تساءَلَ ملِك البلاد في إحدى خُطبِه المُوجَّهة للشعب المغربي، وقال : "أين هي الثروة"؟ و المقصود من وراء هذا التَّساؤل، هو "لماذا لم يستفِد الشعب المغربي من الثروة التي تُنتِِحها البلادُ؟
قبل الجواب على التساؤل الذي جاء في إحدى خُطَب ملٍك البلاد، دَعوني أُسلِّط الضوءَ على ماهية الأقلية الجشِعة l'oligarchie cupide ou vorace وفي نفس الوقت، أبيِّن من أين تأتي الثروةُ التي تنتِحها البلاد.
أولاً وتوضيحاً لماهية الأقلية الجشِعة، أي الأقلية التي لا تُشبِعُها الأموال الضخمة المتراكِمة، سأبدأ بتوضيح لماذا هي جشِعة. وهنا، أُفضِّل كلمة vorace على كلمة cupide، علماً أنهما معاً، يفيدان العطشَ أو الحبَّ الشديدين للمال. غير أن vorace، رغم ترادُفِها مع cupide، فيما يخصُّ جمعَ المال، فإنها تُفيد بأن الأقلية l'oligarchie لا تخجل من استغلال الآخرين من أجل رَكْمِ هذا المال (الثروة). فلماذا عنونتُ هذه المقالة ب"الوطن عندما تُسخَّرُ ثَروتُه لأقلِّيةٍ جَشِعَة"؟
عنوان هذه المقالة يُفيد بأن الثروةَ la richesse التي تُنتِجها البلادُ تعود بالنَّفع على أقلية جشِعة، وليس على البلاد والعباد! لماذا؟
لأن هذه الأقلية تؤمن إيماناً راسِخا بمقولة "إذا تزاوجت السلطة (السياسة) مع المال، فإن نفْعَ هذه الازدواجية يكون لصالح أصحاب الثروات الضخمة". وحتى إن لم تُمارس هذه الأقلية السياسة، فثروتُها الضخمة تنوب عنها لبسط نفوذها في كثيرٍ من المجالات التي تكون فيها المواقف السياسية حاسِمة.
ومن ضمن هذه المواقف السياسية الحاسمة، فإن الحكوماتِ المُتعاقِبةَ على تدبير الشأن العام، وخصوصاً، إذا كانت هذه الحكومات ليبرالية، من الناحية الاقتصادية، فإن هذه الحكومات تصِيغ سياساتٍ عمومية تخدم مصالحَ الأقلية. بل إن هذه الحكومات تُمَرِّر قوانين، من خلال البرلمان، تعود بالنفع على الأقلية وليس على البلاد والعباد، ومن ضمنها قوانين الإعفاء الضريبي في كثيرٍ من المجالات الاقتصادية.
أما من أين تأتي الثروة التي تُنتِجها البلاد، فإنها تأتي من عنصرين أساسيين وهما الإنتاج la production ورأس المال le capital.
الإنتاج يحتاج إلى رأس المال ورأس المال في حاجة للإنتاج للرفع من رصيده (ثروته) المالي. فما هو الإنتاج وما هو رأس المال؟
الإنتاج له عوامل كثيرة ويأتي على رأسها اليد العاملة والعقول البشرية القادرة على إنتاج المعرفة، لكن المعرفة القابلة للتطبيق على أرض الواقع، وكذلك، القادرة على خلق الثروة ومناصب الشغل.
أما رأس المال، فلا يجب حصرُه في المال، علماً أن المالَ ضروري لتحريك الإنتاج واليد العاملة وإنتاج المعرفة. إذن، يدخل في رأس المال، بالطبع المال والمصانع les usines والآلات les outils والتجهيزات الميكانيكية والإلكترونية les équipements mécaniques et électroniques والمعرفة السابقة الذكر. فكيف يتم الإنتاج؟
يتمُّ الإنتاجُ بدمجِ المال بالمصانع وتجتيزاتها الميكانيكية والإلكترونية واليد العاملة لتحويل المواد الأولية les matières premières، بما فيها المعرفة المشار إليها أعلاه، إلى خيراتٍ des biens وخدماتٍ des services، من المفترض، أن تُفيدَ البلادَ العبادَ.
