Tuesday 2 September 2025
كتاب الرأي

محمد العمارتي: في ضرورة تسمية الجرائم الدولية لإسرائيل بمسمياتها.. قراءة في نداء أساتذة القانون الدولي حول الانتهاكات الإسرائيلية في غزة

 
 
محمد العمارتي: في ضرورة تسمية الجرائم الدولية لإسرائيل بمسمياتها.. قراءة في نداء أساتذة القانون الدولي حول الانتهاكات الإسرائيلية في غزة محمد العمارتي

 

ظلت الانتهاكات الجسيمة والمتوالية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية منذ شنها الحرب على قطاع غزة في 8 أكتوبر 2023 موضوعا للرصد والتوثيق والتحليل في العديد من التقارير الصادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والخبراء المستقلين والمقررين الخاصين للأمم المتحدة والوكالات الأممية المتخصصة والمنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان حتى الإسرائيلية منها، والصحافة المستقلة المتخصصة في التحقيق والاستقصاء.

وما يسترعي الانتباه أن مجموع هذه المصادر المتعددة والمتقاطعة التي تعتمد في إعداد تقاريرها ووثائقها على مقاربات مهنية صارمة، وأساليب منهجية دقيقة وفعالة في الرصد والملاحظة والتوثيق والتحليل والاستنتاج والتقييم، قد اتفقت على تكييف الانتهاكات الإسرائيلية باعتبارها جرائم خطيرة محظورة بمقتضى القانون الدولي الإنساني وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل أفعالا ينطبق عليها تعريف جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.

لقد كانت لنا في سياق تحليل الشق القانوني للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ورصد وتحليل خطورة تبعاته من وجهة القانون الدولي وقفات وقراءات تحليلية سابقة (راجع مقالاتنا المنشورة في أنفاس بريس منذ دجنبر 2023)، حاولنا فيها جهد المستطاع تحديد طبيعة الانتهاكات الإسرائيلية وتبيان العناصر المكونة للجرائم التي ترتكبها، وتبعاتها من زاوية المسؤولية الجنائية الدولية.

وسيرا على هذا المنوال ، وسعيا إلى كشف تناقضات وتهافت المواقف المشككة في ازدراء وتحدي إسرائيل للمجتمع الدولي و انتهاكها العمدي والمتواصل لقواعد القانون الدولي ،و ارتكاب حلفائها لجريمة المشاركة في حصول إحدى أبشع الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث ( تصريح مسؤول أممي رفيع أمام مجلس الأمن في 27 غشت 2025)، بسبب انحيازهم لإسرائيل ودعمهم لها غير المشروط ومساندتهم العمياء لسياستها الاستيطانية وصمتهم المتواطئ عن إدانة انتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي الإنساني ، وسقوطهم المدوي في الخطيئة الفادحة لازدواجية المعايير عندما يتعلق الأمر بحماية حقوق الشعب الفلسطيني ، نقترح في هذا المقال قراءة قانونية مركزة في وثيقة النداء الذي وقعه ونشره في 08 غشت 2025 أكثر من 150 أكاديميا من المختصين المرموقين في القانون الدولي الذين ينتمون ثقافيا الى الفضاء" الفرانكوفوني" ويدرسون في 20 جامعة مختلفة عبر العالم ، والذي اختاروا نشره في صيغة رسالة مفتوحة من أجل وضع الجرائم الدولية التي ترتكبها إسرائيل في غزة و الضفة الغربية في نصابها الصحيح . وسوف نتناول مضامين هذه الوثيقة القانونية و"المعاينات" الرئيسية التي توصلت إليها (أولا) ثم نبرز أهمية إصدارها مع إبداء بعض الملاحظات حول قيمتها وتأثيرها (ثانيا).

