Thursday 31 July 2025
سياسة

26 سنة من حكم محمد السادس.. المملكة المتجددة

26 سنة من حكم محمد السادس.. المملكة المتجددة الملك محمد السادس
منذ‭ ‬اعتلائه‭ ‬العرش‭ ‬في‭ ‬30‭ ‬يوليوز‭ ‬1999،‭ ‬أدخل‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬بالمغرب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬إرنستو‭ ‬ساباتو‭ ‬«إثبات‭ ‬قبضة‭ ‬اليد‭ ‬المشدودة‭ ‬بشكل‭ ‬واثق»،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب‭ ‬المعاصر،‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬التحديث‭ ‬التدريجي‭ ‬لمقومات‭ ‬الدولة،‭ ‬وتعزيز‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية،‭ ‬وإعادة‭ ‬رسم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والمجتمع‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬التعاقد‭ ‬الوطني،‭ ‬بل‭ ‬وضع‭ ‬خطاطة‭ ‬«ثورية»‭ ‬للشراكات‭ ‬الدولية‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬دعم‭ ‬قضايا‭ ‬البلاد‭ ‬الحيوية،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬قضية‭ ‬الصحراء‭. ‬

لقد‭ ‬أكد‭ ‬محمد‭ ‬السادس،‭ ‬طيلة‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬أن‭ ‬عهده‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬امتداد‭ ‬شكلي‭ ‬لسابقه،‭ ‬بل‭ ‬لحظة‭ ‬تحول‭ ‬حقيقي‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬الذي‭ ‬يحمله،‭ ‬تولدت‭ ‬عنها‭ ‬سردية‭ ‬جديدة‭ ‬للدولة‭ ‬المغربية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات،‭ ‬لا‭ ‬تستند‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬الموروث‭ ‬الملكي‭ ‬«دولة‭ ‬المخزن»،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬الخبير‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬الفرنسي،‭ ‬كورنيليوس‭ ‬كاستورياديس،‭ ‬«الخيال‭ ‬السياسي‭ ‬الخلاق»،‭ ‬أي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تصور‭ ‬دولة‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬الممكن،‭ ‬بل‭ ‬تصنعه؛‭ ‬فـ‭ ‬«المشروعية‭ ‬لا‭ ‬تُمنح،‭ ‬بل‭ ‬تُكتسب‭ ‬بالتجدد»،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬هابرماس،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الانتقال‭ ‬السياسي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬امتداد‭ ‬لشرعية‭ ‬متوارثة‭ ‬عتيقة،‭ ‬بل‭ ‬تدشينًا‭ ‬لرؤية‭ ‬مغايرة‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬الحكم،‭ ‬وفي‭ ‬وظيفة‭ ‬الدولة،‭ ‬وفي‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬المواطن‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬تعاقدي‭. ‬

