Tuesday 9 December 2025
كتاب الرأي

خالد أخازي: المادة 52 من مشروع قانون التعليم المدرسي.. كارثة... برادة يشرعن طرد التلاميذ المتعثرين بالتعليم الخصوصي

خالد أخازي: المادة 52 من مشروع قانون التعليم المدرسي.. كارثة... برادة يشرعن طرد التلاميذ المتعثرين بالتعليم الخصوصي خالد أخازي
ما إن يذكر إصلاح التعليم حتى "تفيض"  فيضا كل الشعارات البراقة: الإنصاف، الجودة، الديمقراطية، تكافؤ الفرص... الدمج... التدريس وفق المستوى... الريادة... ولكن في غياهب القوانين ووسط تناسل النصوص الملغمة،  تنمو نبتة سامة تقوض كل هذه الادعاءات... وبرادة... مستعد لخدمة الرأسمال في قطاع التربية، كأنه التلميذ سلعة قابلة للبوار، ويحق للمؤسسة الخاصة التخلص منه..
نعم....لنقف لحظة عند  المادة 52 من مشروع قانون التعليم المدرسي المقترح.. المادة اللغم... وللمصيبة والله بجميع المعايير.. فهي ليست مجرد فقرة بريئة... بل نموذج صارخ للتناقض بين خطاب المساواة وممارسة الإقصاء، بين دعوى "التعليم للجميع" وحقيقة "التعليم لمن يستحق". هنا، يلبس المشروع رداء قانونيا رفيعاً لتبرير عملية غربلة تستبعد الأضعف تحت ستار "الكفاية" و"الجودة"...
التناقض الجوهري: بين خطاب الإدماج وممارسة الانتقاء واضح حين يعلن المشروع في ديباجته وأهدافه التزامه بمبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص وضمان الحق في التعليم للجميع، وتأتي المادة 52 مناقضة لهذا الجوهر بشجاعة. فهي تنقل منطق السوق التنافسية إلى قلب العلاقة التربوية: المؤسسة الخاصة، التي تدار بمبدأ الربحية والعرض والطلب، تمنح الحق في تحديد "الكفايات والمكتسبات اللازمة". من هو "الكفء"؟ في هذا المنطق، هو التلميذ الذي لا يؤثر على الإنتاجية التعليمية، ولا يخفض المعدلات، و لا يستهلك وقتا وموارد إضافية. أما المتعثر، والمكرر للمستوى، وصاحب صعوبات التعلم، فيصبح "سلعة كاسدة"... وصمة عار للرأسمال، ووجب التخلص منها. أليس هذا انتهاكا صريحا لمبدأ المساواة في الفرص التعليمية الذي يفترض أن النظام التعليمي هو من يصقل الكفايات، لا أن يطرد من لم يحملها جاهزة؟
الخطورة الأخلاقية والسياسية تتجلى في تفكيك فكرة "المدرسة الديمقراطية" فالمدرسة في أي مجتمع يطمح إلى الديمقراطية، هي الفضاء الأول لتحقيق العدالة الاجتماعية وترسيخ مبدأ "الاستحقاق عبر الجهد والدعم"، وليس "الاستحقاق عبر الانتقاء الطبيعي". المادة 52 تقلب هذه المعادلة. فهي تشرعن التمييز على أساس معيار تعلميمي خاص مرتبط بمشروع المؤسسة: فالتلميذ الذي لم يوفق لظروف اجتماعية، نفسية، أو ذوي صعوبات ، يعاقب بالإقصاء بدل أن يدعم، يتم التخلص منه... كان بالأمس هذا الأمر محتشما... ومع برادة أصبح له سند قانوني، برادة  خوصص مفهوم "الحق في التعليم" فالحق  حسب مشروعه يتحول من ضمانات وطنية إلى منحة تقدمها المؤسسة الخاصة لمن تستحقه، وفق معاييرها هي، ويتم  تحويل التربوي إلى قرار إداري مالي بحت: فالقرار يُبنى على "الملاءمة مع المشروع التربوي للمؤسسة" – وهي عبارة إدارية قابلة لأن تعني في التطبيق: "من لا يلائم سياسة التسويق والسمعة التي نريد".
