
عندما يخلو المرء للحوار مع ذاته رغبة في تقييم حضوره بين متطلبات العيش وطموحات الولوج إلى الحياة والإسهام في صناعتها، كثيرا ما يستند في التقييم على رصد المحطات المختلفة للواقع المعيش وما تطرحه من تحديات وقد يغرق في روتينه اليومي دون اكتراث بالزمان كنسق فعال في كينونته الحيوية، والذي يتطلب التوظيف الدقيق في تطورها ولا يقبل التوقف أو الادخار.
لكن التربية على الحس النقدي والتمرس على بناء الثقة في الذات والتحضير على بناء الشجاعة العاطفية والتركيز على النمو العاطفي وتوظيفه في التحضر الاجتماعي والوئام الأسري والانفتاح على الاختلاف الثقافي والإيديولوجي والإثني، وتوظيف التنشيط في تأمين العناية النفسية والاجتماعية والتحصين ضد الإرهاق والضغوط، واستخدام التكنولوجيا في تحرير الإنسانية وازدهارها الحضاري وامتلاك اقتدارات ومهارات الإسهام في تدبير الحياة العامة والمشاركة في قيادتها، والعناية بالمواهب والهويات والميولات والاتجاهات في العمل التربوي والتركيز على مقوماتها في صياغة المقاربة الإعدادية والتأهيلية والتمكينية، أمور من الصعب استحضارها واعتمادها في السياسات العمومية وما تفرزه مناهج ومقررات في غياب الاكتراث بالإدراك العلمي للفرد الإنساني. وهي حالة سائدة في الكثير من المجتمعات القائمة على قواعد الضبط والتأديب، ولا تكترث بالإبداع والإنجاز وتوظيف العلوم والتكنلوجيا في التمكين الإنساني بكل أبعاده الشخصية والتوجيهية والتأهيلية والإنتاجية والحضارية.
في السنوات المتراوحة ما بين 1988 و1997 سمحت لي الأقدار وشرفتني بنعمة مجالسة شخصية من أرقى الشخصيات التي أسهمت في فك معاناتي الشخصية، ويسرت المصالحة مع الذات والحرص على تحريرها وتقوية استقلاليتها وإدراك مدى جسامة المسؤولية التي تتحملها.
لقد أتاحت هوامش الملتقيات الوطنية للشباب التي كانت عبارة عن جامعة مفتوحة لفائدة شابات وشباب الجمعية المغربية لتربية الشبيبة فرص اللقاء إلى جانب الأساتذة الجيلالي الزياني، رئيس مصلحة المخيمات أنداك، والأستاذ محمد الريح رئيس قسم الطفولة، والأستاذ محمد خليدي والذي كان أنداك ورئيس المركز الوطني للتخييم بالهرهورة. العديد من اللقاءات مع الأستاذ سيدي محمد الحيحي رحمه الله كانت جلسات كنت أحرص على حضورها في هوامش الجلسات التلقائية التي كانت بالنسبة لي بمثابة علاج الصعوبات التواصلية والتحفيز على المعرفة والتحرر من الشوفينية، وإدراك التحديات التي تواجه كل فرد بيوعصبي أراد الانتقال إلى ذات حرة راشدة كانت جلسات تفاعل في أحضانها التربوي بالاجتماعي والثقافي والسياسي والحقوقي، لكن بأنفاس الحركة الوطنية التقديمة الصادقة. كان الرجل رحمه الله يمتلك رؤية متجددة تتغدى بالحرص على التعلم الذاتي اليومي، وهي أساس التميز الذي تتصف به كينونته الحيوية المفكرة بالإنسانية التواقة إلى إعمال الفعل الجمعوي بكل أبعاده التربوية والحقوقية والبيئية في المحيط الإنساني السوسيوثقافي والاقتصادي.
إن الحديث عن الراحل سيدي محمد الحيحي بالنسبة لي هو حديث عن درس تربوي وسياسي وحقوقي، بالإضافة إلى كنهه الديني والأخلاقي. إنه الدرس المثقف على المرونة والحرص على التركيز على ما تحتاج إليه الإنسانية عبر التوظيف الجيد للتفكير ودراسة القضايا بعناية وبقدرات تواصلية فعالة قائمة على الثقة كأساس للدينامية المبدعة والفعالة من خلال نسج العلاقات الإيجابية مع الأغيار والمفعمة، واعتماد الأليات السلسة في معالجة النزاعات وانتقاء المفردات العلاجية والإيحائية والحميمية والتحفيزية في توجيه الملاحظات.
