لم يعد النقاش حول الماء ترفاً علمياً أو انشغالاً بيئياً معزولاً. تحوّل الماء إلى عنوان لصراع قادم، وعمود فقري للأمن القومي، وبوصلة جديدة تعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات. وفي قلب هذا التحول العالمي، تستعد مدينة مراكش لاحتضان الدورة التاسعة عشرة من مؤتمر المياه العالمي، بتنظيم مشترك بين الجمعية الدولية لموارد المياه ووزارة التجهيز والماء بالمملكة المغربية، وتحت رعاية الملك محمد السادس.
لكن أهمية هذا الملتقى لا تكمن في حجمه ولا في رمزية المشاركين فحسب، بل في توقيته ودلالاته السياسية. فالعالم يدخل مرحلة “الهشاشة المائية الشاملة”، حيث تتقاطع الأزمات المناخية مع الندرة المتزايدة والضغط على الموارد، في وقت تبحث فيه الدول عن نماذج حكم أكثر قدرة على الصمود. وهنا يبرز المغرب كحالة لافتة: بلد استطاع تحويل التحدي المائي إلى ورشة استراتيجية كبرى، عبر استثمارات ضخمة في التحلية والسدود وإعادة استعمال المياه العادمة وربط الأحواض المائية ضمن رؤية وطنية استباقية.
اختيار مراكش لاحتضان هذا الحدث العالمي ليس مجرد قرار تنظيمي، بل إشارة إلى أن المغرب أصبح منصة للتفكير في مستقبل الماء بالقارة الإفريقية وحوض المتوسط. فالمملكة، بخبرتها في إدارة الندرة، تقدم نموذجاً يجمع بين الابتكار الهندسي والحكامة الرشيدة، وبين الرؤية الجيوسياسية التي ترى في الماء مجالاً للتعاون بدل التوتر.
المؤتمر سيكون فضاءً يجمع الباحثين والوزراء والخبراء والفاعلين الاقتصاديين ومنظمات المجتمع المدني، لكن أهميته الحقيقية تتجاوز تبادل التقارير والخبرات التقنية. فالعالم يبحث اليوم عن “ديبلوماسية مائية جديدة” تعيد التوازن للعلاقات الدولية، وتمنع تحوّل الندرة إلى عامل تفكك وصراع. ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المغرب في بناء جسور بين إفريقيا التي تواجه تحديات ضخمة، وأوروبا التي تعيش صدمة مناخية غير مسبوقة.
تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وخاصة الهدف السادس المتعلق بالماء والتطهير، لم يعد مسألة تقارير أممية. إنه رهان وجودي يتطلب تنسيقاً بين القطاعات- من التمويل إلى التخطيط الحضري، ومن الفلاحة إلى التكنولوجيا، ومن الدبلوماسية إلى التعليم. والرهان الأكبر هو خلق شراكات حقيقية تتجاوز منطق المشاريع المجزأة نحو رؤية عالمية للأمن المائي.
مراكش، المدينة التي تجمع بين الذاكرة والحداثة، ستتحول خلال هذا المؤتمر إلى مختبر عالمي لإعادة التفكير في كيفية إدارة أثمن مورد على وجه الأرض. وإذا نجح المشاركون في صياغة خريطة طريق جديدة، فقد يكون الحدث نقطة تحول في فهم العالم لطبيعة الأزمة، ولإمكانيات الخروج منها.
ليس مجرد مؤتمر. إنه لحظة مفصلية يتقاطع فيها العلمي بالسياسي، والتنموي بالاستراتيجي، وتظهر فيها المملكة المغربية كفاعل قادر على الإسهام في هندسة مستقبل مائي أكثر أمناً واستدامة.