ضحية هذا  التناقض هو التلميذ المتعثر... الخطيئة التي لا تغتفر
الصورة الأكثر مأساوية هنا هي تحويل التعثر الدراسي من حالة تربوية طبيعية تستدعي تدخلا ودعما، إلى "ذنب" يستوجب العقاب بالإبعاد ورفض عدم إعادة التسجيل. في ظل هذه المادة غير الدستورية، التكرار مثلا ليس فرصة ثانية ، بل ورقة طرد جاهزة وصعوبة التعلم ليست حاجة لتكييف المنهج وطرق التدريس، بل عذرا لإنهاء العلاقة التعليمية و الإيقاع البطيء ليس مسارا فرديا يجب احترامه، بل دليل على عدم "الملاءمة". هذا لا ينتهك فقط حق التلميذ، بل يقتل فكرة التضامن التربوي ويجعل المدرسة مكانا للتنافس الوحشي، حيث يسقط الضعيف وينتظر الأقوى.
المفارقة التاريخية الكبرى هي أن هذا  الإصلاح سيكرس إنتاج التفاوت،  فهذا المشروع يأتي في سياق تاريخي يعج بمطالب إصلاح يعالج الهدر المدرسي والفوارق الاجتماعية. والمفارقة الكارثية أن المادة 52، بدلا من أن تكون أداة الأمان المدرسي، قد تصبح آلية قانونية لتعزيز الهدر المدرسي في القطاع الخاص، وتركيز الفرص لأبناء النخبة القادرة أكاديميا ومالياًط. إنها تساهم في بناء نظام تعليمي طبقي مزدوج: مدرسة عمومية تستقبل الجميع (بإمكانياتها المحدودة)، ومدرسة خاصة انتقائية تطرد "غير المرغوب فيهم" وتعيد إنتاج التفاوت تحت مظلة القانون.
 هل هذا هو الإصلاح الذي ننتظره؟
فالمادة 52 ليست ثغرة صغيرة...إنها شرخ أيديولوجي في مشروع القانون. إنها تظهر كيف يمكن للقانون أن يكون أداة لترسيخ الظلم بدلاً من إنهائه. الخطر ليس تقنيا فقط، بل هو خطر على المفهوم الديمقراطي للمدرسة مقدمة عمومية ولو برأسمال خاص ومكان للتعايش والانتصار الاجتماعي.
لذلك، أوجه نداء عاجلا لبرادة: صديقي لا يمكنكم التغني بالمساواة وفي قلب قانونكم مادة تشرعن الانتقائية والطرد. يجب إعادة صياغة المادة 52 بحيث تكون واضحة وحاسمة: التعثر الدراسي وصعوبات التعلم والتكرار لا يمكن أن تكون أبدا أسبابا للطرد أو رفض التسجيل. بل يجب إلزام المؤسسة بتقديم خطط دعم والتكيف.
 وفي هذا السياق فالمجتمع المدني والرأي العام مطالبان بعدم الصمت، لأن تمرير هذه المادة يعني الموافقة على تخلي الدولة عن ضمان الحق في التعليم للجميع، وتسليمه لقرارات لمزاج المقاولة المدفوعة بالربح أو الوصمة الاجتماعية، فأي إصلاح لا يحمي الأضعف فيه هو إصلاح زائف. أية جودة نبتغيها إذا كنا على استعداد لدفع ثمنها بطرد الأطفال المتعثرين؟
ليس هذا وقت تقوية الرأسمال الشجع، بل وقت رفض التناقض بين الخطاب والممارسة. فإما أن يكون القانون أداة للإنصاف، أو سيكون شهادة وفاة لمدرسة العدالة الاجتماعية التي نحلم بها.
 
خالد أخازي، كاتب وإعلامي