أولا- في فحوى الوثيقة واستنتاجاتها

اعتبر الأكاديميون الناطقون بالفرنسية الذين وقعوا على هذه الوثيقة وجميعهم متخصصون في القانون الدولي و/أو القانون الدولي الجنائي أن الانتهاكات الخطيرة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة والضفة الغربية والتحدي الأخلاقي والسياسي الذي تطرحه، يفرض عليهم الإدلاء برأيهم إزاء هذا الوضع من وجهة القانون الدولي، ونشر وتعميم تحليلهم القانوني والخلاصات الأساسية التي اتفقوا عليها بشأنه. وقد حصل الاتفاق بين هؤلاء الأكاديميين حول جملة من المعاينات الرئيسية ذات الطابع القانوني الموالية.

1.لا زالت دولة إسرائيل منذ مدة طويلة مستمرة في إنكار حقوق الشعب الفلسطيني، الذي يعتبر أحد آخر الشعوب الخاضعة للاحتلال الأجنبي التي لم تتمكن بعد من ممارسة حقها في تقرير المصير بشكل كامل.

2. إن الهجمات المسلحة التي نفذتها الفصائل الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 تعتبر انتهاكات خطيرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.، وهذه الأفعال التي ارتكبت على الأراضي الإسرائيلية، هي بلا شك جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي لا يمكن لأي قضية مهما كانت عدالتها أن تبرر ارتكابها.

3. إن إسرائيل لا يمكنها الاستناد على القانون الدولي ولا التذرع بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تكفل للدول حق الدفاع الشرعي، لمواجهة الهجمات التي انطلقت من داخل أرض محتلة. وإذا كانت الدولة العبرية كما سبق لمحكمة العدل الدولية أن ذكّرت في رأيها الاستشاري الصادر في 9 يوليو 2004 بشأن” الجدار” من حقها بموجب القانون الدولي، بل من واجبها الرد على مثل هذه الأعمال” بهدف حماية حياة مواطنيها“، فان ممارستها لهذا الحق لا يعفيها مطلقا من التقيد في ردها بضرورة أن تظل هذه التدابير مطابقة للقانون الدولي المعمول به.

4. إن إسرائيل في سياق ردها على الهجمات التي تعرض لها مواطنوها، ارتكبت ولا تزال ترتكب العديد من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. ويمكن تكييف هذه الانتهاكات، التي ارتكبت في سياق نزاع مسلح، بأنها جرائم حرب — لا سيما من خلال شن هجمات متعمدة على السكان المدنيين، أو استخدام المجاعة كوسيلة حرب. كما أن هذه الأفعال تُرتكب في سياق هجوم منهجي وواسع النطاق ضد المدنيين الفلسطينيين، وبالتالي يمكن تكييفها أيضاً بأنها جرائم ضد الإنسانية.

  1. . أما فيما يتعلق بجريمة الإبادة الجماعية، فقد كان بعض الموقعين على هذا النداء قد تساءلوا في البداية عن توفر عنصر النية والقصد المحدّد لتدمير الفلسطينيين في غزة كلياً أو جزئياً. ولكن الاتفاق قد حصل بينهم اليوم على الأقل، حول معاينة أن نية الإبادة الجماعية للحكومة الإسرائيلية قد تأكدت وتجسدت في المشروع المزعوم ل” المدينة الإنسانية"، الذي تم تنفيذه بالموازاة مع فرض الحصار على غزة وحظر وصول المساعدات إليها، وعدم الترخيص سوى للمساعدات التي تصل عبر الآلية البديلة التي أحدثتها إسرائيل بمسمى” مؤسسة غزة الإنسانية“. وقد واجهت خطة " المدينة الإنسانية " المزعومة التي صرحت الحكومة الإسرائيلية انها ستقيمها على أنقاض غزة، معارضة شديدة من لدن العديد من أساتذة القانون الدولي البارزين في إسرائيل نفسها. ففي تصريح غير مسبوق، حذر هؤلاء الأكاديميون من الطابع غير القانوني لهذه الخطة ومن الانتهاكات الجسيمة التي تترتب عن تنفيذها ، غير مستبعدين بدورهم الاحتمال القوي لتوفر العناصر المكونة لجريمة إبادة جماعية لسكان غزة ( الرسالة الاستعجالية الموجهة في 10 يوليوز 2025 ،الى وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس الأركان و النائب العام وعدد من المسؤولين الحكوميين ) . و يمكن الإحالة في هذا الصدد أيضا الى تقارير منظمات غير حكومية إسرائيلية مثل " بيت شيليم" و "فيزيائيين من أجل حقوق الإنسان" التي تنضاف الى التقارير التي أصدرتها منظمات دولية غير حكومية (منظمة العفو الدولية و هيومن رايتس ووتش ) والى التحذيرات المتوالية للوكالات المتخصصة للأمم المتحدة .