إن درس الحيحي في شأن التمكين الإنساني يفرض على من يريد تكليف ذاته بالمشاركة في هذه المهمة الزواج الأبدي بالمعرفة المتجددة المؤمنة للقدرة على التفكير والتشخيص والتحليل والتفسير والتنبؤ والقدرة على المشاركة في القيادة، وفي صياغة القرار السليم والإعمال الصحيح له على قاعدة تطابق الأقوال مع الأفعال. فدرس الحيحي رحمه الله يفرض عليك متابعة ما التزمت به أمام الأخرين والوفاء بالوعود التي قطعتها لهم في أقصى نطاق الاستطاعة من خلال بناء الشجاعة العاطفية المبنية على امتلاك مهارات الإنصات، والمواجهات الحوارية المباشرة القائمة على الإيجاز والوضوح والتقييم الذاتي أو ردود الفعل والقدرة على تدبير الانفعال عبر التطور المعرفي والتمرس والتمرن على بناء الشجاعة العاطفية، وتوظيف ذلك في النهوض بالذات والإسهام في تطور رفاق الدرس وزملاء العمل، وفق ما يناسب كل فرد اعتمادا على الإدراك الجيد للفروق الفردية بينهم وصياغة الأسلوب المناسب للإسهام في تطوير قدراته ومهاراته. وهذا يحتاج إلى التدقيق والمتابعة والتقييم الموازي والمهاماتي بمنهجية علمية مناسبة وناجعة وإبراز الفرص والدعامات التطويرية المستقبلية التي يجب تأمينها لكل فرد منهم.
إنه درس الأستاذ محمد الحيحي -رحمه الله- من الحث على التفاعل المستمر مع الرفاق والزملاء والمرتفقين والأغيار، والذي يساعد على الوصول إلى الشكل الأمثل للنجاح بالنسبة لهم ويطمئنهم على الفاعل يخبر الأسلوب المناسب لنجاحهم فرديا وجماعيا معرفيا وعلميا تنظيمي وإنتاجيا. فلكي تكون كيانا ديناميا متحضرا قادرا على الإسهام في تصنيع الحياة والمشاركة في قيادتها حسب الأستاذ محمد الحيحي يجب أن تمتلك حصون التمنيع ضد القلق الذي تفرزه الصدمات التي تطال الحياة العامة والخاصة التي تحجب المرء عن الناس والتفكير والعمل من أجل إسعادهم؟ فعبر الفعل الجمعوي التربوي يستطيع المرء صنع المناخ الميسر للانتقال الذهني والنفسي والسوسيوثقافي واستثماره في تحويل التوترات والنقائص إلى حوافز تساعد على التقارب والتكامل وتعمق المدارك بشأن خلفيات الصدمات وتقلص حدة ما تفرزه من قلق، لأن المناخ الجمعوي الجاد هو المرأة الصادقة التي تعكس المشاعر وترقي أواصر تجاوز الصدمات، لأن أساس الحياة في نظر الأستاذ سيدي محمد الحيحي يقوم على قواعد التفكير بالواجب. وهذا يتطلب الفعل التربوي المذهل وليس ما يسمى بالتربية الضابطة أو المؤقلمة أو الكيفية أو الدامجة، لأن الأمر في نظره يحتاج إلى ذات مبدعة وقادرة على الإنجاز. وهذه هي رسالة الفعل الجمعوي المذهل الذي يرفض حصار الفرد الإنساني في خانة الاستهلاك والتبعية والتقليد والمرؤوسية، بل يصر على تيسيير ارتقاء كينونته وفق معايير التطوير والتمكين الإنساني، ومنها التأمل والدراسة والمشاركة والتواصل والإبداع، انطلاقا من أبسط الخطوات.
ففي برامج الفعل التربوي المذهل يتم التمرين على تلائم بشكل تدريجي توازى مع كافة أبعاد التمكين الأخرى، بدأ بأقصر قيمة زمنية وأبسط قاعدة معرفية وأسهل حرف لغوي وأيسر رمز رياضي أو شكل هندسي، يتم ذلك عبر أنشطة حسية أو حركية أو اجتماعية أو بيئية أو صحية أو ثقافية وخضوع ذلك التقييم ورصد مستوى الرقي الذي يحرزه الفرد ونوعية الأثار التي يخلفها في بناء شخصيته ونطاقات علاقاته.
