مقدمة: في مفهوم القطيعة السياسية
لا يمكن قراءة تطور الوعي السياسي المغربي منذ الاستقلال بمنطق التراكم البسيط، بل من خلال لحظات قطيعة أعادت تعريف المشروع الوطني في منعطفات حاسمة.
فالقطيعة هنا ليست مجرد انشقاق تنظيمي أو صدام مرحلي، بل فعل تأسيسي يعبّر عن وعي جديد بعلاقة الدولة بالمجتمع، ويعيد تموضع الفاعلين السياسيين في ضوء التحولات البنيوية.
وقد كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، منذ نشأته، أحد أبرز مختبرات هذه القطائع، حيث أعاد بناء ذاته أكثر من مرة، ليواكب تحولات الدولة والمجتمع في المغرب الحديث.
عبد الله إبراهيم: قطيعة تأسيسية مع نموذج الدولة التقليدية
بعد تجربة حكومة عبد الله إبراهيم (1958–1960)، التي سعت إلى ترسيخ سيادة اقتصادية ووطنية، جاءت القطيعة الأولى مع نموذج حزب الاستقلال في إدارة الدولة.
فتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 لم يكن انشقاقًا شكليًا، بل إعلانًا لولادة وعي جديد يرى أن الاستقلال السياسي لا يكتمل إلا بالاستقلال الاقتصادي.
كانت تلك القطيعة تأسيسًا لنموذج دولة اجتماعية، تسعى إلى العدالة الإنتاجية والسيادة على القرار الاقتصادي، في مواجهة مقاربة ليبرالية محافظة.
بوعبيد وبنجلون: من العنف الثوري إلى النضال الديمقراطي
بعد اغتيال عمر بنجلون سنة 1975، قاد عبد الرحيم بوعبيد قطيعة ثانية، حاسمة، مع منطق العمل الثوري المسلح، متجهًا نحو إستراتيجية النضال الديمقراطي والمؤسساتي.
في تلك المرحلة، تحوّل الحزب من ثقافة التمرد إلى ثقافة الإصلاح، ومن المواجهة إلى التدرج، مؤسسًا لما يمكن تسميته بـ “المدرسة الاتحادية” التي جمعت بين النقد والممارسة الواقعية.
كانت تلك القطيعة استجابة لهزيمة الخيار الراديكالي، ومقدمة لخيار المشاركة السياسية الذي بلغ ذروته مع تجربة التناوب.
عبد الرحمن اليوسفي: من ثقافة الرفض إلى ثقافة المسؤولية
في 1998، دشّن عبد الرحمن اليوسفي القطيعة الثالثة بالانتقال من المعارضة إلى المشاركة في حكومة التناوب.
كانت تلك لحظة تحول في الوعي الاتحادي، إذ انتقل من منطق الرفض المطلق إلى منطق الإصلاح من الداخل، ومن خطاب الاحتجاج إلى خطاب الدولة.
ورغم ما أحاط التجربة من انتقادات، فإنها شكّلت أول محاولة جدية لإعادة تعريف العلاقة بين اليسار والدولة في سياق الانفتاح السياسي والتناوب التوافقي، وفتحت أفقًا جديدًا للاندماج الديمقراطي.
إدريس لشكر: أزمة القطيعة المفقودة
اليوم، يعيش الحزب ما يمكن تسميته بـ أزمة القطيعة المفقودة.
ففي حين تأسس الاتحاد الاشتراكي تاريخيًا عبر قطائع متتالية، فإن المرحلة الحالية تبدو مشلولة نظريًا وتنظيميًا، حيث يسود الجمود بدل التجديد، والتكرار بدل الخلق.
الأزمة ليست في الشخص فحسب، بل في غياب المشروع الفكري القادر على استيعاب التحولات الجديدة في المجتمع المغربي، من بينها:
تحوّل الدولة من مركز سلطوي إلى شبكة متعدّدة للسلطة؛
صعود الحركات الاجتماعية المستقلة عن الأحزاب؛
بروز قضايا جديدة (البيئة، النوع الاجتماعي، الرقمنة، العدالة المعرفية).
صعود الحركات الاجتماعية المستقلة عن الأحزاب؛
بروز قضايا جديدة (البيئة، النوع الاجتماعي، الرقمنة، العدالة المعرفية).
لقد تحوّل الحزب من أداة للتأسيس إلى أداة للتكرار، ومن منبر للتجديد إلى منصة لتصفية الحسابات، ومن مدرسة اتحادية إلى مساحة مغلقة تُدار بمنطق الولاء لا بالكفاءة.
ما بعد لشكر: نحو قطيعة إبستمولوجية وإيديولوجية
تجاوز الأزمة الراهنة لا يقتضي فقط تغيير القيادة، بل يستدعي قطيعة إبستمولوجية مع منطق الممارسة الحزبية التقليدية، وقطيعة إيديولوجية مع خطاب لم يعد يستجيب لتحولات الدولة والمجتمع.
فاليسار المغربي الذي تأسس على مفاهيم العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي، مطالب اليوم بإعادة تعريف ذاته في ضوء:
التحولات الرأسمالية المعولمة؛
تصاعد الهشاشة المعرفية والبيئية؛
تراجع الثقة في المؤسسات التمثيلية؛
بروز قضايا جيلية وهوياتية تتجاوز الخطاب الطبقي الكلاسيكي.
تصاعد الهشاشة المعرفية والبيئية؛
تراجع الثقة في المؤسسات التمثيلية؛
بروز قضايا جيلية وهوياتية تتجاوز الخطاب الطبقي الكلاسيكي.
يمكن هنا استلهام بعض التجارب الحديثة، كحزب العمال في البرازيل أو حركة بوديموس في إسبانيا، التي أعادت تعريف اليسار من خلال دمج النضال الاجتماعي بالرقمي، وتوسيع مفهوم العدالة ليشمل المعرفة والبيئة والهوية.
لكن هذه النماذج لا تُستنسخ، بل تُفهم لتُلهم نموذجًا مغربيًا جديدًا، يربط بين التراث السياسي الوطني وروح الحداثة الاجتماعية.
خاتمة: من قطيعة الماضي إلى تأسيس المستقبل
لطالما كان الاتحاد الاشتراكي حزب القطائع التأسيسية.
واليوم، يبدو أن لحظة جديدة من القطيعة مطلوبة — لا مع التاريخ، بل من أجل التاريخ.
قطيعة تُعيد للحزب وظيفته الفكرية والسياسية كمختبر للتجديد لا كأرشيف للذكريات.
إن “ما بعد لشكر” ليس فقط ما بعد الزعيم، بل ما بعد الإيديولوجيا المغلقة، وما بعد التنظيم الهرمي، وما بعد الخطاب الموروث.
إنه نداءٌ لتأسيس وعيٍ جديدٍ بالسياسة في المغرب، قوامه الفكر النقدي، والمواطنة الفاعلة، والعدالة المعرفية والاجتماعية.
إنه زمن التأسيس من جديد.