات الوطنية، التي احتاجت إلى رصد أموال وبنيات تحتية أساسية، من أجل تقوية السيادة الوطنية، وحماية البلاد من كل تلاعب بمصالحها الحيوية.
ولعل أبرز هذه المؤسسات الاقتصادية، شركة تكرير النفط والمحروقات "لاسمير"، إنجاز اقتصادي كبير في رمزيته ودلالاته الوطنية، حققه مغرب ما بعد الاستقلال، في خطوة عملاقة في اتجاه استكمال استقلال البلاد الاقتصادي والسياسي. تظافرت فيه رغبة حكومة عبد الله ابراهيم في تحقيق الأمن الطاقي والاستقلال الاقتصادي ورغبة المناضل الإيطالي ''ماطييي'' الذي اغتالته مصالح الاستخبارات الإمبريالية الأمريكية لتهديده لمصالحها والحد من احتكارها وتحكمها في المصادر الطاقة النفطية في العالم. وقد تعزز هذا الانجاز بمشاريع اقتصادية هامة تكميلية مثل ''سنيب'' والمعمل الحراري لإنتاج الكهرباء، ثم بعده الميناء البترولي الوحيد بالبلاد القادر على استقبال أكبر ناقلات النفط العملاقة، كما نشأت حول هذا القطب شبكة التوزيع الآلي للنفط ومشتقاته عبر الأنابيب إلى مستودعات الموزعين المصطفة بلافاليز و''الواد المالح'' وحتى مصفات سيدي قاسم. كما نشأت مقاولات خدماتية في مختلف الاختصاصات لضمان الصيانة، جعلت من مدينة المحمدية قطبا اقتصاديا، يشكل إلى جانب مدينة الدار البيضاء، أهم محور اقتصادي ورافعة من روافع التنمية بالبلاد. هكذا صارت مدينة فضالة، كما كانت تسمى قديما، محط اهتمام العديد من الفاعلين الاقتصاديين، وعرفت ازدهارا اجتماعيا ورياضيا لافتا، انعكس في التوسع العمراني وتجديد بنياتها ومرافقها الاجتماعية والتعليمية.
وبالرجوع إلى البيانات والأرقام التي رصدت تطور هذه المؤسسة ومردودها، تتضح المكانة التي تحتلها هذه المعلمة الاقتصادية، وما حققته على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والرياضية، وما فتحته من آفاق لساكنة المدينة ومحيطها.
واليوم وبعد مرور عشرين سنة على تلك العملية القيصرية، التي سعت إلى حرمان البلاد من مواقع قوتها ورموز سيادتها، وبعد الوقوف على مصير هذه المؤسسات التي تم تفويتها، و ما عرفته من تدن في مردوديتها، نعود إلى سؤال الخوصصة وما جنته البلاد، بتسليم ممتلكات الدولة إلى جهات، لا هم لها إلا جني الأرباح واستنزاف ما يمكن استنزافه من ناتجها الخام. فالمؤسسات التي تم تفويتها أو تفويض تدبيرها، لم تحقق التطور المأمول الذي كان يراهن عليه، بل إن أوضاعها إن لم تكن قد تدهورت، فإن انعكاساتها السلبية على محيطها الاجتماعي والاقتصادي، تكشف حجم الخسارة، وفظاعة التهور في الإقدام على قرار من هذا الطبيعة، بالنسبة لدولة كانت في طريقها إلى إحداث نمط تنموي خاص، يؤهلها لتجاوز كل معيقات التطور وتحقيق ما يسمح بالارتقاء إلى مصاف الدولة النامية أو في طريقها نحو النمو.
لا أحد الآن يمكن أن يدعي أن اختيار الخوصصة، وبالشكل الذي تمت به في سياق تعميق الريع، مكنت البلاد من إبراز مؤهلاتها وتوسيع وتنوع مجالات إنتاجها، فكل المستفيدين من هذه العملية الريعية الكبيرة، ظلوا عبئا على الدولة ومؤسساتها المالية، استفادوا من ملايير الدراهم كقروض تفضيلية بضمانات المشاريع التي سلمت لهم، أو بتوصيات من جهات حامية لنزيف الاستحواذ، التي رعت ووفرت كل الظروف لتحقيق الخراب.
المشكل الذي تعيشه شركة التكرير "لاسامير" منذ مدة، والتي رفض مالكوها الجدد، تأدية ما بذمتهم من مستحقات ضريبية وقروض بنكية وفوائدها بملايير الدراهم، يضع منطقة كاملة على حافة الانهيار، ويمس البلاد في عمق سيادتها الطاقية، ويجعلها رهينة في أيد المضاربين ومقتنصي الفرص. هكذا أصبحت معلمة اقتصادية مهددة بالإغلاق، وإتلاف أكبر استثمار صناعي وبشيري، تأهل طيلة ستة عقود من الزمن، وراكم تجربة معرفية وعملية، يمكنها ان تساهم في الرفع من إيقاع التنمية. فنتيجة لخطوات غير محسوبة آلاف الأسر ستجد نفسها وجها لوجه مع الضياع، بنيات تحتية كلفت الملايير من الدراهم، ستصبح معرضة للتلاشي، وتتحول إلى هياكل وأطلال.
بعد معاينة كل ما جرى ويجري، فإن المسؤولية أصبحت أكبر من طرح السؤال، حول سلبيات وإيجابيات الخوصصة، بل إن الأمر يقتضي وقف النزيف وإبطال مفعول الكارثة التي أصبحت تهدد البلاد والعباد، والعمل على تدعيم كل الاختيارات الرامية إلى حماية السيادة الطاقية، وفضح كل المحاولات البئيسة، التي تسعى إلى تبخيس حجم ما سيترتب عن مخطط الإتلاف الممنهج من نتائج وكوارث. فكل الاختيارات والتصورات، غير عملية إنقاذ استعجالية تعيد الأمور إلى نصابها، بما في ذلك استعادة الدولة لرأسمال هذه الشركة، أو على الأقل لجزء منه يبقي على حقها في المراقبة والحرص على المصلحة العامة، لا يمكن أن تكون إلا خطوة نحو الهاوية، وبداية لتفجير مشاكل وقضايا اجتماعية، لا احد يستطيع تقدير حجم نتائجها ومآل انعكاساتها. وكل حديث عن تحرير أسعار المحروقات وفتح مجال المنافسة والمضاربة في قطاع حيوي كتصنيع الطاقة وتوزيعها، هو تهديد للأمن الطاقي، واستهتار بالمصالح العليا للبلاد وتعريض المواطنين لكل أنواع الاستنزاف.