Monday 20 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الناصر ناجي: دراسة طاليس 2024.. المغرب أمام مرآة مهنة التدريس

عبد الناصر ناجي: دراسة طاليس 2024.. المغرب أمام مرآة مهنة التدريس عبد الناصر ناجي

تقدم نسخة 2024 من طاليس، الاستقصاء الدولي الضخم لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية حول التعليم والتعلم (TALIS) ، مرآة للنظام التعليمي المغربي. هذه المرآة لا تعكس صورة قاتمة ولا لوحة مثالية، بل صورة منظومة تربوية في مرحلة انتقالية، يختلط فيها التوتر البنيوي بالوعود غير المكتملة. من خلال الاستماع إلى صوت حوالي 18 ألف أستاذ ومدير مدارس ابتدائية وإعدادية، يقدم تقرير طاليس تشخيصًا صريحًا: المغرب يمتلك هيئة تدريس شابة ومتفانية، لكنها لا تزال معرضة للهشاشة نتيجة نقص الإشراف، وغياب الاستقلالية، وضعف الدعم المؤسسي.

شباب واعد بدون مواكبة قوية

بمتوسط عمر 39 سنة، في حين أن المتوسط الدولي يستقر عند 45 سنة، يُصنف الأساتذة المغاربة بين الأصغر سنًا عالميًا. هذا التجديد السريع لهيئة التدريس قد يمثل ميزة استراتيجية لتحديث النظام التعليمي، إذا ما رافقه دعم كافٍ. ولكن هذا هو جوهر المشكلة. فتشبيب هيئة التدريس يصاحبه نقص في الخبرة ومهننة غير مكتملة. أقل من ستة أساتذة من كل عشرة استفادوا من تكوين أساسي متخصص في التعليم، وهي نسبة أقل مقارنة بمتوسط منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الذي يصل إلى ثمانية من عشرة.

هذا التناقض يطرح تساؤلات حول انسجام سياسات التوظيف والتكوين. الجهود الكبيرة لتجديد الجسم التعليمي في السنوات الأخيرة لم يصاحبها تعزيز كافٍ لبرامج التوجيه والمواكبة المستمرة. حيث إن 16٪ فقط من الأساتذة المبتدئين يحظون بمرافقة شخصية، بينما يؤكد 90٪ مشاركتهم في تكوين مستمر خلال العام المنصرم، وهو عدد مهم يستحق التنويه، غير أن كمية التكوين لا تعوض عن جودة المواكبة خاصة بالنسبة للأساتذة الجدد. وهذا هو جوهر التعلم المهني المستدام الذي لا يزال المغرب يكافح لتحقيقه.

ظروف العمل تحت ضغط مستمر

النتيجة الثانية المهمة لطاليس 2024 تكمن في شدة الضغط النفسي المهني. ما يقارب 70٪ من الأساتذة المغاربة يشعرون بضغط إداري ومهني شديد، و68٪ يعترفون بصعوبة تدبير الانضباط داخل الأقسام الدراسية. هذا الانزعاج لا يرجع بالأساس إلى طول ساعات العمل، التي تبقى أقل من المتوسط الدولي، بل إلى طبيعة المهام نفسها: العبء المعرفي، تعقيد الفصول المتنوعة، والفجوة بين التوجيهات الرسمية وواقع الفصل الدراسي.

كما أن نقص الأساتذة المؤهلين في نصف المؤسسات يزيد الضغط، بحيث يجد العديد من الأساتذة أنفسهم أمام فصول متعددة اللغات حيث لا يتقن جميع التلاميذ لغة التدريس، وبالتالي لا يستطيعون مسايرة دروسهم دون الحصول على دعم متخصص. في هذه الظروف، يصبح التعليم أكثر تحديًا منه متعة معرفية. يكشف طاليس 2024 بذلك إرهاقًا معنويًا يهدد استدامة المهنة.

الاستقلالية البيداغوجية: الحلقة الأضعف للإصلاح

أحد أكثر النتائج إثارة للقلق في التقرير يتعلق بالاستقلالية البيداغوجية. أقل من نصف الأساتذة المغاربة يقولون إن بإمكانهم اختيار أهداف التعلم بحرية أو تكييف المنهاج الدراسي بما يتلاءم مع احتياجات تلاميذهم. هذا النقص يعيق الإبداع والمسؤولية، وهما رافعتان أساسيتان لأي إصلاح تعليمي.

ويصنف المغرب ضمن البلدان التي يقيَّد فيها القرار المهني للأساتذة بشدة، على نفس مستوى كوستاريكا. وقد أظهرت البحوث الدولية أن الاستقلالية المهنية مرتبطة بجودة التعليم والتحفيز والاحتفاظ بالأساتذة، لأن مدرسا بلا سلطة بيداغوجية يصبح منفذًا للتعليمات فقط، مما يضعف القيادة البيداغوجية الفردية والجماعية، ويضعف بالتالي دينامية التغيير التي تعتبر السمة الأساسية للمنظومات التربوية.

