Sunday 19 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

سعيد يقطين: اتحاد كتاب المغرب مدفونا حيا

سعيد يقطين: اتحاد كتاب المغرب مدفونا حيا سعيد يقطين
إذا كانت الأحزاب الوطنية قد تراجعت عن دورها النضالي والتأطيري منذ أكثر من عقدين من الزمان، تاركة المجال للمستثمرين في السياسة لأصحاب المال، فإن انعكاس ذلك على العمل الثقافي كان واضحا جدا. فالانقسامات التي عرفتها تلك الأحزاب كان لها أثرها البالغ في انحسار الفعل الثقافي المنظم والمؤطر والفاعل. وإن لم يؤثر هذا كثيرا على الحضور الثقافي المغربي من خلال اجتهادات المبدعين والنقاد الذين تتزايد أعدادهم باطراد، ويحتلون مواقع هامة على الصعيد العربي. ومن بين هؤلاء من لا ينتسب إلى هذه المؤسسة العريقة التي كانت جامعة للكتاب والمثقفين المغاربة منذ الستينيات إلى أواخر التسعينيات اسمها: اتحاد كتاب المغرب. لقد دفن هذا الاتحاد حيا بسبب غياب الروح الثقافية التي تعلو على أي روح أخرى. فكان تراجع الثقة في المجتمع السياسي المغربي نظير تغييب إبدال ثقافي وفكري يمكن أن يلتف حوله المثقفون والكتاب لتطوير الوعي والممارسة الثقافيين، أو تشكيل مجتمع ثقافي يكون مؤسسة حاضنة لمختلف الاتجاهات والتصورات، ليسهم بدوره في الإشعاع الثقافي والفكري والفني.
تأسس اتحاد كتاب المغرب في الستينيات حاملا الروح الوطنية التي ورثها عن النضال ضد المستعمر. وكان الأفق الوحدوي ماثلا، منذ البداية، في تصوره للعمل الثقافي العربي، فكان اسمه «اتحاد كتاب المغرب العربي» للمّ شمل الكتاب، ومواجهة الثقافة الفرنسية التي تركت آثارها وترسباتها متجذرة في التربة المغاربية برمتها، وليس كما يدعي المدعون لمواجهة الأمازيغية الشفاهية، والتي عمل الاستعمار على الترويج لها، والدفاع عنها لضرب الوحدة اللغوية الوطنية. وجرت تحت النهر الرياح القطرية فصار لكل قطر اتحاده الخاص. لكن الاستثناء المغربي جعل المثقفين المغاربة يدافعون عن «استقلالية» الاتحاد، منذ السبعينيات، في الوقت الذي ترسمت الاتحادات والروابط الأخرى، وصارت تابعة للدولة. وظل اتحاد كتاب المغرب المؤسسة الثقافية التي حافظت على استقلالها.
كتبنا مرارا مبينين أهمية العمل الثقافي وضرورته في مجتمعنا ليكون موازيا لما يتحقق من مشاريع عملاقة. وجاءت الاحتجاجات الأخيرة، وهي حلقة من حلقات احتجاجية طويلة لتؤكد أن التنصل من المسؤولية السياسية لدى المجتمع السياسي المغربي بتحويل الحزب إلى وكالة انتخابية، على وزن وكالة بريدية، وأن تجميد اتحاد كتاب المغرب المؤسسة الثقافية ذات التاريخ الذي واكب التحولات الفكرية والإبداعية، وانحسار دور الجمعيات الثقافية، وتراجع دور الشباب في استقطابهم، وتلبية حاجياتهم في التعبير عن أنفسهم، صقل مواهبهم… كل ذلك ساهم في سيادة ثقافة التفاهة، وهيمنة روح التشاؤم وانعدام الثقة.
منذ أن كرس اتحاد كتاب المغرب استقلاليته عن وزارة الثقافة، في منتصف السبعينيات، ظل، وإن كانت موارده المالية محدودة جدا، ولا تفي بأداء واجب المقر، خلال ثلاثة عقود منارة ثقافية مغربية وعربية. لقد فرض نفسه عربيا، من خلال مساهماته الفعالة في الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب، وتكفي الإشارة إلى ندوة فاس حول الرواية العربية الجديدة التي دشنت حقبة مختلفة في تاريخ الاهتمام بالرواية. أو بمؤتمره في مكناس حول القصة القصيرة العربية، وغيرها من الندوات والمؤتمرات التي عقدت عربيا في الدار البيضاء حول النقد الأدبي، وما شاكل هذا من الفعاليات التي ما تزال إلى الآن أدبياتها المطبوعة محل الاهتمام. أما على الصعيد الوطني فكانت الفروع في مختلف المدن محطات للقاء والنقاش الثقافي. يبدو ذلك في الكثير من الندوات الوطنية التي تناولت الكثير من القضايا التي تتصل بواقعنا الثقافي، والتي تجسد مجلة آفاق الكثير من مظاهرها.
