ليس من نافلة القول أن تُقام في قلب تاونات، تلك البلدة الوديعة التي تنام على حضن الجبال، الدورة الثالثة عشرة من المهرجان الوطني لفنون العيطة الجبلية، بين 22 و24 ماي 2025، تحت رعاية الملك محمد السادس، وبشراكة بين وزارة الثقافة والشباب والتواصل، وعمالة إقليم تاونات، ومجلس جهة فاس- مكناس، والمجلس الإقليمي لتاونات، وجماعة تاونات، ووكالة إنعاش وتنمية الشمال، ومجموعة من الشركاء الإعلاميين والمؤسساتيين.
إنه أكثر من موعد فني عابر، بل لحظة من لحظات الاستعادة الرمزية لما انطمس في الذاكرة، ونداءٌ صارخٌ من أعماق الجبل يردد: ها نحن هنا، نغني للكرامة، للتراب، للهوية، ولذاك الزمن الذي لم يُختزل يوما في نشرة أخبار أو علبة موسيقى مصنّعة.
العيطة الجبلية ليست مجرد غناءٍ فلكلوري تقليدي، إنها سرديةٌ شفوية كثيفة، خرجت من أعماق الجبال الشمالية للمغرب، من كهوف قبائل بني زروال، وبني سريف، ومصمودة، وبني كرفط، ووزان، والشاون، وغيرها من المناطق والقبائل الجبلية التي حفظت سرها في صمت الصخور وجفاف المواسم. هي شكل تعبيري موسيقي استثنائي، يقوم على نبرة مرتفعة، وجملة موسيقية قصيرة ومكرورة، تستدعي فيها الشاعرة أو الشاعر الجبلي معاناة الحياة، والحنين، والهجرة، والغربة، والعشق، والحرمان، والمقاومة أيضا.
فمن يتأمل "العيطة" لا يلبث أن يدرك أنها مرآة للروح الجبلية، المتغطرسة والنبيلة في آن، التي لا تهادن ولا تساوم، لكنها تتألم وتبوح وتتشظى.
ومن حيث الشكل، فإن العيطة الجبلية تختلف عن العيطة الحصباوية، أو المرساوية، أو الخريبكية، أو الزعرية، لا فقط في طابعها الإيقاعي، وإنما في أدواتها النطقية وجمالياتها المتوترة. ففي حين تميل بعض العيوط إلى الليونة والتنغيم، تظل العيطة الجبلية خشنة، متوترة، كأنها انبثقت من تضاريس وعرة لا ترضى بالانسياب السهل، وتحاكي بنبرتها تضاريس المكان، ولُحمة القبيلة، وشراسة المناخ الجبلي. هي ليست للزينة ولا للمجالس الناعمة، بل للحكي الصادق في الليالي الطويلة، ولإيقاظ الضمير الجمعي حين يغفو على وسادة النسيان.
تاريخ العيطة الجبلية ليس مكتوبا في دفاتر المدارس ولا محفوظا في أرشيف الإذاعات الرسمية، بل محفوظ في حناجر الأشياخ والشيخات الذين جابوا الأسواق والمواسم، وحكوا بطريقتهم تاريخا بديلا للجهات المهمشة. من بين هؤلاء الرواد، يبرز اسم الحاج محمد العروسي، شيخ العيطة الجبلية، الذي لا يزال صوته يجلجل في ذاكرة السهول والجبال، وجعل من الزكرة والغيطة والدفوف لغة بديلة لما عجزت عنه القصائد المكتوبة.
العروسي لم يكن فقط فنانا، بل مرآةً لفئة اجتماعية صامتة، جعلت من الإيقاع قوة وجود في عالم لا يعترف إلا بالصرعة.
ولئن كان للعيطة الجبلية من أفق اليوم، فإن مهرجان تاونات شكل منذ انطلاقه أرضيةً للمصالحة مع هذا التراث المتفرد. فبين دوراته المتتالية، كان يعيد الاعتبار للأصوات التي حوصرت بالتجاهل، ويوفر فضاءً لتبادل الأجيال، وتوثيق هذا الفن الغني بمضامينه، وبقدرته على التجدد من دون أن يفقد جيناته الأصلية. وهو بذلك لا يكتفي بالعرض بل يتجاوز إلى التوثيق، والبحث، والمساءلة الفنية والجمالية.
والمثير في العيطة الجبلية، أنها وإن انبثقت من وسط جبلي قاسٍ، فإنها تحمل بعداً كونيًا في معانيها، حيث تُعلي من قيمة الصدق، وتُدين الخيانة، وتحتفل بالمقاومة، وتحاكي فلسفة البقاء في وجه الطبيعة القاسية والسلطة الظالمة. إنها صوت من لا صوت له، تواطأ معه المنسيون لكي لا يُنسى.
ومن هذا المنطلق، فالعيطة ليست فولكلورا للتسلية، بل وثيقة شفوية، وصرخة ضد التهميش، وحكاية لم تُكتب بعد.
هذا المهرجان، إذ ينطلق في تاونات، يوقظ الجبل من سباته، ويعيده إلى مقامه الرمزي كخزان للذاكرة، وكمساحة للقول النبيل، حيث الغناء ليس مهنة، بل شهادة وجود. وتاونات، في هذا السياق، لم تكن يوما مجرد موقع جغرافي، بل حاملة لهذا التراث، ومستودع لأسراره، ومهد لرجاله ونسائه الذين عبدوا طريق النغمة وسط الوعر، وكتبوا بالعيطة فصلا من فصول التاريخ الشفوي المغربي.
إن حضور العيطة الجبلية في المشهد الثقافي اليوم ليس ترفاً، بل ضرورة لحماية الذات من فقدان صوتها الأصلي، ولعل هذا المهرجان لحظة من لحظات الاسترجاع، حيث تصعد الذاكرة من الأعماق لتصرخ في وجه الصمت: أنا هنا، لم أمت، ما زلت أغني.