من غير الممكن الجزم في مآل الحركات الاحتجاجية التي يشهدها المغرب، حاليا، كما أن المغامرة بخلاصات علمية حول خصوصية هذه الحركات، تتطلب تحليلا ودراسة، لا يمكن أن تتم بسرعة وعجلة، لكن هذا لا يمنع من تقديم بعض الملاحظات الأولية، وأيضا الاستفادة من المقارنة مع أحداث تقريبا مماثلة، بالإضافة إلى المعطيات الاجتماعية والاقتصادية المتوفرة، التي تفيد في توضيح الرؤية، من أهمها أن المشاكل التي كانت من بين الشعارات الأساسية التي طرحها المحتجون، أصبحت تتخذ طبيعة بنيوية.
وهنا يمكن العودة إلى تقرير النموذج التنموي الجديد، الذي تم أنجازه في عهد الحكومة السابقة، وصدر في سنة 2019، وكان من بين ما سجله أن هناك أنظمة امتيازات ومحاباة تشكل عائقا هيكليا أمام تحقيق نمو شامل في المغرب، حيث تعمق هذه الأنظمة الإقصاء وتبطئ وتيرة النمو الاقتصادي وتنشر ثقافة الريع على حساب الكفاءة الاقتصادية والإبداع والمخاطرة، وبالمقابل هناك ضعف في آليات الرقابة، ونقص في الشفافية والمحاسبة، مما يضعف الثقة في المؤسسات.
كما أن الفوارق الاجتماعية وعدم تكافؤ الفرص، يشكل أحد التحديات الكبرى التي يواجهها النموذج التنموي في المغرب، الأمر الذي نتج عنه تفاقم في تفاوت فرص الارتقاء الاجتماعي بين الفئات، وتآكل الطبقة المتوسطة. ويسجل التقرير أيضا معطى في غاية الأهمية، هو أن سوق الشغل لا يستفيد من الميزة الديموغرافية، أي أن المغرب لا يستفيد، بالشكل المطلوب، من وصول أغلبية الساكنة إلى سن الشغل، مما يقلص من نسبة النمو، بينما شكلت الميزة الديمغرافية فرصة ثمينة في مضاعفة معدل النمو، بالنسبة لعدد من البلدان الأخرى.
يستعرض التقرير بتفصيل، مشاكل أخرى مثل انتشار الهدر المدرسي، حيث لا يزال عدد كبير من التلاميذ يغادرون مقاعد الدراسة قبل إتمام تعليمهم، مما يهدر الطاقات ويعمق مشكلة الأمية، وضعف المستوى التعليمي، إذ لا يحصل العديد من التلاميذ على تعليم كاف وفعال. كما يتحدث عن عدم نجاعة النفقات العمومية، في هذا القطاع، حيث أدى تدهور الجودة إلى جعل الاستثمارات الكبيرة الموجهة للتعليم غير ذات عائد مُرضٍ، مما يعني هدراً للموارد العامة دون تحقيق النتائج المرجوة. أما بالنسبة لقطاع الصحة العمومية، فيعرف تدهوراً ملحوظاً نتيجة لسياسات غير مدروسة، نتج عنه تدهور جودة الخدمات لجميع المستفيدين وانعدام الثقة المتبادل بين العاملين في المستشفيات والمرضى.
نفس الأزمة تسجل في قطاع الثقافة، حيث لا يوفر المشهد الثقافي بيئة مواتية لنمو الفرد الثقافي وازدهار الإبداع. ويعزى هذا الوضع إلى ضعف الصناعة الثقافية في المغرب، نتيجة نقص المبادرات العامة والخاصة القادرة على تقديم عرض ثقافي يلبي احتياجات مختلف شرائح المجتمع.
هذه الحقائق التي سجلها التقرير، ليست جديدة، فهي مزمنة، ورغم الاختلافات في السياقات، فقد كانت من أسباب الحركات الاحتجاجية، التي شهدها المغرب، منذ سنة 1965، التي تبعتها حركة الطلاب والتلاميذ، في بداية السبعينيات، وأحداث سنة 1981، الناتجة عن الإضراب العام، وأحداث سنة 1984، وأحداث الإضراب العام لسنة 1990، وهي كلها تمت مواجهتها باستعمال الرصاص ضد المحتجين، وباعتقالات واسعة وأحكام قاسية.
وكانت الدعوة للاحتجاجات تنتشر في المدن المغربية، دون وجود وسائل التواصل الاجتماعي، ودون استعمال الأنترنيت، كما أن المحتجين، كانوا لا يهابون القمع والرصاص، لذلك فالقول إن الحركة الاحتجاجية، اليوم، جاءت، فقط، نتيجة انتشار الأنترنيت، وهمٌ من الأوهام، وأن جيل Z استثنائي وشجاع، أكثر من متظاهري سنوات الرصاص، وهمٌ أيضا، لأن قوات الأمن حاليا، لا تستعمل العصي الخشبية لكسر الرؤوس والضلوع، ولا تستعمل الرصاص الحي.
الحقيقة الثابتة هي أن الحركة الاحتجاجية، اليوم، رغم أن الطابع الغالب على مطالبها، اجتماعي واقتصادي، ليس كما كان الحال في حركة 20 فبراير، التي رفعت شعارات سياسية، إلا أنه كما يقول عالم الاجتماع آلان تورين، فإن الحركات الاجتماعية هي شكل فريد ومهم من أشكال المشاركة السياسية، إذ يساهم الحراك الاجتماعي في العملية الديمقراطية والسياسية، كما يعتبر تورين، أن الحركات الاجتماعية الجديدة، مبدأها ليس تحويل الأوضاع والعلاقات الاقتصادية، بل إنها تدافع عن حرية ومسؤولية كل فرد، في مواجهة منطق الربح والمنافسة اللامبالي.
سيكون من الوهم أيضا اعتبار أن الحلول هي مجرد وصفات تقنية، أو كما كتب مانويل كاستلز في كتابه تحت عنوان "شبكات الغضب، الحركات الاجتماعية في عصر الأنترنيت"، أن من أفكار وأفعال هذه الحركات نقدها الشديد لنظام اقتصادي لا يرحم، يغذي أسواق المضاربة المالية المحوسبة آليا من لحم المعاناة اليومي البشري، ومع ذلك إذا وجدت فكرة شاملة، فهي تمثل الدعوة إلى اشكال جديدة من المداولات السياسية والتمثيل وصنع القرار.