Tuesday 2 September 2025
كتاب الرأي

سعيد التمسماني: المغرب يعلّم العطشَ فنَّ الإدارة.. كيف نجحت الاستراتيجية المائية في تحويل الأزمة إلى ورشة دولة

سعيد التمسماني: المغرب يعلّم العطشَ فنَّ الإدارة.. كيف نجحت الاستراتيجية المائية في تحويل الأزمة إلى ورشة دولة سعيد التمسماني
في بلدٍ يجري فيه تاريخُ التنمية حيث تجري المياه، اختار المغرب ألّا ينتظر المطر. خلال عقدٍ من الجفاف المتكرر، تحوّلت السياسة المائية من “تدبير ندرة” إلى هندسة أمنٍ مائي تمزج بين السدود والربط بين الأحواض، وتحلية مياه البحر، وإعادة استخدام المياه العادمة، وترشيد الطلب. النتيجة: مسارٌ متصاعد نحو المرونة، تُقاس خطواته بالأرقام، وتُثبت جدواه المشاريع على الأرض.
 
1) من “رؤية” إلى “خطة دولة”
رتّب المغرب أولوياته في وثيقتين تؤطران كل التدخلات: المخطط الوطني للماء 2020–2050 بميزانية تقارب 380 مليار درهم، وبرنامج التزويد بالماء الصالح للشرب ومياه السقي 2020–2027 بنحو 115 مليار درهم. ليست مجرد أرقام؛ بل التزامٌ سياسي بإعادة بناء التوازن الهش بين العرض والطلب في مناخ أكثر جفافاً. 
 
2) “طريق الماء”: الربط بين الأحواض لإنقاذ الشريط الأطلسي
حين هبط منسوب سدود الوسط والشمال الغربي إلى مستوياتٍ مقلقة في 2023، تحرّك المغرب بسرعة بإطلاق ما صار يُعرف شعبياً بـ**“طريق الماء”**: ربط أحواض سبو–بورقراق–أم الربيع عبر قنوات وأنفاق تمتد لمئات الكيلومترات، لضخ فائض الشمال إلى محور الرباط–الدار البيضاء ثم لاحقاً إلى دكالة والرحامنة. المشروع، الذي دشّن مرحلته الأولى في أغسطس/آب 2023، غيّر معادلة الإمداد الحضري في ظرفٍ قياسي. 
 
3) تحلية البحر… من حل إسعافي إلى رافعة هيكلية
تنتقل البلاد من “تحلية للمدن الساحلية عند الضرورة” إلى منظومة إنتاج قاعدية تُفرج حصص السدود للداخل الفلاحي. اليوم تعمل 17 محطة وتحليةٌ إضافية قيد الإنجاز، على أن يرتفع الإجمالي مع مشاريع جديدة إلى قدرة سنوية تناهز 1.7 مليار م³ بحلول 2030، وفق وزارة الماء. بهذا، يصبح الساحل أقل ارتهاناً للتقلبات المطرية، ويُعاد توجيه مياه السدود لتموين الواحات والسهول الداخلية. 
 
الدار البيضاء: أكبر محطة في إفريقيا بطاقة المستقبل
ملف تحلية الدار البيضاء انتقل إلى التمويل والتنفيذ بعقد تشغيل وصيانة طويل الأمد؛ طاقة 300 مليون م³ سنوياً تكفي لنحو 7.5 ملايين نسمة، مع ربطٍ مباشر بالطاقة المتجددة (مشروع ريحي مخصص)، ما يخفض الكلفة والكربون معاً ويمنح المشروع قابلية الاستدامة المالية. 
 
أكادير: رفع الطاقة لتأمين الشرب والري
بالتوازي، رفعت المملكة طاقة محطة أكادير لتغطية حاجيات الشرب والفلاحة في سوس، في نموذجٍ يزاوج بين عقود الشراء العمومي والشراكات مع الفاعلين التقنيين. 
 