وفي جميع الأحوال، يشدد الموقعون على هذا النداء على أن هذه التساؤلات حول تكييف الإبادة الجماعية لا يمكن أن تستخدم لمحاولة التقليل من خطورة الجرائم المرتكبة أو من خطورة غيرها من التوصيفات القانونية التي لم تعد موضوعا للنقاش، فليس هناك أي استثناء أو تدرّج في التهم الجنائية التي يقرها ويحددها القانون الدولي الجنائي.

  1. وعلاوة على غزة، تُرتكب العديد من الانتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في الضفة الغربية المحتلة ضد السكان المدنيين الفلسطينيين. وتشمل هذه الانتهاكات الطرد الجماعي والقسري للسكان وتدمير القرى وجرائم القتل والتعذيب وسوء المعاملة والاحتجاز التعسفي، وتندرج جميع هذه الأفعال ضمن أخطر الجرائم الجنائية.

7. إن جميع هذه الانتهاكات للصكوك الرئيسية للقانون الدولي الاتفاقي التي تمت معاينتها من شأنها أن ترتب مسؤولية الدول والأشخاص المتورطين فيها أمام المحاكم الوطنية والدولية المختصة. وبالتالي، فإن الدول الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تعتبر ملزمة بالتعاون مع هذه المحكمة في مباشرة التحقيقات والمتابعات القضائية التي يتم إجراؤها بشأن الوضع في فلسطين.

8. إن معايير القانون الدولي في هذا الصدد لا تعتبر فقط معايير erga omnes (ملزمة في مواجهة جميع الدول كما أن جميع الدول لها مصلحة قانونية في حمايتها) بل تندرج أيضا ضمن نواة المعايير الآمرة jus cogens للقانون الدولي، وبالتالي، فإن جميع الدول من المفروض عليها ليس الالتزام بعدم تقديم المساعدة أو الدعم لارتكاب هذه الانتهاكات فحسب ، بل أيضاً الالتزام بالتعاون من خلال وسائل مشروعة، من أجل وضع حد لهذه الانتهاكات . وعلى سبيل التحديد، يجب على جميع الدول احترام القانون الدولي الإنساني وفرض إعماله.

وبموجب أحكام الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948، إن الدول ملزمة بـ” الوقاية “من الإبادة الجماعية، وكذلك بـ” معاقبة “مرتكبيها والأشخاص الذين يحرضون بشكل مباشر وعلني على ارتكاب هذه الجريمة. وتنطبق هذه الالتزامات على إسرائيل كما تنطبق على جميع الدول الأخرى. وكل فعل من شأنه ان يؤدي إلى المساعدة أو تسهيل أو توفير وسائل ارتكاب الجرائم عن علم مسبق –كما هو الحال بالنسبة لتسليم الأسلحة لإسرائيل –يعتبر مشاركة في ارتكاب هذه الجرائم.

