حين نتحدث عن تجريم الإثراء غير المشروع، نستحضر كل تصريحات وهبي السريالية في الدفاع عن سحب القانون، فاليساري السابق، يخاف كل الخوف عن الحريات الفردية، وبشعبوية فجة، يصرح أن هذا القانون يهدد كل مواطن...
هل الأمر يا رفيقي متعلق مجرد بمجرد مساءلة قانونية مرتبطة بجرائم اقتصادية ومالية...؟ لا أظن... فالتجريم اختبار حقيقي لجدية الدولة في مواجهة ما ينهش في ثروات الشعب ويبددها في جيوب صغيرة...
المضحك المبكي في المشهد السياسي المغربي اليوم هو رؤية عبد اللطيف وهبي وهو يدافع عن موقف أحيانا أقرب إلى نكتة سريالية منه إلى رؤية إصلاحية واضحة.
وزير العدل، في جلسات البرلمان وفي وسائل الإعلام، صرح بأفكار أثارت ضحك حقوقيين وقانونيين ونشطاء على حد سواء: قال إنه “يخاف” من تجريم الإثراء غير المشروع لأنه يخشى أن يتحول كل مواطن ثري إلى متهم ما لم يثبت براءته. الإثراء حسبه “نسبي” وقرينة البراءة يجب أن تكون فوق كل اعتبار، حتى لو كان مسؤول عمومي لا يستطيع تفسير مصدر ثروته الطائلة بلا دليل.
اللهجة هنا ليست تهكما فارغا، بل رد فعل على موقف يتناقض مع الشعارات العالمية لمكافحة الفساد حيث نصت اتفاقيات دولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، على أن تجريم الإثراء غير المشروع أحد الأدوات الأساسية لقطع دابر الفساد واسترداد المال العام. (اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد)
أما في الواقع المغربي، فإن السردية الوهبية تختلف، إذ يتحول النص الذي من شأنه أن يجعل قياس التناقض بين دخل المسؤول وثروته أمرا قابلا للمساءلة، إلى شيء “يعطي انطباعًا سلبيا” أو “يفتح الباب لمزايدات” على المواطنين.
المفارقة الكبرى أن نفس الرجل الذي شارك في لجنة العدل والتشريع حين كان نائبا وناقش مشروع القانون قبل سنوات، يعود اليوم لينكر ما كان يعرفه جيدا، ويقدم قراءة قانونية تجعل من مكافحة الإثراء غير المشروع تهديدا لحقوق الدستورية، بدل أن تكون ضمانة لإحقاق العدالة.
ردود الفعل في المجتمع المدني وفي أوساط الحقوقيين لم تتأخر. الجمعية المغربية لحماية المال العام، وهي قِبلة المدافعين عن الشفافية بالمغرب، لم تتردد في القول إن الموقف الحكومي يشي برغبة في “إسكات الأصوات التي تفضح الفساد” أكثر من رغبته في حماية المال العام. ولعل هذا يضيف بعدا صادما لما يسميه البعض “تكميما” لألسنة المجتمع المدني بدلا من تجفيف منابع الفساد نفسها.
من ينظر إلى تجارب دول مثل أستراليا أو فرنسا أو حتى بعض دول أمريكا الجنوبية يرى أن تجريم الإثراء غير المشروع ليس تهديدا للحرية، بل أداة أساسية لمعاقبة أولئك الذين يتغلغلون في نخبة السلطة ويحولون المنصب إلى آلة لإغناء أنفسهم.
في المغرب، بدلا من أن يتم تبني هذا المفهوم، نحصل على سرديات قانونية تبدو كأنها قصة من عالم عجائبي، عالم حيث كل مسؤول “محمي” حتى تثبت براءته، لكن المال العام يترك بلا حماية.
التأخير المستمر في إعادة مشروع القانون إلى البرلمان، وتأجيل نقاش تجريم الإثراء غير المشروع، أثار انتقادات نيابية أيضا. تساءلت عدة جهات صراحة لماذا لا يتم إخراج هذا القانون إذا كانت هناك رؤية شمولية، معتبرة أن التأخر يعكس ضعف الإرادة السياسية وليس فقط حساسية قانونية.
باختصار، المشهد المغربي اليوم في هذا الملف يشبه إلى حد ما مسرحية هزلية سوداوية: وزير يعدنا بأن القانون قد يكون خطيرا، ومتخوف من أن ثراء المواطنين يجعلهم متهمين في محكمة الوعي العام، بينما الفساد الذي ينهش موارد البلاد لا يخشى أحد من مواجهته. فهل سنبقى نقرأ هذه الحكاية كأضحوكة دستورية، أم سنعيد للفساد اسمه الحقيقي ونعطي القانون صوته الصحيح؟ السؤال يبقى مفتوحا، لكن المواطنين في الشارع بدؤوا بالفعل يجيبون عليه بألسنتهم قبل أن تجيب عنه مؤسسات الدولة.
خالد أخازي: كاتب وإعلامي