إذن، خلقُ الثروة la création de de richesses يستلزم الإنتاجَ واليدَ العاملةَ المُؤهلة la main-d'œuvre qualifiée والعملَ le travail والمال والمواد الأولية (الموارد الطبيعية)، بما فيها المعرفة والخدمات…، وبالطبع، دون إغفال العوامل التي تضمن استمرارَ الإنتاج بجودة عالية، وعلى راسِها الابتكار l'innovation وتكييف وسائل العمل مع التُّطوُّر الذي يحصل في مجال التكنولوجيا، إضافةً إلى عوامل النَّجاعة والتنظيم وتَدَخُّل الدولة الذي، غالِباً، ما يستجيب لمصالح الأقلية قانونيا، كما سبق الذكرُ. فكيف تتبلور الثروة التي تُنتِجها البلاد ليتعرَّفَ عليها عامة الناس؟
جرت العادةُ على إعطاء قيمة للثروة التي تُنتِجها البلاد، من خلال الناتج الداخلي الخام le Produit Intérieur Brut الذي هو عبارة عن مجموع القِيمات المُضافة la somme des valeurs ajoutées المترتِّبة عن الإنتاج والخدمات. فهذه الثروة هي التي، من المفروض، أن تُوزَّعَ بإنصاف على جميع المغاربة!
مثلاً، بالنسبة لسنة 2024، كان الناتج الداخلي الخام المغربي 154،4 مليار دولار أمريكي، أي ما يناهز 1544 مليار درهم، أي ما يُعادل 154400 مليار سنتيم. وتوزيع هذه الثروة لا يعني، على الإطلاق، أن هذا الناتجَ يجب أن يكونَ مقسوما على عدد السكان. المقصود ب"إنصاف" ليس المساواة، لكن أن ينال كلُّ ذي حقٍّ حقَّه حسب معايير يتم تحديدُها مُسبقاً. وبعبارة أخرى، أن يستفيدَ من هذه الثروة الغني والفقير، أي كل المواطنين، بغض النظر عن انتمائهم الاجتماعي أو الإثني أو العقائدي أو الثقافي… وهذا هو ما لم يحدث منذ استقلال البلاد إلى يومنا هذا!
بل المستفيدُ الأول والأخير من الثروة التي تُنتِجها البلادُ، هي الأقلية الثرِية l'oligarchie riche. كل السياسات العمومية وكل القوانين، التي تنظِّم الصفقات والمعاملات الاقتصادية، تصبُّ في هذا الاتجاه، أي لا يقدر على الاستثمار فيها إلا أصحاب الغنى المفرط.
ثم لو كانت الثروة التي تُنتِجها البلادُ موزَّعةً بإنصاف، ما ظلَّت قائمةً الفوارقُ الاجتماعيةُ les inégalités sociales بين المواطنين، وما ظل الفقر ينهش طبقاتٍ كامِلةً من المجتمع المغربي، وبصفة عامة، ما ظلت ظروف العيش قاسيةً على شريحة عريضة من المواطنين. وأول عاملٍ يكون سبباً في عدم توزيع الثروة بإنصافٍ، هو الفساد la corruption و وليدتُه الرئيسية الرشوة les pots-de-vin.