إن التربية على سلسلة من المشاريع أساسها الدستور الشخصي، الذي يعتبر أساسا لكل تعاقد أسري أو مهني أو اجتماعي أو مجتمعي، وهناك تبدو نظرة أستاذنا الفاضل رحمه الله بأن المجتمعات لا تقوم على قوانين الضبط والتأديب، بل تتأسس على مقومات الذوات الحرة المستقلة القوية على صياغة الدستور المجتمعي عبر الحوار المجتمعي. وهذا موضوع أخر جدير بالكتابة عن الفكرة الدستورية لدى الأستاذ الحيحي. لكن درس أستاذنا في ديناميكيته التربوية والسوسيوثقافية لا يبنى أعماله على السلوكية أو التحليلية ولا يقبل بأفكار ماكارينكو التعليمية، ولكنه يركز على الكينونة الحيوية للفرد الإنساني ويدعو إلى إدراك أنساقها البيوعصبية والنفسية والاجتماعية والثقافية والبيئية والزمانية، والانطلاق منها في صياغة الفعل التربوي غير ما يسمى بالدعم الاجتماعي والاشتغال على تقوية فاعلية الذاكرة التي لها في التغيير النهائي وفي الاختلافات الموجودة في داخل الفرد وفيما حواليه، ثم تبيان وتدقيق مفهوم التطور الشخصي بالتركيز على التمييز بين الإنجازات العامة والخاصة في أي مجال، وهو ما ينسجم مع التوجهات الجديدة للمقاربة المعرفية في التطور التي تقول بضرورة ضبط انتباهنا وإدراكها للتطور المعرفي الذي قد يميل نحو العمومية ووفق مراحل متعارف عليها في حياة الفرد.
بالرغم من أن سيدي محمد الحيحي رحمه الله لم يترك مؤلفات، لأنه كان فاعلا تربويا ميدانيا، فإن القراءة العلمية لممارساته التربوية تعطي للباحث إشارات قوية على الحضور المتميز لتوجهاته التربوية التي لم تكن قائمة على الارتجال أو التقليد، ولكنها تستمد شرعيتها من أجل الأعمال العلمية المتخصصة في علوم التربية. فكان يعتني كثيرا بالتربية المعرفية القائمة على قاعدة تحويل فضاءات التخييم التربوي والملتقيات السوسيوثقافية للشباب إلى فرص تمكين الفرد من كيف يتمكن، وهي فكرة أو ما يسمى بلغة السيكولوجيا بالعمر العقلي دسوريل Sorel.M، التي تندد بالتوجهات التنميطية القائلة بثبات الذكاء فيدعو إلى البحث المستمر في مدى مصداقية مرونة القدرات المعرفية التي تعني بأن ذكاء فرد إنساني معين ليست قيمة ثابتة تجعله متميزا أيا كان العمر والأسلوب التربوي الذي يعتني به، بل هناك على العكس ضرب من المرونة التي تفسح لنا التدخل وتجعل الإطارات المفاهيمية التي نتبناها دون أي شك من قابلية التربية على التمكين الذي يجمع المناهج والبرامج المختلفة، والتي تتيح تشجيع مفعولات التدخلات المقترحة أو تطويرها أو تقلصها أو تنحيتها، مع تأكيده دائما على العناية بالأطفال والمراهقين والشباب يتطلب فعلا تربويا ومعرفيا يقوم على الانتقائية من حيث ما يهم تغذيتها من الاجتهادات السيكولوجية. فالأعمال التي لها مرجعيات علمية متجددة أعمال قليلة، لكن الندرة قد تطال البرامج التي تحتكم لتقييم محتوياتها وأساليب إنجازها وما تصل إليه من نتائج وأساليب إنجازها وما تصل إليه من نتائج وما تخلفه من أثار في شخصية الفرد الإنساني كشريك أساسي في الفعل التربوي، وليس مستهلك أو مجرد مجموعة من الأشياء يتم الاشتغال على تشكيلها.