ثانيا : في أهمية الوثيقة و قيمتها المعنوية

يكتسي هذا النداء أهمية لا ينبغي إنكارها، كما يعتبر ذا قيمة معنوية بالغة بالرغم مما قد يثيره من تحفظات ومآخذ أو انتقادات سوف نرجع للبعض منها لاحقا. فعلى خلاف ما تروج له الآلة الإعلامية الداعمة والمساندة للسياسات الإسرائيلية بهدف التعتيم على خطورة الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، يفند هذا النداء الانقسام المزعوم بين المختصين في القانون الدولي حول ما يجري في غزة منذ 08 أكتوبر 2023، ويبرهن على وجود توافق واسع بينهم بشأن ارتكاب إسرائيل للعديد من الجرائم الدولية، كما يدحض حملات التشكيك في الارتكاب الفعلي لإسرائيل لهذه الجرائم أو التقليل من خطورتها. وبذلك يعكس هذا النداء حصول اتفاق بين أكثر من 150 مختصا بارزا في القانون الدولي حول قائمة من المعاينات والخلاصات من أهمها كون إسرائيل ارتكبت ولا زالت ترتكب في غزة والضفة الغربية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأن ثبوت توفر عناصر القصد والنية في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني ما فتئ ينكشف ويتأكد.

وتكمن أهمية هذا النداء من ناحية أخرى، في كونه صدر في سياق التحول الإيجابي والمتصاعد عالميا تجاه حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإنهاء الاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية، وإقامة الفلسطينيين لدولتهم المستقلة، وتزايد التعبير عن المواقف الرسمية للعديد من الدول المؤيدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وبالتالي، لا شك أن النداء الذي أطلقه هؤلاء القانونيون الدوليون يمثل رأيا داعما لحقوق الفلسطينيين في المعركة القانونية على الصعيد الدولي وفي أروقة الأمم المتحدة، يعزز الزخم السياسي المعارض للمشروع الاستيطاني لإسرائيل الرامي الى إحكام السيطرة العسكرية الكاملة على غزة وفرض واقع الاحتلال فيها وفي الضفة الغربية، فضلا عن التأثير المحتمل لهذا الرأي على المسؤولين السياسيين في الدول المنتمية لغويا الى الفضاء " الفرانكوفوني" بما قد يعمق التصدع الذي بدأ يشق معسكر الحلفاء التقليديين لإسرائيل.

ولعل ما يجدر الانتباه اليه أيضا، الأهمية الرمزية والأخلاقية لهذه الوثيقة التي وقعت عليها شخصيات أكاديمية وازنة من جنسيات متعددة، والتي ارتأت ان تخاطب السلطات الحكومية للدول والرأي العام الدولي والمجتمع المدني الدولي والأوساط العلمية والأكاديمية العالمية والمنظمات الدولية والهيئات القضائية الدولية المختصة. ومن هذه الزاوية ،تنطوي هذه الوثيقة على بعد لا يخلو من أهمية يتمثل في إضفاء الشرعية على المواقف المناهضة للسياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وبالتالي إنها تستنهض الضمير العالمي ضد الجرائم المرتكبة في غزة والضفة الغربية ، ذلك أنها تذكّر أن هذه الانتهاكات الخطيرة لا يجب حصرها في نطاق النقاش السياسي فحسب ، بل من اللازم إبراز تكييفها القانوني وتوصيفها الجنائي ووضعها في إطار النظام القانوني للمسؤولية الجنائية الدولية عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية . ومن هذه الناحية، تعزز هذه الوثيقة المواقف التي تطالب بضرورة وضع حد للانتهاكات الإسرائيلية الخطيرة والمتكررة للقانون الدولي الإنساني في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحث جميع الدول على الوفاء بتعهداتها بشأن توفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين والتعاون وفقا للقانون الدولي من أجل إعمال آليات العدالة الجنائية الدولية.