والفساد، من خلال الرشوة، يتمثَّل في إعطاء حق لمَن لا يستحقُّه أو إصدار قرار يكون في صالح الراشي ومخالِفا للقانون. وأكبر الفاسدين هم أصحاب الثروات الضخمة الذين، بسبب جشاعتِهم leur cupidité، مستعدون لخرق القانون بأموالِهم الطائلة، علما أنهم يعرفون، حقَّ المعرفة، أن ما سيربحونه أكثر بكثيرٍ من الرشاوي التي يشترون بها الضمائر، وأن ما يقومون به عملٌ un acte يخرق القانون ويحرِم الكثيرين من حقوقِهم المشروعة. لكن جشاعتَهم leur cupidité ونَهمَهم leur voracité يمنعانِهم من احترام القانون والأعراف والعادات وكل ما يدخل في نطاق الأخلاق la morale والأخلاقيات l'éthique. فمَن المسؤول عن هذا الوضع الاجتماعي المُؤسِف والمُزري والمُعيق لتقدُّم البلاد وازدهارها؟
في نظري، المسؤول الأول والأخير هي الأحزاب السياسية. أنا، شخصياً، أتساءل في قرارة نفسي، ما الذي يمنع هذه الأحزاب من شنِّ حربٍ على الفساد؟ وبعبارة أخرى، هل هناك شيءٌ في الدستور أو في قوانين إنشاء وتنظيم الأحزاب السياسية، يمنع هذه الأحزاب من محاربة الفساد؟
إلى حد الآن، ليس هناك، لا في الدستور ولا في قوانين إنشاء وتنظيم الأحزاب السياسية، شيءٌ يمنع هذه الأحزاب من مُحارَبة الفساد. بل الدستور المغربي ينصُّ على كل ما من شأنه أن يمنع الفسادَ من الحُدوث. ويتعلِّق ألأمرُ، هنا، بمبادئ الحكامة الجيدة la bonne gouvernance والشفافية la transparence وربط المسؤولية بالمُحاسبة coupler la responsabilité avec la . .reddition des comptes كما ينص نفس الدستور على تنازع المصالح le conflit d'intérêts واستغلال النفوذ l'abus de pouvoir واحترام القانون، وفي نهاية المطاف، ينصُ على إنشاء "هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها" instance nationale de la probité et et de la prévention et de la lutte contre la corruption.
وهذه الهيئة تُصدِر تقريراً تبيِّن فيه الوضع الحالي للفساد في البلاد، طيلة سنةٍ كاملةٍ. ورغم ما تبذله الحكومة من مجهود على المستوى القانوني، فإن رقعةَ الفساد تزداد من سنةٍ إلى أخرى.
أما الأحزاب السياسية، فإنها تُهمِل إلى حد كبيرٍ الأدوار التي أُنشِئَت من أجلها. وعلى رأس هذه الأدوار، تأتي توعية المواطنين وتأطيرهم السياسي. ليس هناك ولو حزبٌ واحدٌ يقوم بهذا الدور، كما كانت تفعل أحزابُ اليسار في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات.
اليوم، كل الأحزاب السياسية تتشابه من حيث جوهرها السياسي، التَّوعوي والتَّأطيري… ولم تعد تختلف إلا بالتَّسميات الفارغة من المحتوى. فكيف للأقلية الثَّرية ثراءً فاحِشاً أن لا تطغى وتستولي على جزءٍ كبيرٍ من الثروة التي تُنتِجها البلاد؟ وهي تعلم، علمَ اليقين، أنه لا يوجد أمامَ نفوذها نفوذٌ مضادٌ، أو إن شئنا، لا يوجد أمام سلطتها son pouvoir، سلطةٌ مضادةٌ un contre-pouvoir.
في الأمصار الديمقراطية les contrées démocratiques، لا يمكن لأي حزب سياسي، كيفما كان نفوذُه في المشهد السياسي، أن يفرضَ رؤيتَه للأشياء على الآخرين دون أن يعارضَه حزبٌ سياسي آخر يرى نفسَ الأشياء برؤية مختلفة. فيحدث النقاش إلى أن تتقاربَ الرؤى ويحدث التَّوافق.
أما عندنا، كل الأحزاب السياسية تتشابه، كما سبق الذكرُ، سواءّ كانت في البرلمان أو في الحكومة أو في المعارضة، المُعارضة النائمة، إن كانت هناك معارضة، علما أن الدستور المغربي أعطاها هامِشا مُهِما من الحرية لتقوم بدورِها البنَّاء على أحسن ما يُرام.