إن ما أعطى للاتحاد هذه المكانة انطلاقه من إبدال جمع المثقفين والكتاب حوله، ويتمثل في الإيمان بدور الثقافة في المجتمع، من جهة، وبالبعد الوطني الديمقراطي للعمل الثقافي بعيدا عن أي عقدة للهوية، من جهة ثانية. ولم يمنع هذا الائتلاف حول هذا الإبدال من الاختلاف في تدبيره والعمل على ترجمته واقعيا، إذ كان للانحياز الحزبي، والتقاطب السياسي دوره بين الفينة والأخرى في جعل الاختلافات تطفو على السطح تارة بسبب عدم التوافق بين مختلف الأطراف على بعض القضايا المثارة، أو على تشكيل المكتب المركزي للاتحاد. وكان يتم تجاوزها طورا عن طريق التوافق الذي ينجم عن التنازل عن بعض نقط الاختلاف التي تكون أحيانا ذات طبيعة شخصية، أو بسبب الهيمنة التي كانت ترمي بعض الأطراف فرضها على الاتحاد. لكن هذا الواقع الذي عرفه الاتحاد كان وليد التطورات السياسية على الصعيد الوطني. ولم يؤد ذلك إلى انفراط العقد الجامع في العمل على ترجمة ذاك الإبدال.
لم تكن المشاكل التي تخبط فيها الاتحاد وليدة الاختلافات التي كانت تطفو على السطح بين الفينة والأخرى تؤثر على سير أشغاله رغم التفاوت بين الفروع التي كانت تتشكل وفق الخريطة العامة للمكتب المركزي. لكن أهم العوائق التي ظلت مواكبة لمسيرة الاتحاد تكمن في عجزه المالي. فلم تكن الفروع تتوفر على مقار للعمل، ولم يكن الأعضاء يتقاضون أي مستحقات لمشاركتهم في تحمل المسؤولية. كان العمل التطوعي قاعدة أساسية يؤمن بها الجميع. لذلك كانت تثار في كل المؤتمرات قضية المطالبة بالجمعية ذات النفع العام، ومعها الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية. تحقق المطلب الأول الذي تحول إلى مشكلة. صارت للاتحاد ميزانية مختلفة، وصارت له سيارة، وبات له مقر إضافي إلى جانب مقره التاريخي في زنقة سوسة بالرباط.
إذا كانت بعض النعم نقما فهذا ينسحب على الاتحاد في ظل تحولات اجتماعية وسياسية في أواخر التسعينيات. لم يبق الإبدال الثقافي الذي كان سائدا هو الأساس، إذ صار التدبير هو كل شيء. لم يبق الاختلاف بالدرجة الأولى حول الشعار الثقافي، ولكن حول من يسير الاتحاد؟ وفي نطاق تراجع الحياة السياسية التي كانت مبنية على المطالب الحيوية للمغاربة بهيمنة الروح الانتخابية، صار الرهان على «المنتخبين» هو الأساس. كان الحصول على بطاقة اتحاد كتاب المغرب حلما بعيد المنال. وفي الكثير من المؤتمرات لم تكن العضوية تتجاوز بضعة أعضاء، فصار المؤتمرات تقدم لنا العشرات. وامتلأ الاتحاد بالأعضاء لا بالكتاب الفاعلين وذوي الحضور الثقافي. لم يبق الاختلاف حول الشعار الثقافي، ولكن بات حول رئيس الاتحاد. وهنا بدأ الصراع يشتد أكثر من أي حقبة مضت، كانت محاولات لرأب الصدع، وتحقيق توافق يمكن الاتحاد من مواصلة المسير. باءت كلها بالفشل. وكان دفن الاتحاد حيا. فهو حي ميت، أو ميت حي لا فرق.
ما طرأ على المجتمع السياسي هو ما جرى للجسم الثقافي. فكما قتلت السياسة الثقافة، انتهى المجتمعان معا، ولم يبق لبعض الكتاب أو المثقفين الفاعلين حقيقة سوى العزلة عن المجتمعين معا. وخلا البيتان من السقف الذي كان يجمعهما. فكانت الانقسامات، والصراعات التي لم تؤد إلا إلى تهميش الثقافة، وعدم الثقة في السياسة. جاءت أحداث الربيع العربي، وها هي الاحتجاجات ذات التاريخ تتواصل بعد مرور ربع قرن على الألفية الجديدة، وكأن المغرب لم يستفد من كل تاريخه الحديث للتطور والتغيير.
لا يخفى أن كل المهتمين بشؤون المغرب ثقافيا وسياسيا يدركون هول الأزمة والطريق المسدود. وكلما كان باعث للدعوة إلى تجاوز النفق، وفتح مسارات جديدة للتطوير نجد روح التشاؤم سائدة، والعجز عن التفكير فيما طرأ هو المهيمن. صحيح تغيرت أمور كثيرة مغربيا وعربيا وعالميا. لكن التفكير بالذهنية البائدة التي لا تتماشى مع العصر الرقمي، لم تؤد إلا إلى التقاعس والإقرار بالفشل. فغابت مبادرات التجديد في التفكير في السياسة والثقافة، ولم يبق سوى الدجل والوعظ وافتعال القضايا الجزئية مع تسيب وتسلط الوسائط الجديدة. فصار «حلايقية الفضاء الافتراضي» وعاظا ومفكرين ومؤرخين وأنثروبولوجيين…
أفحلت أكاديمية الكرة في تقديم استثناء المغرب الرياضي على المستوى العربي والقاري. فمتى تكون لنا أكاديمية للسياسة والثقافة والاجتماع تسهم في تطوير التفكير في بنياتنا الفوقية على غرار ما يتحققا في البنيات التحتية؟ هذا هو محتوى سؤال احتجاجات المغاربة قاطبة، وليس فقط فئة من الشباب.
 
 سعيد يقطين، كاتب من المغرب