إن التفكير في الحديث عن أغراض الفكر التربوي لدى الأستاذ محمد الحيحي رحمه الله هو فرص كثيرة أمام البحث العلمي لكل من يتطلع إلى رصد واقع التربية والتطلعات إلى توظيفها في التمكين الإنساني الذي يقوم على الانتباه الذي يعني قدرة الفرد على المراقبة وتكوين الاتجاه واختياره للأسلوب من أساليب الفاعلية إبان فترة زمنية محددة، وذلك على فاعليات متعددة وتقع على أصعدة متباينة فسيولوجيا وسيكولوجيا.
فالفعل التربوي سواء في الأحضان الأسرية أو داخل الفصول المدرسية أو في رحاب الفضاءات السوسيوثقافية والتربوية، يجب أن يركز على الإدراك والتشخيص والتحليل وتفسير المعطيات الحسية والحركية والمحيطية بالإضافة إلى المعطيات الذهنية. ففي الممارسة التربوية ذات المنحدر الجمعوي التربوي يستطيع القيمون على الفعل التربوي عبر الألعاب التركيزية وعلاج وتأهيل الحاسة السمعية والذوق الفني من خلال قدرة الفرد على كشف نغمة في قطعة موسيقية وإنماء الثروة اللغوية.
وكان رحمه الله يرى بأن الورش الوطني الكبير، مشروع طريق الوحدة، ليس مجرد بناء طريق ييسر الانتقال من منطقة إلى أخرى داخل الوطن، بل مشروع للنهوض الفكري والعلمي السوسيوثقافي للمغرب. إن طريق الوحدة هي مذهب للتربية على التمكين الإنساني المبدع والقوي على الانتقال بالمرء من خانة الفرد إلى رحاب الذات الحرة الراشدة، والانتقال بالمجتمع من متاعب البحث عن سبيل للعيش إلى أفاق الولوج إلى الحياة والإسهام في تصنيعها، والمشاركة في قيادتها. إنها كانت رؤية تصبو إلى تحرير المغرب من مناخ الضبط والتأديب إلى حياة الإنجاز والإبداع والاختراع، إنه الحلم التواق إلى انتقال المغرب من هيمنة النخب إلى قيادة الذوات الحرة الراشدة. إن القرارات المتأنية لإنجازات الأستاذ سيدي محمد الحيحي تجعل الباحث أكثر حماسة للمزيد من الاطلاع على عطاءات شخصية تمثل جيلا أجهضت أحلامه على درب التحرر الإنساني القائم على المعرفة والعلم والإنجاز الحضاري المتجدد. فهل نستطيع تيسير السبل أمام الأجيال الجديدة لإدراك توجهات الصدق والخلاص للقيم الإنسانية التي أطرت شخصية الأستاذ سيدي محمد الحيحي، والتي تعبر عن طموحات ما أحوج الإنسانية لها في الراهن القطري والعالمي؟
إن التنظيم الجمعوي الذي وظفه الأستاذ الحيحي للقيام بواجباته نحو الله أولا وأمام كافة المخلوقات مناضلا من أجل التمكين الإنساني، هو تنظيم جمعوي مدني متخصص في التربية، إنه الجمعية المغربية لتربية الشبيبة. وليس الجمعية المغربية للشبيبة، فهل نستطيع كباحثين وكفاعلين جمعويين التناظر العلمي والاشتغال العملي القائم على الفعالية ليس بأنفاس جيل الأستاذ محمد الحيحي، ولكن بهمم أقوى على تأمين حضور الفعل المدني الجمعوي الحريص على صيانة الكنه التربوي والحضاري لطريق الوحدة كأداة من أدوات التمكين الإنساني وركن من أركان التطور المجتمعي؟
إنه الحلم الذي يستدعي المزيد من البحث العلمي يحمله كل من عرف أو اشتغل أو تربى وتنشأ في ظل عطاءات الأستاذ محمد الحيحي، وتفاعل مع ديناميكيته الصادقة والمتحررة من كافة صنوف الضيق الحزبي أو الإثني أو الإيديولوجي.
هذه الورقة هي مجرد ثقب ضيق للاطلاع على بعض ملامح شخصية هذا المربي المذهل الذي لا يحتاج التكريم أو حتى الوفاء لروحه الطاهرة، ولكن نحن والأجيال الصاعدة الذين في حاجة إلى إدراك فكر الأستاذ سيدي محمد الحيحي في ظل اشتداد العوائق واستتباب لهايات التسلية والتربية على الثقافة والتثقيف على امتداح الاحتلال والدعوة إلى تقليده.
عبد الله أبو أياد، أستاذ التعليم العالي