منذ اعتلائه العرش في 30 يوليوز 1999، أدخل الملك محمد السادس بالمغرب في ما يسميه إرنستو ساباتو «إثبات قبضة اليد المشدودة بشكل واثق»، وهي مرحلة جديدة من تاريخ المغرب المعاصر، قائمة على التحديث التدريجي لمقومات الدولة، وتعزيز السيادة الوطنية، وإعادة رسم العلاقة بين السلطة والمجتمع في أفق جديد من التعاقد الوطني، بل وضع خطاطة «ثورية» للشراكات الدولية على أرضية دعم قضايا البلاد الحيوية، وعلى رأسها قضية الصحراء.
لقد أكد محمد السادس، طيلة ما يزيد عن ربع قرن، أن عهده ليس مجرد امتداد شكلي لسابقه، بل لحظة تحول حقيقي في المشروع الذي يحمله، تولدت عنها سردية جديدة للدولة المغربية في مختلف المستويات، لا تستند فقط إلى الموروث الملكي «دولة المخزن»، بل إلى ما يسميه الخبير الاجتماعي والاقتصادي الفرنسي، كورنيليوس كاستورياديس، «الخيال السياسي الخلاق»، أي القدرة على تصور دولة لا تقف عند حدود الممكن، بل تصنعه؛ فـ «المشروعية لا تُمنح، بل تُكتسب بالتجدد»، كما قال هابرماس، كما أن الانتقال السياسي لم يكن مجرد امتداد لشرعية متوارثة عتيقة، بل تدشينًا لرؤية مغايرة في معنى الحكم، وفي وظيفة الدولة، وفي العلاقة مع المواطن على أساس تعاقدي.
إن المشروع الملكي، كما تأكد طيلة حكم محمد السادس، لم يكن مجرد تراكم إجراءات وتدابير، بل هو بناء لنسق جديد من المعنى، تتقاطع فيه الدولة الاجتماعية، والدولة الحقوقية، والدولة الإستراتيجية، كأوجه مختلفة لوحدة مركزية: أن المغرب اختار أن يبني تاريخه القادم لا على القوة الصلبة وحدها، ولا على الشرعية الرمزية فقط، بل على قدرة مستمرة على التحديث من داخل الثوابت «التغيير في ظل الاستمرارية»، وعلى الجرأة في ربط الهوية بالفعل، وعلى الذكاء في جعل المؤسسة الملكية أفقا للمعنى الوطني الشامل، لا فقط مصدرا للقرار السياسي.
إن ما يميز التجربة الحالية هو أن الرهان الحقوقي، مثلا، لم يكن منفصلا عن رهانات السيادة. فقد أعاد المغرب، في عهد محمد السادس، تشكيل هذا المفهوم على نحو غير تقليدي. فالصحراء المغربية لم تقدم فقط كقضية وحدة ترابية، بل كمجال للتنمية والعدالة الترابية، والاستثمار الجهوي، وربط الشمال بالجنوب، والداخل بالخارج، والأمن بالاقتصاد، أي سيادة لا تمارس فقط بالمرافعة الدبلوماسية، إفريقيا ودوليا؛ بل بالمبادرة الميدانية، وبفتح الأوراش الكبرى، وبجعل الحكم الذاتي مقترحا جديا وواقعيا، يحظى اليوم بتأييد دولي متصاعد (120 دولة من أصل 193 دولة تدعم مقترح الحكم الذاتي المغربي).
وتبقى لحظة الاشتغال على «التحول المؤسساتي» كما ترجم ذلك دستور 2011، الذي جاء نتاجا لحراك اجتماعي ومطالب ديمقراطية «حركة 20 فبراير»، من أقوى اللحظات التي شهدتها الملكية في المغرب. فلم يكن هذا التحول مجرد إصلاح تقني للنصوص أو تجويدا لها، بل انتقالا رمزيا نحو «الدولة التشاركية» التي تتوسع، في نطاقها، قنوات التعبير العمومي، وتعاد هيكلة العلاقة بين السلطة والمجتمع على أسس دستورية وقانونية. وهو ما تُرجم في سياسات التمكين المؤسساتي للجهات، وتوسيع اختصاصات المجالس الترابية، واعتماد النموذج التنموي الجديد، وضمان استقلال القضاء، وتقوية موقع البرلمان.. إلخ.