النتيجة المباشرة لذلك هي نقص التعاون بين الأساتذة بحيث أن 6٪ فقط يمارسون مهنة التدريس ضمن فرق تربوية، مقابل 31٪ في متوسط دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. وهكذا لا يزال التدريس في المغرب ممارسة فردية، في بيئة مؤسسية لا تشجع التجريب الجماعي. ومع ذلك، فإن العمل التعاوني هو المكان الذي تُبنى فيه الثقافة المهنية وتنقل فيه المهارات الضمنية للمهنة.

تناقض الاستقرار دون رضا

على المستوى الوظيفي، يظهر المغرب استقرارًا ملحوظًا: 90٪ من الأساتذة يعملون بعقد دائم. لكن هذه الاطمئنان الوظيفي لم يعد يخفي عدم الرضا عن ظروف العمل. فالاستقرار الوظيفي، الذي كان يُنظر إليه طويلاً كتعويض عن غياب المكانة الاعتبارية في المجتمع، لم يعد يضمن الرضا المهني. وهو ما يظهر جليا في الفارق الواضح بين القطاعين العام والخاص، إذ أن الأساتذة في القطاع الخاص أكثر رضا بنسبة 31 نقطة مئوية عن ظروف عملهم مقارنة بزملائهم في القطاع العام.

هذا التباين يعكس واقعين: صرامة الإدارة في القطاع العام وضعف آليات التقدير غير المادي. وفي سياق يعتمد فيه التحفيز على الاعتراف الرمزي بقدر الاعتراف المادي، الذي قطع فيه المغرب أشواطا مهمة بعد الزيادات التي عرفتها أجور المدرسين السنة الماضية، يبدو المغرب لا يزال محاصرًا في منطق التدبير الإداري على حساب الثقة المؤسسية.

العصر الرقمي وتحديات تكوين الذكاء الاصطناعي

من الإشارات الأكثر تفاؤلًا في طاليس 2024 وعي الأساتذة المغاربة بالمستجدات التكنولوجية. أكثر من نصفهم يعبرون عن حاجة ملحة للتكوين في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في التعليم، وهي واحدة من أعلى النسب عالميًا. هذه الرؤية الجماعية الإيجابية تمثل نقطة تحول تتمثل في كون الأساتذة لم يعودوا يرفضون الابتكار، بل يطالبون به.

لكن التحدي أمام النظام التعليمي المغربي هو كيفية الاستجابة لهذه الحاجة. لأنه لا يتعلق الأمر بمجرد إدماج الرقمنة في الفصول الدراسية، بل تحويلها إلى رافعة للتغيير البيداغوجي. والسؤال الذي ينبغي أن يطرح ليس "هل يجب التكوين في مجال الذكاء الاصطناعي؟"، بل "كيف يتم ذلك بذكاء دون زيادة الفجوات القائمة بين المؤسسات والمناطق؟".

بين الالتزام وخيبة الأمل: التوازن الهش للمهنة

رغم هذه التحديات البنيوية، يؤكد 75٪ من الأساتذة حبهم لمهنتهم. هذا الارتباط، الذي يكاد يكون مثاليا، يمثل قاعدة أخلاقية يمكن لأي إصلاح أن يستند إليها. لكنه لا يعوّض عن نقص الاستقلالية، والعبء الوظيفي، وضعف ملاءمة ظروف العمل.

يوضح تقرير طاليس 2024 أن المغرب أمام معضلة النضج: كيف يمكن تحويل مهنة شابة ومتفانية إلى هيئة تدريس متوازنة وموضع اعتراف؟ وكيف يمكن الانتقال من نموذج يركز على الاستقرار الوظيفي إلى نموذج يرتكز على جودة الممارسة والثقة المؤسسية؟

خاتمة: دعوة لإعادة تأسيس العقد التربوي

في النهاية، طاليس 2024 ليس مجرد تقرير استقصائي، إنه مرآة نقدية ودليل للعمل. يكشف عن نظام للتدريس يبحث عن التوازن بين الشباب والخبرة، الالتزام والإرهاق، الاستقرار والاعتراف. الدرس للمغرب واضح: إصلاح التعليم لا يمكن أن ينجح دون إعادة النظر في مهنة التعليم نفسها.

نعم للاستثمار في التكوين والدعم، ولكن بشكل أكبر في الثقة والاستقلالية. إعادة الاعتبار للعملية التعليمية تعني الاعتراف بالأستاذ ليس كمجرد منفذ للسياسات، بل كمحرك أساسي للتحول الوطني للمنظومة التربوية. إن نشر طاليس 2024 يشكل فرصة للفاعلين والمؤسسات لإعادة التفكير في العقد التعليمي المغربي، ووضع الأستاذ في قلب السياسة التعليمية والابتكار البيداغوجي.