وتتجلى أهمية الوثيقة أيضا في قيمتها الأكاديمية والفقهية. فمن المعلوم ان "الفقه القانوني" بالمعنى الذي يدل على الإنتاج والاجتهاد الفكري لكبار المؤلفين المختصين يكتسب مكانة مهمة بين مصادر القانون الدولي، فهو لا يعتبر مصدرا شكليا أو ثانويا لقواعد هذا القانون فحسب، بل إن المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية تعتبره وسيلة فرعية واحتياطية لتحديد قواعد القانون الدولي التي تعتمد عليها المحكمة وتطبقها للفصل في المنازعات التي ترفع اليها وفقا لأحكام هذا القانون. ومن ثم، إن رأي المؤلفين المشهود لهم بالمعرفة الواسعة في القانون الدولي يساهم في بلورة قواعد هذا القانون وإغنائها وتأويلها، الأمر الذي ينطبق على الوضع في غزة ولا سيما ما يتعلق بالتكييف القانوني للوقائع وتحديد التزامات الدول تجاه الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل من زاوية القانون الدولي.

بالإضافة إلى الأبعاد المعنوية والرمزية والأكاديمية /الفقهية لهذه الوثيقة لا ينبغي في رأيي الاستهانة بأهميتها السياسية والدبلوماسية، ذلك أن النصوص والوثائق المشابهة لهذا النداء، والتي عبر من خلالها الأكاديميون المختصون عن مواقفهم إزاء عدد من النزاعات الدولية السابقة أو التي ما زالت دائرة في الوقت الراهن (رواندا 1994، يوغسلافيا السابقة

1990 ، العراق 2003، غزة 2009 و 2014 ، إقليم تيجري في أثيوبيا 2021 ، أوكرانيا 2022 و 2023 ، غزة 2024 ، ...)،يمكن أن تمثل ضغطا على الحكومات وإحراجها ومطالبتها باتخاذ التدابير التي يفرضها عليها واجب الوفاء بالتزاماتها وفقا للقانون الدولي ، لاسيما تسهيل ودعم التحقيقات التي تباشرها المحكمة الجنائية الدولية بشأن الانتهاكات المرتكبة في عدد من النزاعات الدولية ، وتوقيف تصدير الأسلحة ، وتجميد اتفاقيات التعاون في جميع المجالات وإعمال كافة الوسائل المشروعة الأخرى التي يجيزها ميثاق الأمم المتحدة .

ومن هذه الناحية، يوفر نداء 08 غشت 2025 بخصوص الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة ضد المدنيين في غزة سندا قانونيا قويا للمنظمات غير الحكومية وللمدافعين عن حقوق الإنسان والوكالات الإنسانية التي ما فتئت تكرر المطالبة باتخاذ تدابير ملموسة ورادعة ضد إسرائيل وحماية السكان المدنيين في غزة وكافة الأراضي الفلسطينية المحتلة.

من البديهي أن هذا النداء ليس نصا ملزما وليس قرارا أو أمرا لهيئة قضائية دولية مختصة، كما أنه لا يعتبر قرارا ملزما صادرا عن مجلس الأمن. وتكمن قيمته في قدرته المحتملة على التأثير في الأوساط المستهدفة، وإرساء الحد المطلوب من التوافق الفكري حول مجموعة من التوصيفات القانونية للانتهاكات المرتكبة في دغزة، وإثراء النقاش القانوني بشأنها أمام المحاكم الدولية (محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية)، والسعي الى التأثير على المسؤولين السياسيين والرأي العام. وبالتالي، إنه يتوفر على قيمة معيارية غير مباشرة من خلال مساهمته في بلورة التأويل الصحيح والدقيق لقواعد القانون الدولي ذات الصلة وتعزيز مشروعية المطالب بزجر الانتهاكات الإسرائيلية المرتكبة في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.

ثالثا: في محدودية الوثيقة وجوانب قصورها

بالرغم من قيمة ومغزى هذه الوثيقة التي نحن بصدد تحليلها، فإن قراءتها المتأنية تقود إلى إبداء مجموعة من الملاحظات والتعليقات حول جوانب قصورها، سواء فيما يخص اللغة التي استعملت في صياغتها أو مضمونها وخلاصاتها وتأثيرها.

