الزمان: القرن الخامس عشر. على يساري قارة أوروبا التي أباد أكثرَ من نصفِ سكّانِها الطاعونُ الأسود. تلتهمها حروبٌ دينيةٌ وأهليةٌ لا تتوقف. جهلٌ عميم وظلاميّة داكنة تطمُّ كل أصقاعها الكئيبة الجائعة. الحضارة في الجهة اليمنى منها، حيث الإمبراطورية العثمانية التي تتوسّع من القوقاز شرقاً حتّى الجزائر غرباً. تتكئ هذه الحضارة على تراث علمي مشعّ بدأ من "بيت الحكمة" في بغداد في القرن التاسع حيث تُرجِمَ تراثُ الإغريق وفلسفتُهم للعربية، وقُدِّمَ مشروحاً للعالَم أجمع في صيغةٍ واحدةٍ إحدى. "عرفنا الفلسفة بفضل الإسلام!"، سيقول لاحقاً روجيه باكون.
اخترع الخوارزمي منذ فجر هذا القرن الذهبي علمَ الجبر (يستعمل العالم أجمع هذه التسمية العربية من وحي كتابه: الجبر والمقابلة). وارتبط اسمهُ أيضًا بأهمّ وأنبل كلمة في علم الكمبيوتر اليوم: Algorithme، الخوارزمية. تلاه ابن الهيثم الذي ألغى مسلّمات خاطئة قديمة في علوم البصريات، واستبدلها بنظريّاتٍ حديثة تستند على تجارب مختبرية عبقرية جعلته رائد علمهِ حتّى أمدٍ قريب. تواصَلَ الازدهارُ الحضاري بفضل عدد آخر من الأسماء العظيمة اللامعة في كل مجالات العلم والأدب. كانت حضارتنا هذه في القمّة عسكريّاً أيضاً: وصلت إلى جنوب أوروبا منذ بداية القرن الثامن، وإلى تخوم الصين شرقاً. حاصرت عاصمةَ النمسا، فيينا، في 1638، وكادت تسقطها لولا خطأ في توقيت موعد الهجوم!
السؤال الذي يسكنني: كيف ولماذا فقدت هذه الحضارة زمام التفوق، قبل أن تتمزّق وتنهار، حيث لم يخرج عالَمُها العربي من غيبوبةِ لكمةٍ قاضية حتّى اليوم؛ في حين صعدت الحضارة الأوروبية من الحضيض، وأمسكت أذرعها الأخطبوطية اليوم بكلّ مقاليد الكوكب الأزرق؟ متى بدأ ذلك تحديداً؟ تُهمُّني هذه اللحظة المفصلية، تستعمرني، تستحوذُ على كل عصبونات دماغي!
لنحاول، برفقة كتاب نيال فريجسون: "حضارات"، أن نستحضر على تلفازين افتراضيين متجاورين سيرورة تطوّر الحضارة الأوروبية (في التلفاز الغربي)، والحضارة العثمانية (في التلفاز الشرقي)، منذ تلك اللحظة القدريّة الحاسمة!
سنشاهد في التلفاز الغربي: عرف الغرب في نهاية ذلك القرن الخامس عشر مطبعة غوتنبرغ (الذي طوّر عبرها المطبعة الصينية). تعمّمت خلال عقود قليلة هذه المطبعة على أهمّ مدن الغرب. طُبِعت عشرات آلاف الكتب الدينية أوّلاً، ثم كتب معرفية مختلفة، لاسيّما كتاب "العناصر" لإقليدس. وارتفع حينها بشكلٍ ملحوظ مستوى التنمية البشرية في المدن التي انتشرت فيها المطابع...
ماذا نرى في التلفاز الشرقي؟ مُنِعت الطباعة بقرار عثماني رسمي في عام 1515! لم تصل المطبعة بيروت مثلاً إلا في القرن الثامن عشر. ورفض النظام العثماني مواكبة حركة الزمن تحت شعار رجعيٍّ غريب يقشعرّ من هول ظلاميته جلدي: "حبر العالِم أقدس من دم الشهيد"!
لعلّ لحظةَ نشوء المطبعة في أوروبا، ومنعَها بالمقابل في الإمبراطورية العثمانية، هي اللحظة المفصلية التي بدأ فيها سقوط إحدى الحضارتين، وصعود الأخرى. لأن العالَمَ تغيّر تماماً إثر ذاك: لم تعد البشرية تعيش في عصر "من ضرب غلب"، ولكن "من كتب غلب"، قبل أن تنتقل اليوم إلى عصر "من رقمن هيمن"!
تعود إلى التلفاز الغربي لترى تطوّراً حضاريّاً كليّاً مع إطلالة القرن السابع عشر وحتّى موعد الثورة الفرنسية، تُلخِّصه كلمتان قلبتا الكرّة الأرضية رأساً على عقب: الثورة العلمية! وتتابع أكثر من 30 اكتشافاً جوهرياً خلال تلك الفترة ظهرت في غرب القارة الأوروبية لا غير، وقّعها: غاليلو، نيوتن، فيرما، باسكال، لافوازييه، وغيرهم. تُرافِقها أكاديمياتٌ علميةٌ تتأسس. تنافسٌ في الاختراع. تحفيزٌ يوميٌّ على تطوير البحثِ العلمي.
