Monday 15 December 2025
كتاب الرأي

حميدي: حين تضعف المناعة الأخلاقية.. يمرض المجتمع وتتعطل السياسة

حميدي: حين تضعف المناعة الأخلاقية.. يمرض المجتمع وتتعطل السياسة عبد الرفيع حميدي

ليس أخطر ما يهدد المجتمعات اليوم الفقر ولا البطالة ولا حتى الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، بل ذلك التآكل الصامت الذي يصيب منظومتها القيمية ويُضعف ما يمكن تسميته بالمناعة الأخلاقية فحين يفقد المجتمع قدرته على التمييز بين الخطأ والصواب، ويتحول الانحراف إلى ممارسة عادية، يصبح الخلل بنيويًا لا عرضيًا، وتدخل الدولة والمجتمع معًا في دائرة الإنهاك.

اجتماعيًا تطبيع الانحراف وفقدان المعنى

اجتماعيًا، يتجلى ضعف المناعة الأخلاقية في مظاهر يومية تبدو بسيطة لكنها عميقة الأثر غش مبرَّر، كذب مُتسامَح معه، استغلال يُقدَّم على أنه شطارة، وانسحاب جماعي من منطق المسؤولية.

 الأخطر أن هذه السلوكيات لم تعد تُقابَل بالاستنكار، بل بالتفهُّم، وكأن المجتمع أعاد تعريف القيم وفق منطق البقاء لا وفق منطق العيش المشترك هذا التآكل لا يحدث من فراغ بل هو نتيجة تفكك تدريجي لأدوار التنشئة الاجتماعية، حيث تراجعت مؤسسات كانت تشكّل تاريخيًا صمّام الأمان الأخلاقي، دون أن تُعوَّض بأدوار جديدة قادرة على ملء الفراغ.

الأسرة من فضاء التربية إلى إدارة القلق اليومي

كانت الأسرة تاريخيًا الحاضنة الأولى للقيم، حيث تُنقَل الأخلاق بالممارسة اليومية لا بالخطاب غير أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة جعلت الكثير من الأسر تعيش في وضع التدبير بالأعصاب ضغط المعيشة، هشاشة الشغل، غياب الزمن الأسري المشترك، وتآكل سلطة القدوة داخل البيت.

في هذا السياق، تراجعت التربية الأخلاقية لصالح منطق النجاة المهم أن يمرّ الابن، أن ينجح بأي وسيلة، أن يجد موقعًا في مجتمع لا يرحم وهكذا، تُمرَّر رسائل ضمنية أخطر من أي خطاب مباشر الغش مقبول إذا كان يحمي المستقبل، الكذب مبرَّر إذا كان يُجنّب العقاب، والانتهازية تصبح مهارة حياتية الأسرة هنا لا تُنتج الانحراف عن قصد، لكنها، تحت الضغط، تُعيد ترتيب أولوياتها على حساب القيم.

الجمعيات من الفعل التربوي إلى التيه الوظيفي

كان يُفترض في الجمعيات، خصوصًا ذات الطابع التربوي والثقافي، أن تلعب دور الوسيط القيمي بين الفرد والمجتمع، وأن تُشكّل مدرسة غير نظامية لتعلّم المواطنة، التضامن، والعمل الجماعي غير أن جزءًا مهمًا من النسيج الجمعوي وجد نفسه، في السنوات الأخيرة، عالقًا بين التبعية التمويلية والفراغ التصوري.

تحوّل العمل الجمعوي عند البعض إلى إدارة مشاريع تقنية، تُقاس بالصور والتقارير أكثر مما تُقاس بالأثر القيمي ومع غياب رؤية تربوية واضحة، وانشغال الفاعلين بالصراع حول الموارد والتموقع، ضاع البعد الأخلاقي لصالح منطق الإنجاز الشكلي و الأسوأ أن بعض الجمعيات كرّست، دون وعي، نفس السلوكيات التي يُفترض أن تحاربها الزبونية، الإقصاء، واستغلال العمل التطوعي لأغراض شخصية أو رمزية.