  • هذا السياق، يبدو أن الموقعين على هذا النص، وبقدر ما حرصوا على حصر وتحديد مجموعة من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان المنسوبة الى إسرائيل خلال هجماتها العسكرية على قطاع غزة منذ 8 أكتوبر 2023، فإنهم جنحوا الى الاستعمال المفرط لصياغات تتحاشى التوصيف الدقيق والتكييف القانوني الواضح لهذه الانتهاكات. كما يتضح أنهم اختاروا التعبير بصيغ شرطية بدل اعتماد التوصيفات القطعية لهذه الانتهاكات. وأخذا منهم بهذا النمط في صياغة نص النداء، فقد اجتنبوا الجزم في ثبوت ارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية، مقتصرين عل التأكيد أن " البعض من الموقعين على النداء"، تناولوا بالتحليل مدى توفر عنصر القصد والنية في التدمير كلّيا أو جزئيا للسكان المدنيين في غزة. لكن الملاحظ أنه في النهاية ظلت صياغة النداء شرطية ومفتوحة.

ولعل تفضيل الموقعين على النداء لهذه الصياغة، يولّد الانطباع بالحضور القوي لهاجس الحفاظ على التوافق وترجيحه على الاعتبارات الأخرى حول مسألة خلافية حادة. وفي مقابل الحرص على التوافق، خصّ النداء بالذكر ارتكاب إسرائيل لانتهاكات مؤكدة لم تعد محل نقاش، مثل الهجمات على السكان المدنيين، والحصار المضروب عليهم لتجويعهم، وتعريضهم للتهجير القسري، والخرق المتكرر لمبادئ الضرورة والتناسبية ....، وهو الأمر الذي يظل دون المعاينة المفروضة لحجم وجسامة الانتهاكات المرصودة في الميدان.

وعلى هذا الأساس، يغدو من المشروع مؤاخذة الموقعين على هذه الوثيقة على حرصهم الشديد على تحقيق "التوازن الأكاديمي «على حساب ما يمليه الواجب الأخلاقي من الفضح المباشر للإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

  • كنا لا نلتمس المبررات لهذا الاحتياط المفرط الذي يلاحظ على صياغة النص، فإن الموضوعية تقتضي مع ذلك التنبيه إلى أن انتماء الموقعين عليه لفضاء أكاديمي عالمي، قد يفرض الحرص على المصداقية والحفاظ على القوة المعنوية للوثيقة، فضلا عن السعي الى توحيد عدد كبير من الموقعين على النص، وهو ما قد يفسر المرونة والاعتدال في صياغته، وعدم القطع في ثبوت جريمة الإبادة الجماعية دون توفر أصحاب النص / النداء على حجج قانونية صلبة.

فالمراهنة على التوافق والتوازن والاعتدال، قد يكون هو من أملى البقاء في "النطاق المأمون " للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، حتى وإن بدا أن النص قد انزاح عن التكييف الصريح لأعمال العدوان والإبادة الجماعية. إن هذه الاعتبارات والمبررات وغيرها مما لا يسمح المقام بالخوض فيها، لا تقلّل بالتأكيد من صواب الانتقاد لإحجام الموقعين على النص عن التسمية الواضحة للإبادة الجماعية. فإذا كان البعض قد يعتبر هذا الخيار نقطة قوة للنص تعكس صرامته ومصداقيته وشرعيته الأكاديمية ،ففي رأيي المتواضع ،إن تحاشي أصحاب النص استعمال التوصيفات القوية للانتهاكات الإسرائيلية مثل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والأبارتيد و جريمة العدوان (مقارنة مع المواقف الصريحة لعدد من المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والخبراء المستقلين الذين سبق لهم أن استعملوا هذه المصطلحات في تكييفهم للانتهاكات الإسرائيلية)،وميلهم الى استخدام انتهاكات القانون الدولي الإنساني و حقوق الإنسان ، يمثل مظهر ضعف وقصور في النص ،كما ان الاحتياط والحذر المفرط الذي يلاحظ على النص يدفعنا الى التساؤل عمّا اذا كان هذا الالتزام الأخلاقي في حده الأدنى يعبر عن إرادة مراعاة بعض الحساسيات السياسية وعدم إثارة استيائها ( مقارنة بالقرار الذي أصدرته الجمعية الدولية للباحثين في الإبادة الجماعية( IAGS ((في فاتح شتنبر 2025 ،صرحت فيه باستيفاء الانتهاكات الإسرائيلية لمعايير التعريف القانوني للإبادة الجماعية طبقا لاتفاقية 1948 بالإضافة الى الملاحظات السابقة ،سلّطت الوثيقة الضوء على الانتهاكات المرتكبة من طرف إسرائيل مع ربطها بالانتهاكات المنسوبة إلى حركة حماس تحديدا والفصائل الفلسطينية المسلحة الأخرى. وفي هذا التوازي والاقتران بين الأطراف والانتهاكات المرتكبة ما يومئ الى إضفاء قدر من النسبية على الخطورة الجسيمة لهذه الانتهاكات، وارتكابها بصورة منهجية وعلى نطاق واسع من طرف دولة احتلال تملك من وسائل القوة العسكرية ما لا تضاهيها في شيء قوة الفصائل الفلسطينية.