إن ما يميز تجربة المغرب الحديثة في ظل قيادة الملك محمد السادس، ليس فقط الإنجاز في ذاته أو من يسهر عليه، بل طريقة التفكير في الإنجاز: إذ لم تكن الإصلاحات مجرد استجابات ظرفية أو مرحلية، بل تعبيرا عن رؤية شمولية تنظر إلى الدولة ككائن حي يتطور وفق حاجات وديناميكيات ضاغطة، يفرضها السياق الدولي وتطورات العصر. هذه الرؤية تبلورت بوضوح في مواقف الملك واختياراته، إذ أصبحت قضية الصحراء، ضمن هذا التوجه، أكثر من مجرد قضية وحدة ترابية، بل مجالا عمليا لإثبات الرؤية الجديدة للدولة. فلم يعد الدفاع عن "مغربية الصحراء" حبيس البلاغات أو الدبلوماسية الانفعالية، بل تحول إلى مشروع متكامل يقوم على التنمية الميدانية، وعلى توسيع نطاق الحكم الذاتي كمقترح استراتيجي، وعلى دبلوماسية ملكية هادئة، لكنها فعالة، أفضت إلى اختراقات دولية غير مسبوقة في الاعتراف بمغربية الصحراء، بما فيها مثلث التكتل الذي شكله العسكر الجزائري بأموال الغاز في إفريقيا وأوروبا ودول أمريكا اللاتينية.
هذا الربط بين الرمزي والمادي، وبين السياسي والاقتصادي، على أساس التعاون المشترك والاستثمار التشاركي، هو أحد المفاتيح الأساسية لفهم تحولات المغرب تحت قيادة محمد السادس. فإفريقيا، الآن، تشكل امتدادا استراتيجيا للمغرب في رؤيته السياسية والاقتصادية والدينية، وذلك من خلال مشاريع كبرى، مثل خط أنابيب الغاز (نيحيريا-المغرب)، وتكوين الأئمة والعلماء الأفارقة، والاستثمار البنكي، ومشروع بناء محور إستراتيجي أطلسي إفريقي (الواجهة الأطلسية)، ومشاريع إنتاج وتوزيع الأسمدة الفوسفاطية الموجهة للفلاحة الإفريقية.. إلخ.
وفي خلفية هذا الربط الاستراتيجي، عملت الدبلوماسية الملكية بذكاء هادئ لبناء موقع دولي متقدم للمغرب. من إفريقيا جنوب الصحراء إلى الشرق الأوسط، ومن الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة والصين، إذ استطاع المغرب أن يتحول إلى فاعل استراتيجي، بفضل استثمار ذكي لتاريخه الجيو-سياسي، ولقيمه الروحية، ولموقعه كبوابة بين الشمال والجنوب.
ويبرز هذا الربط أيضا في فلسقة «الدولة الاجتماعية»، إذ لم يكن المقصود فقط إعادة توزيع الثروة، بل إعادة الاعتبار للكرامة كمفهوم سياسي واجتماعي. ذلك أن تعميم الحماية الاجتماعية، وإصلاح منظومتي التعليم والصحة «ما زال هناك الشيء الكثير للقيام به على مستوى الطموح الملكي»، فضلا عن إطلاق ورش مكافحة الهشاشة، كلها إجراءات تعيد بناء العقد الاجتماعي على أسس متينة، حيث لا يكون المواطن مجرد مستفيد من السلطة، بل شريكا فيها، وحيث تقاس شرعية الدولة بقدرتها على التمكين لا على الرعاية فقط، وهذا ورش ما زال مفتوحا وتنتظره مجموعة من التحديات بحكم البنية الاجتماعية والاقتصادية المجتمع المغربي. ذلك أن المطلوب هو مواطن مشارك في التنمية، وليس مجرد مستهلك لإجراءات اقتصادية وقرارات سياسية لا تعود عليه بالنفع المباشر.