إن‭ ‬المشروع‭ ‬الملكي،‭ ‬كما‭ ‬تأكد‭ ‬طيلة‭ ‬حكم‭ ‬محمد‭ ‬السادس،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬تراكم‭ ‬إجراءات‭ ‬وتدابير،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬بناء‭ ‬لنسق‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬المعنى،‭ ‬تتقاطع‭ ‬فيه‭ ‬الدولة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والدولة‭ ‬الحقوقية،‭ ‬والدولة‭ ‬الإستراتيجية،‭ ‬كأوجه‭ ‬مختلفة‭ ‬لوحدة‭ ‬مركزية:‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬تاريخه‭ ‬القادم‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬القوة‭ ‬الصلبة‭ ‬وحدها،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬الشرعية‭ ‬الرمزية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬مستمرة‭ ‬على‭ ‬التحديث‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الثوابت‭ ‬«التغيير‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الاستمرارية»،‭ ‬وعلى‭ ‬الجرأة‭ ‬في‭ ‬ربط‭ ‬الهوية‭ ‬بالفعل،‭ ‬وعلى‭ ‬الذكاء‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬المؤسسة‭ ‬الملكية‭ ‬أفقا‭ ‬للمعنى‭ ‬الوطني‭ ‬الشامل،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬مصدرا‭ ‬للقرار‭ ‬السياسي‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬التجربة‭ ‬الحالية‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الرهان‭ ‬الحقوقي،‭ ‬مثلا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬منفصلا‭ ‬عن‭ ‬رهانات‭ ‬السيادة‭. ‬فقد‭ ‬أعاد‭ ‬المغرب،‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬محمد‭ ‬السادس،‭ ‬تشكيل‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬غير‭ ‬تقليدي‭. ‬فالصحراء‭ ‬المغربية‭ ‬لم‭ ‬تقدم‭ ‬فقط‭ ‬كقضية‭ ‬وحدة‭ ‬ترابية،‭ ‬بل‭ ‬كمجال‭ ‬للتنمية‭ ‬والعدالة‭ ‬الترابية،‭ ‬والاستثمار‭ ‬الجهوي،‭ ‬وربط‭ ‬الشمال‭ ‬بالجنوب،‭ ‬والداخل‭ ‬بالخارج،‭ ‬والأمن‭ ‬بالاقتصاد،‭ ‬أي‭ ‬سيادة‭ ‬لا‭ ‬تمارس‭ ‬فقط‭ ‬بالمرافعة‭ ‬الدبلوماسية،‭ ‬إفريقيا‭ ‬ودوليا؛‭ ‬بل‭ ‬بالمبادرة‭ ‬الميدانية،‭ ‬وبفتح‭ ‬الأوراش‭ ‬الكبرى،‭ ‬وبجعل‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬مقترحا‭ ‬جديا‭ ‬وواقعيا،‭ ‬يحظى‭ ‬اليوم‭ ‬بتأييد‭ ‬دولي‭ ‬متصاعد‭ ‬(120‭ ‬دولة‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬193‭ ‬دولة‭ ‬تدعم‭ ‬مقترح‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬المغربي)‭. ‬

وتبقى‭ ‬لحظة‭ ‬الاشتغال‭ ‬على‭ ‬«التحول‭ ‬المؤسساتي»‭ ‬كما‭ ‬ترجم‭ ‬ذلك‭ ‬دستور‭ ‬2011،‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬نتاجا‭ ‬لحراك‭ ‬اجتماعي‭ ‬ومطالب‭ ‬ديمقراطية‭ ‬«حركة‭ ‬20‭ ‬فبراير»،‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬الملكية‭ ‬في‭ ‬المغرب‭. ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬مجرد‭ ‬إصلاح‭ ‬تقني‭ ‬للنصوص‭ ‬أو‭ ‬تجويدا‭ ‬لها،‭ ‬بل‭ ‬انتقالا‭ ‬رمزيا‭ ‬نحو‭ ‬«الدولة‭ ‬التشاركية»‭ ‬التي‭ ‬تتوسع،‭ ‬في‭ ‬نطاقها،‭ ‬قنوات‭ ‬التعبير‭ ‬العمومي،‭ ‬وتعاد‭ ‬هيكلة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والمجتمع‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬دستورية‭ ‬وقانونية‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تُرجم‭ ‬في‭ ‬سياسات‭ ‬التمكين‭ ‬المؤسساتي‭ ‬للجهات،‭ ‬وتوسيع‭ ‬اختصاصات‭ ‬المجالس‭ ‬الترابية،‭ ‬واعتماد‭ ‬النموذج‭ ‬التنموي‭ ‬الجديد،‭ ‬وضمان‭ ‬استقلال‭ ‬القضاء،‭ ‬وتقوية‭ ‬موقع‭ ‬البرلمان‭.. ‬إلخ‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬تجربة‭ ‬المغرب‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬قيادة‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬الإنجاز‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬يسهر‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬طريقة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الإنجاز:‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الإصلاحات‭ ‬مجرد‭ ‬استجابات‭ ‬ظرفية‭ ‬أو‭ ‬مرحلية،‭ ‬بل‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬شمولية‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬ككائن‭ ‬حي‭ ‬يتطور‭ ‬وفق‭ ‬حاجات‭ ‬وديناميكيات‭ ‬ضاغطة،‭ ‬يفرضها‭ ‬السياق‭ ‬الدولي‭ ‬وتطورات‭ ‬العصر‭. ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬تبلورت‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬الملك‭ ‬واختياراته،‭ ‬إذ‭ ‬أصبحت‭ ‬قضية‭ ‬الصحراء،‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬التوجه،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬قضية‭ ‬وحدة‭ ‬ترابية،‭ ‬بل‭ ‬مجالا‭ ‬عمليا‭ ‬لإثبات‭ ‬الرؤية‭ ‬الجديدة‭ ‬للدولة‭. ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬"مغربية‭ ‬الصحراء"‭ ‬حبيس‭ ‬البلاغات‭ ‬أو‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الانفعالية،‭ ‬بل‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬متكامل‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التنمية‭ ‬الميدانية،‭ ‬وعلى‭ ‬توسيع‭ ‬نطاق‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬كمقترح‭ ‬استراتيجي،‭ ‬وعلى‭ ‬دبلوماسية‭ ‬ملكية‭ ‬هادئة،‭ ‬لكنها‭ ‬فعالة،‭ ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬اختراقات‭ ‬دولية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬الاعتراف‭ ‬بمغربية‭ ‬الصحراء،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬مثلث‭ ‬التكتل‭ ‬الذي‭ ‬شكله‭ ‬العسكر‭ ‬الجزائري‭ ‬بأموال‭ ‬الغاز‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬وأوروبا‭ ‬ودول‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭.‬