المدرسة مؤسسة تعليم بلا تربية

أما المدرسة، فقد وجدت نفسها محاصَرة بوظيفة تعليمية ضيقة، تُختزل في الامتحان والنقطة والترتيب، بينما تآكل دورها التربوي والقيمي المناهج مثقلة بالمضامين، الأساتذة مُنهكون، والإدارة مطالَبة بتحقيق أرقام لا ببناء إنسان.

في هذا السياق، تنفصل المعرفة عن القيم، ويصبح النجاح الدراسي هدفًا تقنيًا لا مسارًا أخلاقيًا يُعاقَب المتعلم إذا فشل، لكنه لا يُساءَل أخلاقيًا إذا غش بل أحيانًا، يُكافَأ ضمنيًا حين ينجح بأي وسيلة المدرسة هنا لا تُنتج القيم المضادة، لكنها تفقد قدرتها على ترسيخ القيم المشتركة، وتترك المتعلم وحيدًا أمام فضاء رقمي يُعيد تشكيل وعيه دون بوصلة.

 

فراغ قيمي ونماذج بديلة مشوّهة

حين تتراجع الأسرة، وتتيه الجمعيات، وتُفرغ المدرسة من بعدها التربوي، لا يبقى الفراغ فراغا بل تملؤه نماذج رقمية تُقدّم النجاح السريع، الثروة بلا جهد، والشهرة بلا مسؤولية وهنا، يغدو السؤال الأخلاقي عبئًا ثقيلًا في عالم يكافئ الضجيج أكثر مما يكافئ الاستقامة.

سياسيًا أزمة قدوة واختلال الشرعية

سياسيًا، لا يمكن عزل ضعف المناعة الأخلاقية عن أزمة القدوة التي باتت تطبع الفضاء العمومي، حيث يتسع الفارق بين الخطاب المعلن والممارسة الفعلية فعندما يلاحظ المواطن أن معايير الاستحقاق تُستبدل بمنطق التقريب، وأن الفرص تُفتح أساسًا أمام دائرة المقرّبين لا أمام الكفآأت، تتحول القيم السياسية من مرجع ناظم إلى شعارات للاستهلاك.

في هذا السياق، لا تعود المحاسبة مبدأً عامًا، بل آلية انتقائية، تُفعَّل حينًا وتُجمَّد حينًا آخر، وفق ميزان النفوذ لا وفق ميزان القانون ويغدو القرب من مراكز القرار حصانة غير معلنة، تُعفي أصحابها من المساءلة، وتمنحهم هامشًا واسعًا لتجاوز القواعد دون كلفة سياسية أو أخلاقية.

السياسة، في جوهرها، ليست مجرد تدبير للمصالح أو توازن للقوى، بل هي قبل كل شيء إنتاج للثقة بين الدولة والمجتمع وحين تُختزل هذه السياسة في شبكات الولاء والعلاقات، تتآكل الثقة تدريجيًا، ويصاب الفعل السياسي بالجمود، وتفقد المؤسسات قدرتها على الإقناع، حتى وهي تمارس سلطتها كاملة.

أمام هذا الواقع، لا يبدو العزوف السياسي، ولا اللامبالاة، ولا حتى التمرّد الصامت، سلوكيات شاذة أو غير مسؤولة، بل ردود فعل مفهومة على سياق لا يكافئ النزاهة، ولا يفتح المجال أمام الكفاءة المستقلة، ولا يحمي الاستقامة باعتبارها قيمة عمومية وهكذا، تتحول الأخلاق السياسية من التزام جماعي إلى عبئ فردي، يدفع ثمنه من يختار الوقوف خارج دوائر القرب والامتياز.