لقد كان النموذج التنموي الجديد، بحق، تمرينا فكريا جماعيا، شاركت فيه أحزاب ونقابات وجمعيات، لبلورة تصور مغربي خاص للعدالة الاجتماعية، حيث تتفاعل فيه أبعاد الكفاءة والإنصاف والابتكار، وينظر إلى التنمية لا بوصفها ملاحقة مستنرة للنمو الاقتصادي، بل بوصفهت تحولا في أنماط إنتاج القيمة والمعنى، وذلك عبر دعم غير مسبوق للمجال الاستثماري، عبر مشاريع البنية التحتية، وتيسير مناخ الأعمال، وجذب رؤوس الأموال، وتحويل المغرب إلى منصة صناعية وطاقية واعدة، تجعل من الجغرافيا حليفا استراتيجيا للتنمية.
موازاة مع كل ذلك، نما الاقتصاد المغربي بثقة، رغم الإكراهات العالمية «جائحة كوفيد» ارتفاع الفاتورة الطاقية)، وتحول إلى فضاء جذب استثماري حقيقي، بفضل مشاريع البنية التحتية العملاقة، ومناخ الأعمال المحفز، والانفتاح على الطاقات المتجددة، والرقمنة، والصناعات الدفاعية، وصناعة السيارات والطيران، وصناعات المستقبل كالذكاء الاصطناعي والهيدروجين الأخضر.
ولأن الدولة التي تستحق هذا الاسم لا تكتمل بدون رمزيتها الثقافية والتاريخية، فقد عمل الملك محمد السادس، بشكل متدرج وعميق، على إعادة بناء سردية الوطن: حفظ الذاكرة، وتثمين التراث، واسترجاع الأرشيف الوطني، وإحياء الصناعة التقليدية، وتأهيل المدن العتيقة، وإدراج الثقافة كأداة للتنمية وليس للزينة. بهذا المعنى، أصبح التاريخ نفسه مشروعًا تنمويًا، وأصبحت الهوية الوطنية عامل وحدة ورافعة تحديث، تُصان عبر حماية التعدد الثقافي والديني، وتقوية الحضور الأمازيغي والحساني واليهودي في الفضاء العمومي، ضمن نموذج مغربي خاص في تدبير التنوع.
على المستوى العسكري والأمني، لم يبق الجيش خارج هذا المسار، إذ عرف الجيش المغربي تحديثا عميقا، لم يقتصر على اقتناء العتاد، بل شمل إعادة صياغة عقيدته الدفاعية، وجعله مواكبا للتحولات الأمنية والتكنولوجية، خاصة أن الأمن والدفاع يبنيان الآن بالجاهزية السيادية، وبالتكامل المؤسسي، وبالذكاء الاستراتيجي، ما جعل المغرب يُحسب له حسابه إقليميًا، ويُنظر إليه كشريك موثوق في الأمن والسلم. كما أصبح قطب الأمن، أحد أهم ركائز القوة الناعمة للمغرب على المستوى الدولي بفضل احترافية الجهاز الأمني المغربي وإشراقاته في مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع التطرف بشكل جعل معظم دول العالم تخطب ود المغرب في هذا الباب.
لقد استطاع محمد السادس أن يدمغ المغرب بطابعه المميز والخاص. إذ تميز عهده بالانتقال من الانفعال إلى الفاعلية، ومن الانتظار إلى المبادرة، مما انعكس إيجابا على صورة المغرب كدولة تنعم بالتوازن الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي، بل كدولة موثوقة وذات مصداقية ولها عقلها السياسي اليقظ، ولها رهاناتها التي تنتظر التحقق.
تفاصيل أوفي تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"
.png)