4) الماء لا يُهدر: إعادة الاستعمال تنتقل إلى السرعة القصوى
تتبنى المملكة حزمة تشريعية (قانون 36–15) ومعايير نوعية لإعادة استعمال المياه العادمة المعالجة في السقي الحضري والفضاءات الخضراء والصناعة والفلاحة عند استيفاء الشروط. الرهان المُعلن: رفع المعالجة إلى 80% وتقليص التلوث 60%، والوصول إلى 300 مليون م³ سنوياً من المياه المعاد استعمالها بحلول 2030، مع شبكة متنامية من محطات المعالجة والرفع من المعالجة الثلاثية حيث يلزم. هذا مسارٌ يُنقذ المدن من هدر ماء ثمين، ويُخفّف الضغط على الموارد العذبة. 
 
5) لماذا تُعَدّ هذه الاستراتيجية ناجحة؟
تنويع مصادر الإمداد: لم يعد السد هو “الخطة أ”. صار جزءاً من مزيجٍ مرن تُكمله التحلية والربط وإعادة الاستعمال، في توزيعٍ ذكي للمخاطر المناخية.  
زمنُ الإنجاز: تسريع “طريق الماء” منذ 2023 برهن قدرةً تنفيذية في ذروة الجفاف، وغيّر سريعاً ميزان الإمداد للعاصمة الاقتصادية.  
كفاءة مالية–طاقية: ربط التحلية بالرياح والشمس (كما في الدار البيضاء وأكادير) يُقلّص كلفة المتر المكعب ويحدّ البصمة الكربونية، ويؤمّن أسعاراً مستقرة للمستهلك.  
حوكمة متدرجة: خطتان وطنيتان بأفقين مختلفين (2027 و2050) تُترجمان السياسة إلى محفظة مشاريع قابلة للتمويل والمتابعة، مع إشراكٍ أوسع للقطاع الخاص.  
 
6) أين تكمن الثغرات التي ينبغي سدّها؟
تلاقي سياسات الماء والفلاحة: ما زالت كلفة التحلية تحدّ من توجيهها لمحاصيلٍ كثيفة الماء ومنخفضة القيمة؛ لذلك تُفضَّل لتموين المدن وتحرير حصص السدود للداخل وللسلاسل ذات القيمة العالية. المطلوب ضبطٌ أدقّ لخرائط المحاصيل حسب الندرة والكلفة.  
الطلب الحضري: النجاح البنيوي يحتاج ترشيداً دائماً في المدن (تخفيض الفواقد، عدّادات ذكية، تسعير تدريجي يحمي الهشّين)، حتى لا تبتلع زيادةُ الطلب مكاسبَ العرض. (استنتاج تحليلي مستند إلى الوثائق المؤطرة).  
تعميق إعادة الاستعمال: بلوغ 300 مليون م³ يتطلب تسريع الإغلاق المالي لمحطاتٍ قيد البناء، وتوحيد معايير الجودة والتتبع الرقمي من المنبع إلى المستهلك النهائي.  
 
7) الدرس المغربي… وصفةٌ قابلة للتصدير
في منطقةٍ متوسطية تتقاسم الجفاف وتذبذب الأمطار، قدّم المغرب نموذجاً عملياً: ممرات مائية عابرة للأحواض تؤمّن المدن، تحليةٌ متجددة الطاقة تُثبت جدواها الاقتصادية، واقتصاد دائري للماء يعيد تدوير كل قطرة. ليست “معجزة”؛ إنها حصيلة تخطيط طويل، وقرارات سريعة، وتمويلات ذكية.
 
الخلاصة: نجحت الاستراتيجية المغربية لأنها عالجت “مشكلة الماء” كقضية أمن قومي وتنمية في آنٍ واحد. ومع استمرار الاستثمار في الربط والتحلية وإعادة الاستعمال، وتحديث أدوات إدارة الطلب، يُرجَّح أن يتحول مسار “التكيّف مع الجفاف” إلى ميزة تنافسية تدعم السلم الاجتماعي، وتحرّر طاقاتٍ جديدة في الفلاحة والصناعة والسياحة.