الدولة والمجتمع مسؤولية مشتركة

ضعف المناعة الأخلاقية ليس مسألة قيمية معزولة، ولا خللًا سلوكيًا فرديًا، بل هو قضية سياسية بامتياز، لأنه يمسّ في العمق أسس العقد الاجتماعي فحين تعجز الدولة عن حماية القيم عبر العدل وتكافؤ الفرص، وحين يصبح القانون أداة شكلية لا روح لها، يُفتح المجال واسعًا أمام منطق الانتهازية باعتباره الطريق الأقصر للنجاة وفي المقابل، حين يتخلى المجتمع عن آليات الضبط الأخلاقي الذاتي، يُفرَّغ القانون من معناه، ويُختزل الامتثال له في الخوف لا في الاقتناع.

غير أن المسؤولية هنا غير متكافئة فالدولة، بما تمتلكه من سلطة ورمزية، تتحمّل القسط الأوفر من هذا الانهيار القيمي إذ بدل أن تستثمر في بناء مواطن متأمّل، ناقد، وقادر على طرح السؤال، تميل في كثير من السياقات إلى إنتاج نماذج مطواعة، تُجيد التكيّف أكثر مما تُجيد التفكير وهو ما عبّر عنه السوسيولوجي الكبير الراحل محمد جسوس بمرارة حين حذّر من خطر السعي إلى خلق جيل من الضباع، جيل يتغذى على الفرص السهلة، ويتعايش مع الافتراس الرمزي، وأن الأخلاق لا تصلح في عالم غير عادل.

في هذا المناخ، لا تعود الأخلاق قيمة جامعة، بل عبئًا فرديًا، يُطالَب به الضعفاء دون الأقوياء، ويُحتفى به في الخطاب ويُقصى في الممارسة وهنا، تفقد القيم قدرتها على التنظيم، وتتحول السياسة إلى إدارة أعطاب لا إلى مشروع جماعي

المعالجة، إذن، لا يمكن أن تكون عبر المواعظ الأخلاقية ولا عبر حملات موسمية تُخاطب الضمير دون أن تُغيّر الشروط الموضوعية إنها تقتضي إعادة الاعتبار لثلاثية حاسمة القدوة، والمساءلة، والعدالة

 دون قدوة في أعلى الهرم، تصبح الأخلاق عبئًا على القاعدة ودون مساءلة حقيقية، تتحول القيم إلى شعارات بلا أثر ودون عدالة اجتماعية، يُدفَع الأفراد إلى تبرير انكساراتهم أخلاقيًا، لا لأنهم بلا قيم، بل لأن الواقع يعاقب من يتمسّك بها

بهذا المعنى، فإن معركة الأخلاق ليست معركة وعظ، بل معركة سياسة عمومية، واختيار مجتمعي بين دولة تُنتج مواطنين أحرارًا، ودولة تكتفي بإدارة السلوك عبر الخوف والتطبيع مع الرداء

خاتمة الأخلاق كشرط للاستقرار

في النهاية، لا يمكن لسياسةٍ أن تستقيم داخل مجتمعٍ مريضٍ أخلاقيًا، كما لا يمكن للأخلاق أن تصمد طويلًا داخل سياقٍ سياسي مأزوم فالمناعة الأخلاقية  ليست خطابًا مثاليًا معزولًا عن الواقع، بل هي شرطٌ أساسي للاستقرار، ولأي تنمية ذات معنى، ولإحساس جماعي بالانتماء والكرامة

وحين ندرك هذه الحقيقة، يصبح واضحًا أن إصلاح الأخلاق ليس مهمة الوعّاظ ولا شأنًا فرديًا يُلقى على كاهل المواطنين وحدهم، بل هو مسؤولية سياسية ومجتمعية مشتركة. مسؤولية دولة تُجسّد القيم في سياساتها، ونخب تتحمّل واجب القدوة لا تبرير الأعطاب، ومؤسسات تُعيد الثقة عبر العدل والمساءلة، ومجتمع يستعيد شجاعته في الدفاع عن المعنى.

دون ذلك، سنظل ندور في حلقة مفرغة خطاب أخلاقي مرتفع، وواقع يُكافئ الرداءة، وسياسة تُدير الأزمات بدل أن تُنتج الأمل وفي هذا الفراغ، لا ينهار السلوك فقط، بل ينهار الإيمان بإمكانية الإصلاح ذاته.