هذا‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الرمزي‭ ‬والمادي،‭ ‬وبين‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬التعاون‭ ‬المشترك‭ ‬والاستثمار‭ ‬التشاركي،‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬المفاتيح‭ ‬الأساسية‭ ‬لفهم‭ ‬تحولات‭ ‬المغرب‭ ‬تحت‭ ‬قيادة‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭. ‬فإفريقيا،‭ ‬الآن،‭  ‬تشكل‭ ‬امتدادا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬للمغرب‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والدينية،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشاريع‭ ‬كبرى،‭ ‬مثل‭ ‬خط‭ ‬أنابيب‭ ‬الغاز‭ ‬(نيحيريا-المغرب)،‭ ‬وتكوين‭ ‬الأئمة‭ ‬والعلماء‭ ‬الأفارقة،‭ ‬والاستثمار‭ ‬البنكي،‭ ‬ومشروع‭ ‬بناء‭ ‬محور‭ ‬إستراتيجي‭ ‬أطلسي‭ ‬إفريقي‭ ‬(الواجهة‭ ‬الأطلسية)،‭ ‬ومشاريع‭ ‬إنتاج‭ ‬وتوزيع‭ ‬الأسمدة‭ ‬الفوسفاطية‭ ‬الموجهة‭ ‬للفلاحة‭ ‬الإفريقية‭.. ‬إلخ‭. ‬

وفي‭ ‬خلفية‭ ‬هذا‭ ‬الربط‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬عملت‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الملكية‭ ‬بذكاء‭ ‬هادئ‭ ‬لبناء‭ ‬موقع‭ ‬دولي‭ ‬متقدم‭ ‬للمغرب‭. ‬من‭ ‬إفريقيا‭ ‬جنوب‭ ‬الصحراء‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬ومن‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين،‭ ‬إذ‭ ‬استطاع‭ ‬المغرب‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬فاعل‭ ‬استراتيجي،‭ ‬بفضل‭ ‬استثمار‭ ‬ذكي‭ ‬لتاريخه‭ ‬الجيو-سياسي،‭ ‬ولقيمه‭ ‬الروحية،‭ ‬ولموقعه‭ ‬كبوابة‭ ‬بين‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب‭. ‬