وأحد تلك الاكتشافات الثلاثين، له تطبيق مباشر في المجال العسكري: مُنحنى حركة قذيفة المدفع ليس خطيّاً، ولكن قوسيٌّ يمكن حسابهُ رياضيّاً، وتوجيههُ في ضوء درجة مقاومة الهواء، بحيث تصل القذائف إلى غرفة نوم قائد القلعة التي تحمي عساكرَ الدفاع عن مدينة، وتدمِّرها كليّة!
ويكفي لإدراك مقام العلم في الحضارة الجديدة، استدعاء لحظة موت نيوتن: عُرِض جسدُه خلال 4 أيام في دير ويست مينيستر قبل أن يَحمِل جثمانَهُ على أكتافهم إلى القبر دوقان (ملِكا منطقتين)، 3 نبلاء، واللورد رئيس الوزراء!
بعد عودته لفرنسا، كتب فولتير الذي حضر حفل التأبين: "رأيت بروفيسور رياضيات، لمجرد كونه جيدًا في مجاله، يوارى جثمانه الثرى كملك، ينحني له شعبه وفاء وإجلالا".
تنتقل إلى تلفاز الشرق، ماذا ترى؟ خلال كل تلك الفترة لم تترجم الإمبراطورية العثمانية من كتب العلوم الغربية غير كتاب واحد! لم تشيّد صرحاً علميّاً واحداً غير مرصد العالم السوري تقي الدين في اسطنبول، لكنها هدّمته بعد سنةٍ من بنائه، حسب توجيهات فتوى دينية، بحجّة "التدخل في أسرار الله"!
وقف الفقهاء هكذا عائقاً في وجه التطوّر والدخول في عصر الحداثة. وظلّ الحاكمُ العثمانيُّ أسيرَ عقلية الجواري ومؤامرات التصفيات السيّاسية بين الورثة سعياً للحكم. تدهورت الإدارة المدنيّة وإرشيف إحصاءات السكّان.
وفي الغرب؟... الحاكم، كفريديريك الثاني في بوستدام، يمثِّلُ العكس النموذجيَّ للسلطان التركي: تنظيم، عمل، توسّع، ثقافة، نشرٌ علميّ واسع، استخدام للاكتشافات العلمية في اختراع سلاح مدفعية متحرّك فعّال جديد. ثمّ بدأ قرن التنوير وفصل الدين عن التعليم. تحرّر إثره البحث العلمي والفكر. خطا الغرب بعد ذلك خطوات عملاقة نحو الديمقراطية والحداثة. ثمّ الثورة الصناعية.
ماذا ترى في تلفاز الشرق؟ تحجّرٌ وتعليمٌ متخلِّفٌ يعلم الطالب كيف لا يفكر. انهارت الإمبراطورية العثمانية تدريجيّاً بعد هزيمة فيينا. وظلّ العالم العربي حتّى الآن خارج الحضارة، أسير ثقافة الظلاميين واستبداد الطغاة!
واليوم، في عصر الرقمنة؟
يكفي إغلاق التلفازين وفتح شاشة الإنترنت: اتساع الهوّة بين الحضارتين أكثر تراجيديّةً بكثير، لأن الرقمنة أضافت لمارد الغرب جناحين، فيما أُصِيبتْ زعانف سلحفاة حضارتنا بالشلل، ولم يتمكّن رأسها بعد من الخروج من الصدفة! فبوّابات المعارف بِلُغات الغرب تكتظّ اليوم بمليارات المواد العلمية والمعرفية. فيما العربية تفتقر إلى أهمِّ كلمات المعارف الحديثة، ولم تعد تُستخدم أصلاً لِكتابة العلوم. فلو بحثتَ مثلاً عن هذه الكلمة الجوهرية Entropy، ستجد لها أكثر من خمسين استخداماً في علوم الطاقة الحرارية، الرياضيات، المعلوماتية والكمبيوتر، الاقتصاد، العلوم الاجتماعية، الموسيقى، أحدها في غاية الجوهرية، يتأسّس عليه القانون الثاني للطاقة. تمدّك موسوعة ويكيبيديا مثلاً بفروع شجرة المعارف المرتبطة بهذا المفهومِ ــ الموسوعة، فيما لا تجد مقابلاً أو أثراً له بالعربية، ولا حتّى ترجمة بلغة الضاد لصفحات ويكيبيديا الخاصّة به!
حالهُ حالُ "المتعرِّف الضوئي على الأحرف" (OCR) الذي يُحوِّل صورة السكانير لأي كتاب إلى نصّ رقمي، وتمتلكه كلّ لغة (عدا العربية حتّى الآن!)؛ وهلمَّ تأخّراً وغياباً!
باختصارٍ شديد: لا يوجد في منطقتنا العربية بلدٌ واحدٌ استوعب بعمق أنّ من كتب غلب، ومن رقمن هيمن!
(عن "العربي الجديد")