يمكن أن نعيب أيضا على هذه الوثيقة عدم تقديم الموقعين عليها لاقتراحات ملموسة وناجعة، حيث أنها تعتبر نصا تصريحيا بالأساس يكتفي بالتذكير بالقانون الواجب التطبيق دون اقتراح للتدابير العملية والعاجلة التي يفرض الوضع اتخاذها، مثل العقوبات الزجرية المحددة والإجراءات القضائية اللازمة أمام المحكمة الجنائية الدولية وتفعيل الوسائل التي ينص عليها ميثاق الأمم المتحدة، مما يجعل هذا النص مجرد عريضة للمناشدة المبدئية تعوزها شروط وعناصر التأثير الفعلي.

ويلاحظ أيضا أن النص بقدر ما ركز على القانون الدولي فإنه لم يستحضر إطلاقا السياق السياسي للنزاع، وغض الطرف عن إدماج أسبابه البنيوية والأصلية، لا سيما الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية الذي يستمر منذ عقود ضدا على الشرعية الدولية، وسياسات وممارسات الاستيطان وتبعاتها التي حسمت محكمة العدل الدولية في طابعها غير القانوني ، وفرض الحصار على سكان غزة ...فتجاهل الوثيقة لهذه الأسباب العميقة يكرس بلا شك القطيعة بين القانون الدولي والواقع السياسي ويعمق الفجوة بين قواعد هذا القانون و متطلبات احترامها وحمايتها وإعمالها بخصوص الانتهاكات المرتكبة في غزة والضفة الغربية .

ختاما يمكن الخلوص من القراءة "النقدية" المركزة للنداء الذي وجهه في 08 غشت 2025 عدد مهم من الأكاديميين المختصين في القانون الدولي بشأن الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها إسرائيل في غزة والضفة الغربية، إلى أنه نص طغى عليه هاجس التوازن والبحث عن توافق صعب لإبعاد شبهة الانحياز ،إلى الحد الذي أدى إلى صياغته باحتياط واحتراز مفرط، كما يعاب عليه إحجامه عن التكييف المباشر لانتهاكات إسرائيل بتوصيفات قوية ودقيقة ،وعدم اقتراحه للتدابير العملية والناجعة الواجب اتخاذها لوضع حد للانتهاكات التي عاينها الموقعون عليه. بيد أن هذا النداء يعتبر رغم ما يثيره من مآخذ أو انتقادات وتأثيره المحدود، تعبيرا عن رأي يندرج ضمن المواقف التي تعزز الضغط المعنوي على الدول والمنظمات الدولية والرأي العام.

 

 

د/ محمد العمارتي

أستاذ القانون الدولي (سابقا) بجامعة محمد الأول – وجدة

02 شتنبر 2025