ويبرز‭ ‬هذا‭ ‬الربط‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬فلسقة‭ ‬«الدولة‭ ‬الاجتماعية»،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المقصود‭ ‬فقط‭ ‬إعادة‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة،‭ ‬بل‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للكرامة‭ ‬كمفهوم‭ ‬سياسي‭ ‬واجتماعي‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تعميم‭ ‬الحماية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وإصلاح‭ ‬منظومتي‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬«ما‭ ‬زال‭ ‬هناك‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير‭ ‬للقيام‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الطموح‭ ‬الملكي»،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬إطلاق‭ ‬ورش‭ ‬مكافحة‭ ‬الهشاشة،‭ ‬كلها‭ ‬إجراءات‭ ‬تعيد‭ ‬بناء‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬متينة،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬المواطن‭ ‬مجرد‭ ‬مستفيد‭ ‬من‭ ‬السلطة،‭ ‬بل‭ ‬شريكا‭ ‬فيها،‭ ‬وحيث‭ ‬تقاس‭ ‬شرعية‭ ‬الدولة‭ ‬بقدرتها‭ ‬على‭ ‬التمكين‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الرعاية‭ ‬فقط،‭ ‬وهذا‭ ‬ورش‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬مفتوحا‭ ‬وتنتظره‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التحديات‭ ‬بحكم‭ ‬البنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المطلوب‭ ‬هو‭ ‬مواطن‭ ‬مشارك‭ ‬في‭ ‬التنمية،‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬مستهلك‭ ‬لإجراءات‭ ‬اقتصادية‭ ‬وقرارات‭ ‬سياسية‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬عليه‭ ‬بالنفع‭ ‬المباشر‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬النموذج‭ ‬التنموي‭ ‬الجديد،‭ ‬بحق،‭ ‬تمرينا‭ ‬فكريا‭ ‬جماعيا،‭ ‬شاركت‭ ‬فيه‭ ‬أحزاب‭ ‬ونقابات‭ ‬وجمعيات،‭ ‬لبلورة‭ ‬تصور‭ ‬مغربي‭ ‬خاص‭ ‬للعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬حيث‭ ‬تتفاعل‭ ‬فيه‭ ‬أبعاد‭ ‬الكفاءة‭ ‬والإنصاف‭ ‬والابتكار،‭ ‬وينظر‭ ‬إلى‭ ‬التنمية‭ ‬لا‭ ‬بوصفها‭ ‬ملاحقة‭ ‬مستنرة‭ ‬للنمو‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬بل‭ ‬بوصفهت‭ ‬تحولا‭ ‬في‭ ‬أنماط‭ ‬إنتاج‭ ‬القيمة‭ ‬والمعنى،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬دعم‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬للمجال‭ ‬الاستثماري،‭ ‬عبر‭ ‬مشاريع‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬وتيسير‭ ‬مناخ‭ ‬الأعمال،‭ ‬وجذب‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال،‭ ‬وتحويل‭ ‬المغرب‭ ‬إلى‭ ‬منصة‭ ‬صناعية‭ ‬وطاقية‭ ‬واعدة،‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الجغرافيا‭ ‬حليفا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬للتنمية‭.‬

موازاة‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬نما‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المغربي‭ ‬بثقة،‭ ‬رغم‭ ‬الإكراهات‭ ‬العالمية‭ ‬«جائحة‭ ‬كوفيد»‭ ‬ارتفاع‭ ‬الفاتورة‭ ‬الطاقية)،‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬جذب‭ ‬استثماري‭ ‬حقيقي،‭ ‬بفضل‭ ‬مشاريع‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬العملاقة،‭ ‬ومناخ‭ ‬الأعمال‭ ‬المحفز،‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬الطاقات‭ ‬المتجددة،‭ ‬والرقمنة،‭ ‬والصناعات‭ ‬الدفاعية،‭ ‬وصناعة‭ ‬السيارات‭ ‬والطيران،‭ ‬وصناعات‭ ‬المستقبل‭ ‬كالذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬والهيدروجين‭ ‬الأخضر‭. ‬

ولأن‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬بدون‭ ‬رمزيتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والتاريخية،‭ ‬فقد‭ ‬عمل‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس،‭ ‬بشكل‭ ‬متدرج‭ ‬وعميق،‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬سردية‭ ‬الوطن:‭ ‬حفظ‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وتثمين‭ ‬التراث،‭ ‬واسترجاع‭ ‬الأرشيف‭ ‬الوطني،‭ ‬وإحياء‭ ‬الصناعة‭ ‬التقليدية،‭ ‬وتأهيل‭ ‬المدن‭ ‬العتيقة،‭ ‬وإدراج‭ ‬الثقافة‭ ‬كأداة‭ ‬للتنمية‭ ‬وليس‭ ‬للزينة‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬أصبح‭ ‬التاريخ‭ ‬نفسه‭ ‬مشروعًا‭ ‬تنمويًا،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬عامل‭ ‬وحدة‭ ‬ورافعة‭ ‬تحديث،‭ ‬تُصان‭ ‬عبر‭ ‬حماية‭ ‬التعدد‭ ‬الثقافي‭ ‬والديني،‭ ‬وتقوية‭ ‬الحضور‭ ‬الأمازيغي‭ ‬والحساني‭ ‬واليهودي‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي،‭ ‬ضمن‭ ‬نموذج‭ ‬مغربي‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬التنوع‭.‬

على‭ ‬المستوى‭ ‬العسكري‭ ‬والأمني،‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬الجيش‭ ‬خارج‭ ‬هذا‭ ‬المسار،‭ ‬إذ‭ ‬عرف‭ ‬الجيش‭ ‬المغربي‭ ‬تحديثا‭ ‬عميقا،‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬اقتناء‭ ‬العتاد،‭ ‬بل‭ ‬شمل‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬عقيدته‭ ‬الدفاعية،‭ ‬وجعله‭ ‬مواكبا‭ ‬للتحولات‭ ‬الأمنية‭ ‬والتكنولوجية،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الأمن‭ ‬والدفاع‭ ‬يبنيان‭ ‬الآن‭ ‬بالجاهزية‭ ‬السيادية،‭ ‬وبالتكامل‭ ‬المؤسسي،‭ ‬وبالذكاء‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬المغرب‭ ‬يُحسب‭ ‬له‭ ‬حسابه‭ ‬إقليميًا،‭ ‬ويُنظر‭ ‬إليه‭ ‬كشريك‭ ‬موثوق‭ ‬في‭ ‬الأمن‭ ‬والسلم‭. ‬كما‭ ‬أصبح‭ ‬قطب‭ ‬الأمن،‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬ركائز‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة‭ ‬للمغرب‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي‭ ‬بفضل‭ ‬احترافية‭ ‬الجهاز‭ ‬الأمني‭ ‬المغربي‭ ‬وإشراقاته‭ ‬في‭ ‬مكافحة‭ ‬الإرهاب‭ ‬وتجفيف‭ ‬منابع‭ ‬التطرف‭ ‬بشكل‭ ‬جعل‭ ‬معظم‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬تخطب‭ ‬ود‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭.‬

لقد‭ ‬استطاع‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬أن‭ ‬يدمغ‭ ‬المغرب‭ ‬بطابعه‭ ‬المميز‭ ‬والخاص‭. ‬إذ‭ ‬تميز‭ ‬عهده‭ ‬بالانتقال‭ ‬من‭ ‬الانفعال‭ ‬إلى‭ ‬الفاعلية،‭ ‬ومن‭ ‬الانتظار‭ ‬إلى‭ ‬المبادرة،‭ ‬مما‭ ‬انعكس‭ ‬إيجابا‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬المغرب‭ ‬كدولة‭ ‬تنعم‭ ‬بالتوازن‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاستقرار‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬بل‭ ‬كدولة‭ ‬موثوقة‭ ‬وذات‭ ‬مصداقية‭ ‬ولها‭ ‬عقلها‭ ‬السياسي‭ ‬اليقظ،‭ ‬ولها‭ ‬رهاناتها‭ ‬التي‭ ‬تنتظر‭ ‬التحقق‭.
 
تفاصيل أوفي تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"